مقدمة
تشكل منطقة الساحل مركباً أمنياً بالغ التعقيد والتشابك، حيث تحتضن العديد من الجماعات الإرهابية الأسرع تمدداً والأكثر عنفاً في العالم. وتواصل هذه الجماعات مثل داعش والقاعدة وبوكو حرام حملة تنفيذ استراتيجياتها العنيفة في المنطقة، حيث شكلت الوفيات في منطقة الساحل 35٪ من إجمالي الوفيات الناجمة عن الإرهاب في العالم في عام 2021، مقارنة بنحو 1٪ فقط في عام 2007 وذلك طبقاً لمؤشر الإرهاب العالمي. ولعل هذا التمدد والانتشار الإرهابي يعكس في أحد دلالاته عقم الاستجابات الدولية والإقليمية للعنف وفشلها في التصدي لارتفاع معدلات الإرهاب، والتي تفاقمت بفعل بعض العوامل الاجتماعية والاقتصادية مثل ارتفاع معدلات النمو السكاني في المنطقة، والزيادات الكبيرة في انعدام الأمن الغذائي وتزايد أعداد النازحين والمشردين على نطاق واسع.
لقد ازدادت الوفيات والحوادث في كل دول المنطقة باستثناء موريتانيا وتشاد، وسجلت كل دولة في الساحل بخلاف موريتانيا وتشاد ما لا يقل عن 40 حالة وفاة بسبب الإرهاب في عام 2021. وكان إجمالي الوفيات المسجلة في عام 2021 في كل من بوركينا فاسو ومالي والنيجر 732 و574 و588 على التوالي.
وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، شهدت بيئة الإرهاب في منطقة الساحل عدة تحولات فارقة، حيث ظهرت مجموعات إرهابية جديدة، واندمجت أخرى، وتكيفت مع عمليات مكافحة الإرهاب والتمرد على المستويات الوطنية والإقليمية والدولية. وقد أدى ذلك إلى نجاح هذه الجماعات الإرهابية العنيفة في تجنيد قطاع الطرق في دول الساحل وغرب أفريقيا مثل نيجيريا وبوركينا فاسو، وهي عملية أطلق عليها هاني نصيبيا* من قاعدة بيانات أحداث موقع النزاع المسلح (ACLED) "جهاد قطاع الطرق" أو جهاد اللصوصية. إذ يجادل نصيبيا بأن الجهاديين قد يقدمون أكثر من مجرد المال أو الأسلحة للمجرمين من منظور قطاع الطرق المسلحين، ويمكن أن يكون حشد الجماعات الإسلامية المتشددة أيضاً وسيلة لتبرير النهب والسرقة "أخلاقياً" باعتبار ذلك جزء من قضية أكبر، حيث تتطلع الجماعات الإجرامية إلى استخدام الدين للدفاع عن أفعالها الإجرامية. فلم يكن مستغرباً قيام بعض الجماعات بالانضواء تحت راية القاعدة أو داعش، وهو ما قد يفسر أيضاً زيادة معدلات العنف في المنطقة.
ونظراً لطبيعتها الجيوسياسية والاجتماعية وحدودها التي يسهل اختراقها، يتمتع القادة المحليون لجماعات العنف والإرهاب في منطقة الساحل باستقلالية معتبرة؛ حيث يصبح بمقدورهم اتخاذ قرارات محسوبة بشأن تحديد المواقع المستهدفة وتوقيت الهجوم. ونظراً لمنهجهم النفعي فإنهم يظهرون استعداداً أكبر للتفاوض أو تغيير الولاءات، لأن هدفهم الرئيسي هو البقاء.
هذا النوع من البراغماتية يمارسه أيضاً قادة اللصوصية وقطاع الطرق، الذين يتعاونون مع الإرهابيين حتى في مواجهة بعض العصابات المنافسة. ولعل إضفاء هذا الطابع المحلي على الشبكات الجهادية المعولمة يترك آثاراً سلبية على البيئة الأمنية، حيث يبدو المتغير الأيديولوجي لدى القادة المحليين مجرد غطاء للاستفادة من الشبكات الجهادية العابرة للحدود الوطنية. وعليه، فإن هذا النهج الجديد لجماعات العنف يشير إلى حدوث تحول كبير في التفكير الاستراتيجي الجهادي، حيث كان التزام الجهاديين تاريخياً بالنقاء الأيديولوجي في سبيل الوصول إلى دولة الخلافة.
هذا التحول البراغماتي يستلزم تغيراً في خطاب مقاربات محاربة الإرهاب في الساحل. واستناداً إلى ذلك، تسعى هذه الدراسة إلى تقويم جهود محاربة الإرهاب وما يحيط بها من صعوباب وتحديات.
الاستجابات الإقليمية والدولية
أدت التحديات السائدة التي واجهتها دول الساحل في مواجهة الجماعات الإرهابية المتطرفة إلى طلب العون والمساعدة من القوى والمنظمات الإقليمية والدولية. كما أدركت هذه الدول المتضررة من العمليات الإرهابية أيضاً أنه، نظراً لسهولة تنقل الجماعات المتطرفة عبر الحدود كان من الضروري أن تلتزم بتعزيز التعاون الدولي من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية والعمليات المشتركة. أدى ذلك إلى تشكيل أطر ومؤسسات أمنية عبر وطنية، من أهمها ما يلى:
1- مجموعة دول الساحل الخمس (G5)، والتي تتألف من مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، وتشاد، وموريتانيا. وقد ظهرت هذه المنظمة إلى حيز الوجود في 16 فبراير 2014 حيث أدى تشكيلها على الفور إلى تفعيل القوة المشتركة لمجموعة دول الساحل الخمس بقصد مكافحة التطرف العنيف والاتجار غير المشروع في منطقة الساحل. كان محور عملياتها هو مثلث ليبتاكو-غورما، نظراً لموقعه الاستراتيجي الذي يمثل نقطة ارتكاز أنشطة التطرف والاتجار غير المشروع في المناطق الحدودية للنيجر ومالي وبوركينا فاسو. وقد ركزت هذه المنظمة الإقليمية منذ إنشائها، إلى حد كبير، على عمليات مكافحة الإرهاب إلى جانب أنشطة الجريمة المنظمة والاتجار بالبشر السائدة في المنطقة. ومن المعروف أيضاً أن مجموعة دول الساحل الخمس تتلقى دعماً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في شكل لوجستي ومالي وبناء القدرات، لتعزيز دورها في مواجهة الجماعات الإرهابية والحفاظ على الاستقرار في المنطقة. ومن خلال هذا التعاون المشترك، حققت مجموعة الساحل الخمس نجاحاً نسبياً في إعادة السيطرة وتقليل الوجود الإرهابي في منطقة ليبتاكو-غورما، لكن هذا الإنجاز المحدود يمثل مجرد نقطة في محيط من التعقيدات الأمنية التي تتطلب المزيد من الاستجابات التعاونية من مجموعة دول الساحل الخمس.
2- قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات (MNJTF)، وهي محاولة من دول حوض بحيرة تشاد - الكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا – لتوحيد الجهود والموارد ضد الإرهابيين الذين يهددون البلدان الأربعة. أنشأت دول بحيرة تشاد، بالإضافة إلى بنين، هذه القوة في شكلها الحالي في أواخر عام 2014 وأوائل عام 2015. وقد بلغ عدد القوات المشتركة ما يزيد قليلاً عن 8000 جندي. أجاز الاتحاد الأفريقي القوة في 3 مارس 2015 وتوخى أن تتولى هيئة شبه إقليمية، لجنة حوض بحيرة تشاد، الإشراف المدني. وأنشأت القوة المتعددة المهام المشتركة إطاراً متعدد الأطراف مهماً للغاية لمحاربة متمردي بوكو حرام، الذين يشنون هجماتهم عبر الحدود. نفذت القوة المشتركة عمليات دورية، غالباً ما شارك فيها جنود من دولة تقاتل في البلد المجاور. وبالفعل تم تحقيق عدة انتصارات وساعدت على ترسيخ روح العمل الجماعي بين القوات المشاركة. لكن الجماعات المسلحة أعادت تجميع صفوفها بسرعة، في الوقت الذي عانت فيه قوة المهام المشتركة من الارتباك بشأن الأولويات، وإحجام الدول الأربع عن التنازل عن القيادة للقوة نفسها، وتأخيرات في التمويل والمشتريات. وعليه، يجب على دول بحيرة تشاد تعزيز قدرتها على التخطيط والاتصالات، وتبادل المعلومات الاستخباراتية والتنسيق المدني العسكري. كما ينبغي بعد ذلك التوصل إلى توافق في الآراء مع المانحين بشأن التمويل.
3- استراتيجية الأمم المتحدة المتكاملة لمنطقة الساحل (UNISS)، والتي تعد محور الاستجابة الدولية في منطقة الساحل وفقاً لقرار مجلس الأمن 2391 (2017). وتسعى الأمم المتحدة إلى التركيز على المتغيرات التي تساعد على انتشار وتمدد الجماعات المتطرفة. وقد تجلى ذلك في المناطق المستهدفة في إطار خطة الأمم المتحدة لدعم منطقة الساحل (UNSP) التي تم تحديدها لقياس نتائج استراتيجية الأمم المتحدة المتكاملة. وعلى الرغم من ذلك، فإن المجالات الواردة في برنامج الأمم المتحدة الاستراتيجي، وهي "التعاون عبر الحدود، والعمل المناخي، ومنع الأزمات، وتمكين المرأة والشباب، والتنشيط الاقتصادي والطاقة المتجددة"، لا تعكس فقط جدول أعمال الوقاية من الجرائم، ولكن يتم مواءمتها أيضاً مع جدول أعمال أوسع نطاقاً في إطار أهداف التنمية المستدامة لعام 2030 وأجندة الاتحاد الأفريقي لعام 2063، من خلال لجوء الأمم المتحدة إلى الشراكة المفتوحة، وإدراجها للمنظمات الحكومية الدولية الإقليمية والمنظمات غير الحكومية، وقد تم إحراز بعض التقدم في تشجيع مشاركة الشباب والنساء في العديد من المجتمعات لتعزيز السلام من خلال برامج الحوار وبناء قدرات الشباب، إلى جانب توفير دعم السلطات الحكومية المحلية في المناطق المتضررة من النزاع. ومن الأمثلة على ذلك دعم الأمم المتحدة لسلطة ليبتاكو-غورما من خلال تعزيز قدرتها المؤسسية على مواجهة تحديات الحوكمة في المنطقة. كما تبنت الأمم المتحدة أيضاً مقاربة عسكرية من خلال البعثة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) التي أنشئت بموجب قرار مجلس الأمن رقم 2100 المؤرخ في 25 أبريل 2013. وتم تحديد الرد العسكري من خلال أجندة "ضمان الأمن والاستقرار في البلاد، وحماية المدنيين، ومراقبة وتعزيز حقوق الإنسان، ودعم الحوار الوطني والمصالحة". واعتبرت مينوسما أيضاً الهيئة المسئولة عن تنفيذ خطة عمل الأمم المتحدة لمنع التطرف العنيف، والذي استلزم الحد من "الدوافع الهيكلية" المسئولة عن الأنشطة العنيفة لمنع التطرف وتعزيز بناء السلام. ومع ذلك، لم تشمل مهمة مينوسما الاشتباك العسكري المباشر ضد الأنشطة المتطرفة في المنطقة. بدلاً من ذلك، قامت هذه البعثة الأممية بدور المراقب ومحاولة إزالة عوامل التصعيد من أجل تنفيذ مهمتها. وربما دفع ذلك البعض إلى التشكيك في فعالية مينوسما في مكافحة التطرف في المنطقة بسبب إحجامها عن استخدام تدابير مكافحة الإرهاب مقارنة بجهود قوات دول الساحل المشتركة والاستجابة الفرنسية أحادية الجانب.
4- بعثة التدريب التابعة للاتحاد الأوروبي في مالي (EUTM)، ساهم الاتحاد الأوروبي في إنشاء هذه البعثة بغرض توفير برامج بناء القدرات لوكالات إنفاذ القانون في مالي وأجزاء أخرى من الساحل. وعلى عكس أصحاب المصلحة الآخرين، قرر الاتحاد الأوروبي، باستثناء فرنسا، إظهار التزامه من خلال الدعم المالي واللوجستي بدلاً من نشر القوات، من خلال الاستراتيجية الأوروبية للأمن والتنمية في منطقة الساحل. واستناداً إلى هذه الاستراتيجية فقد تم صرف 147 مليون يورو لدعم مبادرة دول الساحل الخمس. ومع ذلك، لا يزال برنامج بناء القدرات والدعم الذي يقدمه الاتحاد الأوروبي عاجزاً عن سد الفجوة التي تواجهها وكالات إنفاذ القانون الحكومية في ضوء التطور السريع الذي لا يخلو من التعقيدات الأمنية التي تشهدها منطقة الساحل.
5- بعثة الدعم الدولية بقيادة أفريقية إلى مالي (أفيسما)، فيما يتعلق بدور الاتحاد الأفريقي والجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ايكواس)، قام الاتحاد الأفريقي في البداية بتشكيل هذه البعثة في عام 2012 واستناداً إلى قرار مجلس الأمن الدولي، سعت "أفيسما" إلى المساعدة في استعادة المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون إلى جانب توطيد سلطة الدولة في جميع أنحاء البلاد. كما تم تفويض هذه البعثة ببذل الجهود الإنسانية إلى جانب إعادة توطين اللاجئين والنازحين داخلياً في مالي. لكن هذا لم يدم طويلاً بعد تحولها إلى "مينوسما" في عام 2013 بقدرة عسكرية تبلغ 11200 و1440 من أفراد الشرطة. وفي ضوء نقل مبادرات الاتحاد الأفريقي إلى جهود استجابة الأمم المتحدة الأوسع، نشر الاتحاد الأفريقي أيضاً بعثة الاتحاد الأفريقي في مالي والساحل (MISAHEL) في عام 2014 لتقديم الدعم في تعزيز مؤسسات الدولة الديمقراطية، والعمل الإنساني وتنسيق جهود إعادة الاستجابة الحالية في إيجاد الحلول المناسبة للإرهاب وغيره من القضايا المتعلقة بالأمن. وقد شهدت هذه المبادرة التي أطلقها الاتحاد الأفريقي مناقشات مشتركة بين الأمم المتحدة والقوة المتعددة الجنسيات ومجموعة الساحل وأصحاب المصلحة الآخرين ذوي الصلة في وضع استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب والقضايا الأمنية الأخرى ذات الصلة.
فيما يتعلق بالجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، شوهدت أولى علامات جهود الاستجابة بعد اندلاع أزمة مالي في عام 2012 وضم أراضي شمال مالي من قبل الجماعات المتطرفة والحركة الوطنية لتحرير أزواد، بالإضافة إلى الانقلاب الذي شنه جنود محبطون في وقت مبكر من عام 2012، أدت إلى تشكيل مهمة القوة الاحتياطية للجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا في مالي التابعة للإيكواس (ميسيما). بيد أن هذه المبادرة فشلت للأسف بسبب التوتر بين الدول الرئيسية الفاعلة (الجزائر وموريتانيا) من جهة والإيكواس من جهة أخرى حول طريقة التدخل في مالي. أضف إلى ذلك، فإن الطبيعة السياسية للغاية لولاية هذه القوات أثرت على نتائجها. وكانت أجندة "ميسيما" هي التدخل عسكرياً لدعم الحكومة التي أطاح بها الانقلاب العسكري على الرغم من الوضع الأمني المضطرب في البلاد.
انتهجت فرنسا، في ضوء تصاعد مخاطر القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أثناء استيلاء الحركة الوطنية لتحرير أزواد على شمال مالي، نهجاً عسكرياً من خلال تدشين كل من عملية سيرفال وعملية برخان. لم يكن المبرر وراء هذا التدخل العسكري يتركز فقط على مسئولية فرنسا التاريخية وفقاً للعلاقة الخاصة المستمرة التي تربطها بالدول الفرنكوفونية في منطقة الساحل، ولكن أيضاً بسبب التهديد المحتمل الذي تشكله الجماعات الإرهابية في الساحل على الأمن الأوروبي. لقد أدى تحالف متمردي الطوارق مع مقاتلي القاعدة إلى تزايد المخاوف من أن تصبح مالي "أفغانستان الساحل". واستمرت عملية "سيرفال" الفرنسية والتي انطلقت في 2013، 17 شهراً حيث تم نشر 4500 عسكري بالشراكة مع القوات الأفريقية بعد تسعة أشهر من إعلان قيام دولة أزواد المستقلة من قبل الحركة الوطنية لتحرير أزواد. استندت قدرة فرنسا على حشد الجنود بسرعة على الأرض بعد تشكيل العملية إلى الأصول العسكرية الموجودة مسبقاً في الدول الفرنكوفونية. وعلى الرغم من نجاح عملية "سيرفال" في استعادة المدن الرئيسية في شمال مالي، إلا أنها لم تستطع وقف انتشار الهجمات العفوية للجماعات الإرهابية، فأثار الوضع السائد المتدهور في منطقة الساحل، ولا سيما في مالي في أعقاب عملية "سيرفال"، استجابة أخرى من فرنسا في عام 2014 باسم عملية "برخان" بهدف "توفير دعم أوسع لدول منطقة الساحل لمكافحة التهديد الإرهابي في منطقة الساحل". وبالفعل شاركت القوات الفرنسية في سلسلة من أنشطة مكافحة الإرهاب، لا سيما في منطقة ليبتاكو-غورما. وعلى الرغم من ذلك، فإن الخسائر التي تكبدتها فرنسا إلى جانب الضغط الداخلي المتزايد فيما يتعلق بنتائج مشاركة فرنسا في مكافحة التطرف العنيف في منطقة الساحل قد دفعت القيادة الفرنسية إلى قرار تقليص الوجود العسكري الفرنسي في المنطقة والاعتماد بشكل أكبر على دعم شركائها.
تحديات جهود محاربة الإرهاب في الساحل
واجهت الاستجابات الوطنية والإقليمية والدولية للتطرف العنيف في دول الساحل العديد من الصعاب والتحديات، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1- على المستوى الوطني
عادة ما تعاني الدول في المناطق المتأثرة بالإرهاب من وضع الهشاشة وعدم الاستقرار السياسي، وهو ما يعطل جهود محاربة الجماعات الجهادية المتعددة نظراً لغياب الإرادة السياسية والأجندة الوطنية الجامعة. على سبيل المثال، تعرضت مالي لانقلابات عسكرية متتالية منذ بدء الأنشطة الإرهابية في البلاد، حيث تمكنت الحركة الوطنية لتحرير أزواد وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي من استغلال أوضاع عدم الاستقرار والانقسام السياسي من أجل السيطرة على شمال مالي وإعلان دولة الخلافة الإسلامية. وفي نفس السياق، أثار موت الرئيس التشادي إدريس ديبي في أبريل 2021 العديد من الإشكاليات الداخلية المتعلقة ببنية النظام الحاكم. وعليه، إذا أصبحت تشاد أقل استقراراً بشكل ملحوظ، فإن هذا يعني أن أحد أكثر الجيوش كفاءة في المنطقة سيكون لديه اهتمام أقل لتكريس جهوده لمكافحة التهديدات الإرهابية العابرة للحدود. إذ يفرض هذا الوضع من عدم الاستقرار ضغطاً هائلاً على الموارد المحدودة بالفعل والمتاحة لسلطات الدولة والتي يمكن أن تستغلها الجماعات المتطرفة. علاوة على ذلك، تواجه سلطات الدولة الوطنية تحدياً كبيراً في التنقل عبر النطاق الجغرافي الواسع للبلاد في ظل ضعف الموارد البشرية واللوجستية اللازمة لاقتلاع الخلايا والجماعات الإرهابية التي تنتشر في عموم البلاد ولاسيما مناطق الأطراف. وعلى سبيل المثال، يجد كل من الجيش المالي ووكالات إنفاذ القانون صعوبة في إجراء عمليات المراقبة والتفتيش بسبب الحجم الجغرافي الهائل لمالي.
ولعل من أبرز التحديات التي تواجه جهود محاربة الإرهاب الوطنية في منطقة الساحل إشكالية الصراع بين المزارعين والرعاة. في حين تم تفسير مسببات النزاعات بين الفلاحين والرعاة في منطقة الساحل من خلال عوامل مثل تغير المناخ، وندرة الموارد، والضغوط السكانية، والتوسع الحضري، والبيئة السياسية، وفشل آليات التفاوض التقليدية، فقد تم إيلاء اهتمام أكاديمي أقل بالجانب العرقي والديني وما يرتبط بهما من أزمة هوية وطنية. على سبيل المثال، ثمة روايات تاريخية تقوم على تصنيف الفولاني كمجموعة عرقية دينية خطيرة تمثل ما أطلق عليه بادي هيليارد "المجتمع المشتبه به" لإظهار كيفية تصوير الفولاني من قبل وسائل الإعلام والجهات السياسية الفاعلة في نيجيريا بحسبانهم أجانب، وغير متحضرين، وإرهابيين، ومغتصبين، وقطاع طرق مسلحين مع امتلاكهم أجندة خفية لأسلمة النيجيريين. ولعل خطاب شيطنة الفولاني لا يعطل فقط جهود محاربة الإرهاب، ولكن يؤدي كذلك إلى فشل المبادرات السياسية لاحتواء النزاعات بين الفلاحين والرعاة. إن مثل هذا الخطاب السائد لا يمكنه التخلص من المواجهات طويلة الأمد بين الفلاحين والرعاة، ولكنه بدلاً من ذلك ينفر ويهمش الفولاني من خلال تدابير أمنية عقابية، وبالتالي يحول دون تطبيق أي نهج سلمي.
2- غياب التنسيق الإقليمي والدولي
فيما يتعلق بتحديات الاستجابة الإقليمية والدولية، فقد اعتبر التنسيق بين أصحاب المصلحة الإقليميين والدوليين تحدياً كبيراً. وتعكس المبادرات العسكرية للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (ايكواس) لمواجهة الإرهاب والأزمة في مالي إشكاليات التنسيق بين الإيكواس والاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة. فقد تم اقتراح إنشاء القوة الاحتياطية التابعة للإيكواس في مالي (MICEMA) عندما بدأ أنصار الدين والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وحركة التوحيد والجهاد الإسلامي في غرب أفريقيا أعمالهم الإرهابية العنيفة في الشمال، مع اندفاعهم نحو جنوب مالي، مما أدى إلى تدهور الأمن الإنساني والاستقرار في البلاد. بيد أن مبادرة الساحل الأفريقية لم تنجح بسبب تعدد المبادرات الخاصة بمحاربة الإرهاب في الساحل من جهة وعدم كفاية التمويل من جهة أخرى. بالإضافة إلى هذه المشكلة المتمثلة في غياب التنسيق، كان التزام الدول الأعضاء في المنظمات الإقليمية، ولا سيما الدول التي لم تتأثر بهجمات الإرهابيين، ضعيفاً، حيث ظنت نفسها بمنأى عن أيدي الإرهاب. على سبيل المثال، لم تدرك النيجر خطر جماعة بوكو حرام إلا بعد أن بدأت هذه الجماعة الإرهابية في توسيع أنشطتها عبر حدود النيجر. فلا يزال التصور بأن التطرف العنيف مجرد مشكلة يجب على البلدان المتضررة حلها مستمراً بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة والذي يستمر في التأثير على مستوى التزام معظم الدول. وكان هذا أحد أسباب لجوء فرنسا إلى تبني الخيار العسكري أحادي الجانب بعد إحجام الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة عن التحرك السريع. أضف إلى ذلك فإن استراتيجيات فرق العمل المشتركة بين الدول، وتحديداً قوة المهام المشتركة متعددة الجنسيات ومجموعة دول الساحل الخمس تتجاهل التحديات والعوامل الهيكلية التي تسهل تصاعد معدلات التطرف العنيف.
ويطرح التوتر الدبلوماسي والسياسي الحالي بين دول الساحل تحدياً آخر أمام جهود محاربة الإرهاب. لقد شهدت مجموعة دول الساحل الخمس أول أزمة خطيرة لها ولم يمر على إنشائها عشر سنوات. ففي 15 مايو 2022، غادرت مالي المنظمة بسبب رفض الأعضاء الآخرين - تشاد والنيجر وموريتانيا وبوركينا فاسو - السماح للسلطات المالية الانتقالية بتولي الرئاسة الدورية. هذه التوترات بين دول المنطقة، والتي ظهرت بالفعل بعد الموافقة على العقوبات الاقتصادية على مالي من قبل المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (ايكواس) بسبب قرار تأجيل الانتخابات الديمقراطية، لها آثار منطقية واضحة. على وجه التحديد، تؤثر المنافسة الدبلوماسية والسياسية المستمرة بين مالي والنيجر على الاستجابة لمكافحة الإرهاب في منطقة الحدود المشتركة. كما لم يكن خافياً أن قوات النيجر، وبدعم من الجيش الفرنسي، وكذلك الطائرات التركية بدون طيار، هي بالفعل القوات الوحيدة التي ردت بنشاط على الأنشطة الإرهابية عبر الحدود، وإن كان دون نجاح كبير حتى الآن.
3- تقويم مقاربات الاتحاد الأفريقي
من جهة أولى، على الرغم من جهود الاتحاد الأفريقي لمكافحة الإرهاب ومنع التطرف العنيف، فإن هناك ثغرات في المستويات القانونية والمؤسسية التي تحد من اتباع نهج متكامل ضد الإرهاب العنيف في القارة الأفريقية بما في ذلك منطقة الساحل. إذ تظل المشكلة السائدة في سياسات الاتحاد الأفريقي لمكافحة الإرهاب هي تفضيل التدابير الوطنية على الاتفاقات الجماعية التي تعاني من عدم وجود آليات إنفاذ قوية. في الواقع، يتبنى الاتحاد الأفريقي قرارات دون وجود عملية متابعة مناسبة، وبالتالي يتم تحدي أدوات الأجهزة المؤسسية لتنفيذ القرارات ذات الصلة. أيضاً، يفتقر تشغيل الاتحاد الأفريقي لمكافحة الإرهاب إلى الابتكار، الذي يعتمد بشكل أساسي على نهج تقليدي، مع وجود آليات إقليمية ذات كفاءة محدودة، فضلاً عن غياب التنسيق ونقص الموارد المالية.
ومن جهة ثانية، تواجه جهود مكافحة الإرهاب في الاتحاد الأفريقي العديد من العقبات، بسبب تعدد وتنافس المبادرات دون الإقليمية وعبر الإقليمية والدولية، والآثار العكسية المترتبة على ذلك. على سبيل المثال، فإن عدم تطابق المصالح الأفريقية مع مصالح الجهات الأجنبية والدولية المرتبطة بالتدخل العسكري الفرنسي في منطقة الساحل يحد من العمليات التكتيكية لمكافحة الإرهاب. في المقابل، تفضل الأجندة الأمريكية المساعدة العسكرية المستمرة تحت راية القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا (أفريكوم). وبالتالي، فإن أفرقة سياسات مكافحة الإرهاب تواجه أوجه قصور كبيرة، بما في ذلك جاذبية زائفة للنموذج الأوروبي لمكافحة الإرهاب الذي لا يتضمن السياقات الجيوسياسية الأفريقية ويحد من تطبيق رؤية الاتحاد الأفريقي لمكافحة الإرهاب، والتي تحافظ على السيادة الوطنية للدول الأعضاء.
ومن جهة ثالثة، نظرت استراتيجيات الاتحاد الأفريقي لمكافحة الإرهاب إلى الأيديولوجية الجهادية العنيفة كتهديد وجودي، وهو الأمر الذي يضفي شرعية على إجراءات مكافحة الإرهاب، في إطار عملية الأمننة، كما يؤدي إلى تسييس الممارسات المؤسسية، باستخدام خطاب الخوف للحفاظ على السلطة. وفي هذا الصدد، استخدمت البلدان الأفريقية تدابير وتشريعات مكافحة الإرهاب لتعزيز سلطتها، من خلال التهويل أو التهوين من خطورة الإرهاب، لاسيما للحصول على مزايا من الغرب بحسبانها في طليعة الحرب العالمية على الإرهاب. بيد أن الإخفاق في التصديق على بروتوكولات الاتحاد الأفريقي لمكافحة الإرهاب وإضفاء الطابع المحلي عليها يعد دليلاً على غياب الرغبة والإرادة السياسية. من ناحية أخرى، هناك قيود على الاستجابات العسكرية للتطرف العنيف، وبالتالي توجد حاجة إلى تبني مقاربات ناعمة، لاسيما المصالحة والحوار الشامل مع المنظمات غير الجهادية. ومع ذلك، فإن ظهور مجموعة فاغنر كلاعب عسكري رئيسي في أفريقيا، وخاصة في مالي، يمثل تحدياً جديداً في خصخصة مكافحة الإرهاب.
4- إشكالية العسكرة وغياب الحلول السياسية
على الرغم من أهمية المقاربات العسكرية في التصدي لمخاطر الإرهاب في منطقة الساحل على المدى القريب، إلا أنها لا تأخذ في الاعتبار تعقد وتشابك بيئة التطرف والإرهاب. صحيح أن فرنسا حسمت المعركة في البداية ضد الجماعات الإرهابية المتطرفة واستعادت شمال مالي، بيد أن الاعتماد الوحيد على العمل العسكري وحده أثبت أنه لم يكن كافياً لحل الأزمة في مالي والساحل عموماً. لقد جادل بعض الكتاب بأن نجاح فرنسا في استعادة شمال مالي لم يترك للجماعات الإرهابية من خيار سوى العمل من تحت الأرض في مخيمات اللاجئين في الدول المجاورة، والفرار شمالاً باتجاه مناطق الأطراف ثم العودة بعد التعافي من الهزيمة لمهاجمة المراكز الحضرية والشبكات اللوجستية للوجود الدولي.
تمكنت الجماعات الإرهابية والعنيفة من تبني تكتيكات الكر والفر وشد الأطراف، حيث استخدموا سيارات الدفع الرباعي لنقل الأسلحة والذخيرة والإمدادات. وهذه السيارات جاهزة لحمل مدافع مضادة للطائرات أو رشاشات ثقيلة. لقد تغيرت طبيعة العنف الجهادي إلى درجة عالية من الحركة والقدرة على المناورة. وتحاول القاعدة وجماعاتها الجهادية، باستخدام سيارات تويوتا لاندكروزر، إظهار قوتها وقدرتها على إيذاء الحكومات الأفريقية والنيل من الوجود الدولي. بالإضافة إلى ذلك، تم استخدام سيارات لاند كروزر هذه على نطاق واسع في الأنشطة غير المشروعة، والاتجار بالبشر، وتهريب الأسلحة الصغيرة، والهجمات على التجار من خلال نهب شاحناتهم وبضائعهم، وحتى الهجمات المتزايدة على البنوك أو الخدمات العامة الأخرى في البلدات أو القرى. تتضمن هذه الأعمال الهجومية الإجرامية التي تنشر الخوف بين المدنيين استخدام سيارة تويوتا لاند كروزر، وبالتالي يمكن اعتبارها إحدى الأدوات المرتبطة بتزايد المد الجهادي العنيف في منطقة الساحل والصحراء الأفريقية.
من جهة أخرى، يُنظر إلى تدخل فرنسا على أنه يخلو من فهم الهياكل والديناميكيات المحلية في مالي والساحل. وقد كان هذا الأمر في غير صالح عملياتها، حيث إن الهياكل والمظالم المحلية هي ما تستفيد منه الجماعات الإرهابية في استمرار أنشطتها. وقد اتضح ذلك من تزايد السخط الشعبي العام في مالي وبعض دول الساحل الأخرى ضد الوجود الفرنسي في المنطقة. وعليه، فإن التركيز فقط على المقاربات العسكرية والتعاون فقط مع سلطات الدولة المركزية التي تعاني من أزمة التغلغل وعدم القدرة على الوصول إلى مناطق الأطراف، أدى إلى إفقاد الاستجابة الفرنسية للتطرف العنيف مصداقيتها بينما ظلت مسببات الصراع الحقيقية على حالها.
ابتداء من عام 2009، بدأت مراكز الفكر الكبرى في الولايات المتحدة والدول الغربية في توجيه النقد لاستراتيجيات محاربة الإرهاب في الساحل، حيث أنها أدت في نهاية المطاف إلى تفاقم التطرف العنيف. وفي عام 2021، على الأقل بالنسبة لمنطقة الساحل، بات الرأي المتفق عليه في دوائر النخبة السياسية الغربية يتجه نحو انتقادات حادة للسياسة الحالية. وتعكس التقارير الأخيرة من تشاتام هاوس في لندن، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، ومجموعة الأزمات الدولية في بروكسل هذا التحول.
تتفق هذه التقارير الثلاثة على أن سياسة محاربة الإرهاب الغربية في منطقة الساحل قد فشلت، كونها مفرطة في العسكرة وغير فعالة. يقترح الجميع، بلغة مختلفة بعض الشيء، أن هذه السياسة يجب "إعادة التفكير فيها" للتأكيد على دور الدبلوماسية والحكم الرشيد. وهذا يشمل التفاوض مع الإرهابيين".
5- الخلاف بين مالي وفرنسا
تصاعد الخلاف بين السلطة الانتقالية في مالي وفرنسا، حيث انزلقت العلاقة الدبلوماسية والسياسية المتدهورة بين الشريكين السابقين إلى ما يبدو أنه قطيعة مؤكدة في تعاونهما العسكري. يحدث هذا في وقت بلغت فيه المشاعر المعادية للفرنسيين - وربما المعادية لأوروبا - ذروتها في المنطقة، مع مسيرات واحتجاجات شعبية عارمة ضد الوجود الفرنسي في جميع دول الساحل تقريباً. في نهاية المطاف قررت حكومة مالي العسكرية إنهاء معاهدة التعاون الدفاعي بين فرنسا ومالي، وكذلك اتفاقية وضع القوات التي تحكم عمل القوات الفرنسية والأوروبية المشاركة في فرقة عمل "تاكوبا". يعني ذلك عملياً، أن الخلاف الثنائي أصبح صراعاً متعدد الأطراف، حيث لم تعد القوات الفرنسية والأوروبية قادرة على العمل داخل البلاد - وهو اتجاه يؤثر أيضاً على عملية حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة "مينوسما". وهذا يعني أيضاً أن الجهات الفاعلة الفرنسية والأوروبية الأخرى المتواجدة في المنطقة قد فقدت الشريك الرئيسي في الحرب ضد الإرهاب. لقد فقدوا أيضاً البلد الذي يمثل رمزاً للتدخل الدولي متعدد الأطراف الذي تم بناؤه لمواجهة العديد من التحديات مثل التمرد والإرهاب والتنمية وعدم الاستقرار السياسي والهجرة في منطقة الساحل.
على أن هذا الانسحاب الفرنسي يطرح قضية أخرى مرتبطة بالتعاون بين الأوروبيين. فقد كانت فرنسا فعالة جداً في الماضي في إشراك جهات فاعلة مختلفة لتقاسم العبء الاقتصادي والسياسي للتدخل العسكري. ومع ذلك، فقد انسحبت بعض الدول الأوروبية، مثل إستونيا والسويد، بينما تلقت دول أخرى، مثل الدنمارك وألمانيا، طلبات صريحة من سلطات مالي بعدم التواجد في البلاد، أو الانصياع لقيود تشغيلية بالغة القسوة. وفي 11 أبريل 2022، قام نائب رئيس المفوضية الأوروبية، جوزيب بوريل، بإضفاء الطابع الرسمي على قرار وقف جميع برامج التدريب العسكري للاتحاد الأوروبي في مالي. ويمكن قراءة مثل هذا القرار المهم، الذي تأثر أيضاً بالوجود الروسي المتزايد في مالي من خلال مجموعة فاغنر، على أنه محاولة لترهيب حكومة مالي الانتقالية من خلال التهديد بفقدان دعم سلطات الاتحاد الأوروبي المنخرطة بشكل كبير في البلاد. وإن كان القرار الأوروبي يعد من جهة أخرى دليلاً واضحاً على التردد في الانتشار العسكري والأمني في المستقبل. يبدو أن الدول الأوروبية مترددة في المشاركة بشكل كامل في خطط طويلة الأجل لمكافحة الإرهاب في الخارج، وخاصة في البلدان غير المستقرة سياسياً. قد يكون هذا مرتبطاً بالتخوف من تكرار ما حدث في أفغانستان والخوف من انسحابات متسرعة كتلك التي أعلنتها الولايات المتحدة وفرنسا في نهاية صيف 2021.
6- التنافس الدولي والحرب الباردة الجديدة
أفضت التوترات الإقليمية، إلى جانب أوجه القصور المرتبطة بالمقاربات الغربية وتراجع الحماس الأمريكي والأوروبي، إلى إتاحة الفرصة للتنافس الدولي في المنطقة، فقد برز دور القوى الدولية الصاعدة ولاسيما تركيا وروسيا التي تنشط اليوم في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، سواء من حيث الدعم العسكري أو المساعدة الأمنية الأوسع. وأدى هذا الوجود، خاصة فيما يتعلق بشركة فاغنر، إلى تفاقم وتسريع عملية الانفصال الحاسم بين مالي والجهات الفاعلة الأوروبية بما في ذلك فرنسا. يعني ذلك، بحكم الأمر الواقع، إعادة تشكيل وهندسة التوازن الدولي في المنطقة بشكل يعيد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة. وعليه، من المحتمل ألا تكون الجهات الفاعلة الأوروبية، والغربية بشكل عام، في الأجل القريب هي صاحبة المظلة الأمنية الوحيدة أو الأهم في المنطقة. وفي هذا السياق سوف تقوم دول الساحل بمناقشة فرص التعاون العسكري والسياسي وإعادة التفاوض برؤية واقعية من أجل تنويع مصادر دعمها لاحتياجاتها السياسية والأمنية.
كما أن جهود روسيا لترسيخ نفسها في منطقة كانت فرنسا نشطة فيها منذ فترة طويلة هي جزء من استراتيجية أوسع لتعزيز نفوذ موسكو العالمي من خلال قيادة حملة ضد شبكات القوة طويلة الأمد في المنطقة. وفي هذا السياق يستغل الكرملين تراجع القيادة الغربية في أفريقيا، لاسيما مع تزايد انعدام الثقة بالسياسة الفرنسية بين شعوب منطقة الساحل. على سبيل المثال، أبدى المجلس العسكري في مالي اهتماماً بتنويع شراكاته، ولاسيما مع روسيا، من خلال نشر مرتزقة مجموعة فاغنر. بالنسبة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، هذه فرصة جيدة لإبراز صورته كزعيم قوي يمكنه التأثير في الأزمات الدولية وخلق منطقة إضافية من القدرة على المناورة وورقة مساومة بينما تتنافس موسكو مع خصومها في ليبيا وسوريا وأماكن أخرى.
كما تعد الصين مثالاً آخر على إبراز القوة في منطقة الساحل، حيث إنها تستغل تعطش أفريقيا للتنمية لخدمة طموحاتها القيادية. تعلمت بكين درسها من الأزمة الليبية في عام 2011، حيث قامت بإعادة تشكيل وجودها في أفريقيا، بما في ذلك منطقة الساحل. ونتيجة لذلك، اتسع نطاق مشاركتها العسكرية بالتزامن مع مبادرة الحزام والطريق التي تم إطلاقها في عام 2013، والتي تعزز المصالح الاقتصادية والاستراتيجية الصينية وتوفر بديلاً للاستراتيجيات التوجيهية والهيمنة للكتلة الغربية. تبذل بكين جهوداً كبيرة للترويج لنموذجها الأمني في منطقة الساحل باعتباره نموذجاً دفاعياً وتعاونياً، مع التركيز على التدريب في مجال مكافحة الإرهاب وحماية البنية التحتية في تعاونها مع تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي، حيث تتولى وحدتها القتالية في بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي "مينوسما" حماية الموظفين الصينيين والأجانب وكذلك البنية التحتية الحيوية.
خاتمة
لا يخفى أن أوجه القصور والتحديات الكبرى التي تواجه المقاربات الوطنية والدولية لمحاربة الإرهاب في الساحل كان لها تأثير واضح في إثبات مقولة داعش أنها باقية وتتمدد. في هذا السياق، تسعى جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، والتي تمثل فرع تنظيم القاعدة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، إلى منافسة ولاية داعش في الصحراء الكبرى وذلك من أجل السيطرة على مناطق مختلفة، وتحديداً منطقة الحدود الثلاثية بين بوركينا فاسو ومالي والنيجر. وإدراكاً من جماعات القاعدة وداعش لنقص الدعم الجوي من القوات الفرنسية والدولية، زادت ولاية داعش على وجه الخصوص من ضغطها بشكل كبير منذ مارس 2022، حيث شنت سلسلة من الهجمات الفتاكة على طول الحدود الجنوبية. ومن المثير للاهتمام، أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين تبدو حذرة إلى حد ما، وتنتظر بطريقة ما تقييم حركتها فيما يتعلق بردود الفعل على نشاط داعش الجديد، وخاصة من قبل السكان المحليين.
بشكل عام، فإن التنافس بين المجموعات الإرهابية، فضلاً عن الاهتمام المتجدد العابر للحدود لهذه المنظمات من أجل السيطرة والنفوذ ربما يكون أكثر خطورة عن ذي قبل بسبب التوترات الإقليمية من جهة وسياسات التنافس الدولي الجديدة من جهة أخرى.
وفي منطقة يكون فيها انعدام الأمن عميق الجذور وحيث تكون التفاوتات صارخة، من المرجح أن تؤدي الأجندات المتضاربة إلى تصعيد التوترات المجتمعية. وعليه، يحتاج الساحل إلى استجابات قوية ومنسقة لأوجه المظالم المستمرة. إن إلقاء اللوم على التخلف أو انعدام الأمن على منطقة الساحل لا يمكن أن يبرئ الأطراف الدولية من مسئوليتها عن معالجة هذه المظالم، خاصة أثناء استخراجهم للموارد الطبيعية من المنطقة.
كما أن بلدان منطقة الساحل مثقلة بالديون بشكل كبير ويجب عليها استخدام مواردها لخدمة وسداد القروض الخارجية، بينما يحجم الأوروبيون عن التعاون في تأسيس البنية التحتية ومشروعات التنمية. وعليه، فإن التعاون متعدد الأطراف بين دول الساحل والقوى الدولية يعد ضرورياً لضمان التنمية والأمن في واحدة من أكثر بؤر التوتر والعنف في أفريقيا تعقيداً وتشابكاً؛ بدون ذلك، من المرجح أن تكون جميع المبادرات والاستجابات الدولية لمكافحة الإرهاب عقيمة.