في خضم التطورات المتعلقة بانتخابات التجديد النصفي للكونجرس في الولايات المتحدة، التي أظهرت أن الأمريكيين منقسمون على الصعيد الداخلي بشكل حاد، نشر موقع "فورين بوليسي" الاميركي مقالاً بعنوان "الديمقراطيون والجمهوريون يتفقون على أن الولايات المتحدة دائماً على حق"، للكاتب زكاري كارابيل، الذي أشار إلى أن هناك اتهامات متبادلة بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري بشأن تهديدهما للديمقراطية، لكنه أشار إلى أن هذا الانقسام يختفي عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية، وأرجع المقال ذلك إلى اعتقاد الأمريكيين بأسطورة التفوق الأمريكي على مستوى العالم، التي يرى من وجهه نظره أنها كانت صحيحة في منتصف القرن العشرين، لكنه أكد أنها تشهد اليوم تراجعاً.
مؤشرات متعددة
أوضح المقال أن هناك مجموعة من المؤشرات القديمة التي تعبر عن استمرار اعتقاد الحزبين الديمقراطي والجمهوري بأسطورة التفوق الأمريكي في العالم، ويتضح ذلك عبر ما يلي:
1– وجود نظرة أحادية في السياسة الخارجية الأمريكية: أشار المقال إلى أن الحزبَين الديمقراطي والجمهوري يتبنَّيان نظرة أحادية أطلقت العنان للغزو الأمريكي للعراق في عام 2003، مضيفاً أن المثال الأبرز على النظرة الأحادية الأمريكية كانت سياسة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، حينما صرَّح في 20 سبتمبر 2001 خلال جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس لتحديد مسار الرد الأمريكي على هجمات تنظيم القاعدة على مركز التجارة العالمي والبنتاجون، قائلاً: "إما أن تكون معنا أو مع الإرهابيين"، وبذلك تغافل عن المواقف الوسطية، بحسب ما ذكر المقال.
2– الإيمان بعدم وجود بدائل للدور الأمريكي في العالم: نوه المقال بأن تصريحات بوش تتوافق مع مسار السياسة الخارجية الأمريكية، التي يؤمن بها الديمقراطيون والجمهوريون إلى حد كبير؛ حيث يرون أن الولايات المتحدة لا غنى عنها لتأمين السلام والازدهار العالميَّين؛ وذلك كما أوضحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت. ولفت المقال إلى أن وجهة النظر هذه صاغها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، واستشهد بها العديد من المسؤولين الأمريكيين، وصولاً إلى مايك بومبيو وزير خارجية الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي قال إن "الولايات المتحدة هي المحطة الأخيرة للديمقراطية على وجه الأرض، وإذا تعثَّرت الحرية في الولايات المتحدة، فسوف تضيع على مستوى العالم".
3– المبالغة في رد الفعل على خفض "أوبك+" للإنتاج: بحسب المقال، فإن أسطورة التفوق الأمريكي تتجلى في ردود فعل إدارة بايدن والديمقراطيين وكذلك الجمهوريين على قرار "أوبك+" بخفض الإنتاج النفطي، التي تتمثل أبرز ملامحها فيما يلي:
أ– تعهد بايدن بمراجعة شاملة للعلاقات مع الرياض: وفقاً للمقال، ذكر السيناتور الديمقراطي ديك دوربين أن هذه الخطوة هي رفض مُتعمَّد للولايات المتحدة ووسيلة لتعزيز مكانة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بدعوى أنه سيستفيد من استمرار ارتفاع أسعار النفط. وفي هذا السياق زعم دوربين أن بوتين والسعودية أصبحا ضدَّ الولايات المتحدة. ولذلك تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن – طبقاً للمقال – بأن تُجري إدارته مراجعة شاملة للعلاقات مع السعودية.
ب– دعوة الديمقراطيين إلى تجميد التعاون مع الرياض: أكد المقال أن السيناتور الديمقراطي بوب مينينديز ذهب إلى أبعد من ذلك بقوله: "يجب أن أتحدث علانيةً ضد قرار حكومة المملكة العربية السعودية الأخير بالمساعدة في ضمان حرب بوتين من خلال أوبك +"، على حد زعمه. وشدد مينينديز على ضرورة تجميد الولايات المتحدة جميع أوجه التعاون مع السعودية على الفور.
جـ– تهديدات سابقة من قبل الجمهوريين للسعودية: بحسب المقال، يُعبِّر هذا الخطاب عن النظرة الأحادية من جانب الأمريكيين، وعدم تقبُّلهم معارضة أي طرف لرغباتهم. وأوضح المقال أن الأمر لم يتوقف على الديمقراطيين؛ ففي أبريل 2020، هدَّد ممثلون للحزب الجمهوري في الكونغرس، السعودية إذا لم تخفض المملكة الإنتاج النفطي حينها في مواجهة انهيار الأسعار الناجم عن جائحة كورونا.
خطأ التفوق
رأى المقال أنه من الخطأ اعتقاد الأمريكيين بأسطورة التفوق الأمريكي العالمي، مشيراً إلى أن هذه النظرة الأحادية التي تظهر في سياسة واشنطن الخارجية أضحت خطأً فادحاً في القرن الحادي والعشرين؛ حيث تغيرت الأوزان النسبية للقوة عالمياً، ومن مؤشرات ذلك ما يلي:
1– الإدراك الخاطئ للقوة والميزة العسكرية الأمريكية: أوضح المقال أن الولايات المتحدة تمتلك أكبر اقتصاد وأكبر قوة عسكرية في العالم، لكنه أشار إلى أن وجهة النظر هذه تؤدي إلى قراءة خاطئة لطبيعة القوة الأمريكية في القرن الحادي والعشرين، مضيفاً أنه عند استخدام الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان، فقد أدى ذلك إضعاف القوة الأمريكية؛ لأن ذلك لم يكن كافياً لتحقيق الأهداف الأمريكية. ووفقاً للمقال، فإنه من ناحية أخرى، كانت المعدات العسكرية الأمريكية حيوية للدفاع عن أوكرانيا، ولكن هناك أيضاً مُسيَّرات أقل تكلفة قدمتها تركيا، ومُسيَّرات من الجانب الآخر قدمتها إيران، بما يعني أنه ليس شرطاً أن تمتلك إمكانات كبيرة لتكون مؤثراً.
2– تضاؤل القوة الاقتصادية الأمريكية بشكل نسبي: بحسب المقال، تتمثل المشكلة الأسوأ في تضاؤل القوة الاقتصادية للولايات المتحدة؛ فلا يزال الاقتصاد ضخماً، لكنه أيضاً أقل نسبياً مما كان عليه في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وطبقاً للمقال، لم يكن هذا نتاجاً للفشل الأمريكي في حد ذاته، بل نتاج الصعود المُدوِّي لبقية دول العالم غير الغربي، الذي أدى إلى تضاؤل القوة الاقتصادية النسبية لواشنطن.
3– تراجع القوة الناعمة للولايات المتحدة في العالم: أكد المقال أن القوة الناعمة الأمريكية بدأت تنخفض، مشيراً إلى أن المُفكِّر جوزيف ناي يرى أن القدرة الأمريكية على تشكيل مجتمعات أخرى تراجعت. وشدد المقال على أن من أبرز أسباب ذلك السياسات الأمريكية الأقل ترحيباً بالمهاجرين والعُمَّال والطُلَّاب من الخارج، التي كانت جزءاً فعالاً من القوة الناعمة الأمريكية والتأثير العالمي. وأوضح المقال أن هذا الأمر لا يُعدُّ معضلة كبيرة، لكنه أكد أن المشكلة تكمن في الاستمرار في التصرف تحت إطار أسطورة التفوق الأمريكي.
4– اتجاه العديد من الدول إلى الابتعاد عن نظام الدولار: نوه المقال أن التعامل بالدولار عملةً احتياطيةً عالميةً يُعَد من الأدوات الحاسمة للإكراه التي لا تزال متاحة للولايات المتحدة؛ إذ يسمح ذلك للولايات المتحدة بالتأثير على النظام الاقتصادي العالمي، لكن المقال لفت إلى أن الإكراه يقود العديد من البلدان إلى السعي للابتعاد ليس فقط عن نظام الدولار، بل عن الانخراط الاقتصادي المستمر مع الولايات المتحدة.
وختاماً، أشار المقال إلى أنه لن يكون هناك انهيار مفاجئ للقوة الأمريكية، لكن أكد أن موقف الأمريكيين في مواجهة عالم متغير سيكون له تأثير في الحد من نفوذ الولايات المتحدة ودفع الدول إلى البحث عن علاقات وأنظمة اقتصادية بديلة. ورأى المقال أنه بالنظر إلى الموارد الاقتصادية الهائلة التي لا تزال الولايات المتحدة تسيطر عليها واحتياطيات القوة الناعمة التي لم يتم استنزافها بالكامل، فإنه من الضروري أن يكون هناك إدراك أكثر واقعيةً لطبيعة القوة في عالم اليوم، مع ضرورة تبني نهج أكثر واقعيةً لمشاكل العالم.