• اخر تحديث : 2024-07-01 12:23
news-details
قراءات

لماذا يتمسك المستشار الألماني بالانفتاح على بكين؟


بعد قيام رئيس الوزراء الألماني أولاف شولتز بزيارة لبكين، يوم 4 نوفمبر 2022، بدأت ترتفع الأصوات المنادية بمساءلة ألمانيا عن سياستها المنفردة البعيدة عن التوجه العام للاتحاد الأوروبي. وفي حين أن مظاهر التقارب الألماني–الصيني بدت جلية خلال الفترة الماضية، فإن الزيارة المشار إليها مثلت سابقة على صعيد العلاقات المتميزة بين البلدين؛ وذلك لأن دول أوروبا ذات العلاقات التجارية الهامة مع الصين – ومنها فرنسا واليونان على سبيل المثال – لا تجاهر بالطابع المتطور لهذه العلاقات في ظل سياسة التطويق العامة التي يتبعها الغرب على كل من الصين وروسيا بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، بالإضافة إلى كونها أول زيارة لمسؤول غربي رفيع المستوى لبكين منذ بداية الأزمة.

دوافع شولتز

في خضم الانتقادات الغربية والتحوط الأمريكي من تنامي النفوذ الصيني، حرصت ألمانيا تحت قيادة أولاف شولتز على تعزيز هذه العلاقات للأسباب التالية:

1- دعم الاقتصاد الألماني: جاءت زيارة المستشار الألماني الأخيرة للصين في الوقت الذي يتأرجح فيه الاقتصاد الألماني نتيجة لارتفاع تكاليف إنتاج الطاقة قبل حلول فصل الشتاء، وكونه على شفا ركود بسبب تزامن هذه الموجة التضخمية مع انخفاض في الإنتاج منذ انتشار جائحة كورونا.

هذا وتزيد هذه العوامل من أهمية الصين باعتبارها أحد شرايين الحياة لكبار المصنعين الألمان؛ حيث تمثل الصين 12.4% من الواردات الألمانية وتستحوذ على 7.4% من صادراتها؛ ما يجعلها أكبر شريك تجاري لألمانيا. ولعل من أحدث مظاهر اعتماد برلين المتنامي على بكين من الناحية الاقتصادية سماح شولتز لشركة الشحن الحكومية الصينية Cosco Shipping Holdings Co بالحصول على امتياز بنسبة 24.9% في محطة الحاويات بميناء هامبورج أكبر ميناء في ألمانيا؛ وذلك رغم تحذيرات بعض الجهات الألمانية من أن الصفقة ستزيد سيطرة الصين على البنية التحتية الحيوية في ألمانيا، بالإضافة إلى حرص برلين على عقد صفقة ضخمة مع الصين لتوريد لقاحات فيروس كورونا الألمانية BioNTech التي لم تحصل حتى الآن على الموافقة الصينية.

2- كسب دور سياسي في الأزمات العالمية: منذ الحرب العالمية الثانية، تنأى القيادات الألمانية المتعاقبة عن تصدر المشهد سياسياً في الأزمات الدولية؛ وذلك في نوع من إثبات حسن النوايا بأن ألمانيا لن تنخرط في التحالفات والأزمات السياسية، خاصة في ظل هيمنة الرؤية الأمريكية على الأزمات العالمية والإقليمية. لكن يبدو أن الخطر الوجودي الذي فرضته روسيا حالياً، قد جعل القيادة الألمانية تعيد التفكير في الانزواء الشديد الذي تعانيه سياستها الخارجية فيما يتعلق بالوساطة وبناء التحالفات، خاصة أن التجربة أثبتت أن الولايات المتحدة لم تنجح في ضمان عدم اندلاع الحرب، وإن نجحت إلى حد كبير في رسم الخطوط الحمراء لها.

ويروج شولتز لهذا التقارب مع الصين على أنه ضروري للعالم الغربي في ظل انخفاض وتيرة التواصل الدبلوماسي بين واشنطن وبكين بعد زيارة نانسي بيلوسي لتايوان، ومن ثم من الضروري وجود طرف يحظى بثقة الطرفين يقوم بأدوار الوساطة للحيلولة دون أي تصعيد غير محسوب، وهو النهج الذي يتبعه مع روسيا بالإبقاء على خطوط التواصل مفتوحة مع الكرملين.

3- تصدير صورة المدافع الرئيسي عن حقوق الإنسان: في ظل إحجام الصين منذ فترة عن الالتقاء بمسؤولين غربيين رفيعي المستوى، تحاول ألمانيا من وراء هذا التقارب تصدير صورة عن نفسها باعتبارها المدافع الرئيسي عن حقوق الإنسان؛ وذلك عن طريق تمكنها من فتح الملفات الحقوقية الشائكة مع شي جين بينغ، سواء في شينغيانغ أو التبت أو غيرها، وهو ما يعزز من وضعيتها لدى دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على حد سواء. هذا وقد نجح المستشار الألماني بالفعل في انتهاز فرصة زيارته الأخيرة لبكين بالترويج في وسائل الإعلام الغربية لقيامه بمفاتحة الرئيس الصيني حول أوضاع حقوق الإنسان التي تشغل التيارات التقدمية المتنامي نفوذها في الغرب، وأن ما يميز النهج الألماني مع الحكومة الصينية أنه مباشر وينأى عن الانتقادات الإعلامية غير المباشرة التي ينتهجها معظم قادة الدول الأوروبية ضد الصين في الوقت الحالي.

4- التأثير المضاعف لمصالح الشركات الألمانية: لا تنفصل تحركات المستشار الألماني تجاه الصين عن مصالح الشركات الألمانية النشيطة في الصين التي ربما تقيد أو تقلل – على أقل تقدير – وتيرة أي تحركات تستهدف تحجيم العلاقات مع بكين؛ فهناك عدد من الشركات الألمانية لديها مصالح واسعة في السوق الصينية، ومنها شركة فولكس فاغن للسيارات، التي تحقق 40% من مبيعاتها في الصين، كما أعلنت شركة الكيماويات العملاقة الألمانية باسف (BASF) مؤخراً عن مشروع استثماري ضخم في مدينة تشانغيانغ بمقاطعة غوانغدونغ بقيمة تصل إلى 10 مليارات يورو. ولدى شركتي Audi وBMW أيضاً استثمارات كبيرة في الصين.

5- أهمية الصين بالنسبة لسياسات تحول الطاقة في ألمانيا: تمثل الصين فاعلاً مهماً بالنسبة لسياسات تحول الطاقة في ألمانيا؛ فعلى سبيل المثال، تعتمد الألواح الشمسية الألمانية بشكل كبير على الواردات الصينية! حيث يتركز أكثر من 80% من تصنيع الألواح الشمسية في الصين؛ فخلال العقد الماضي، استثمرت الصين نحو 49 مليار يورو في الطاقة الإنتاجية الكهروضوئية وهو ما يمثل 10 أمثال الاستثمارات الأوروبية في المجال ذاته، وقد ساهمت هذه الاستثمارات الصينية الضخمة في خفض تكلفة الطاقة الشمسية في جميع أنحاء العالم بنسبة 80%. وفي سياق متصل، تتحكم بكين أيضاً في المواد الخام الضرورية للطاقة الخضراء، مثل الليثيوم، مع معالجة ما يقرب من 90% من العناصر الأرضية النادرة و60٪ من الليثيوم في البلاد.

تداعيات محتملة

ربما يؤدي تمسك المستشار الألماني بالانفتاح على الصين إلى بعض التداعيات المحتملة ولمتمثلة فيما يلي:

1تزايد الأزمات الداخلية أمام شولتز: مما لا شك فيه، حتى إن كان هذا التقارب يروج له المستشار الألماني – والحزب الاشتراكي الألماني من خلفه – على أنه من مقتضيات الضرورة، وأنه مناورة تكتيكية وليس قناعة راسخة بأهمية التقارب مع الصين، فإن من المتوقع ازدياد حدة الانتقادات الداخلية تجاه سياسته خلال الفترة المقبلة، خاصة من الحزب الديمقراطي المسيحي باعتباره أكبر أقطاب المعارضة وأشد المناوئين لروسيا وحلفائها في الداخل الألماني.

ورغم عدم ترجيح احتمالية تهديد هذه السياسة لبقاء شولتز في منصبه، أو ما يمكن اعتباره تكراراً للسيناريو البريطاني في ألمانيا، فإن شدة الضغط الداخلي لإبعاده عن الصين سترتفع بمجرد عدم تحقيق هذا التقارب المكثف المردود المتوقع منه، وحينها قد يدخل المستشار الألماني مرحلة الخطر السياسي؛ حيث سينضم إلى الكتلة المعارضة بعض كوادر حزبه، وهو ما يفقده الشرعية الفعلية تدريجياً حتى إن احتفظ بالمنصب دستورياً. في كل الأحوال، سيتوقف ذلك بالأساس على مدى استجابة الاقتصاد الألماني لهذا التقارب ومدى تمساك كوادر الحزب الاشتراكي والتفافهم خلف شولتز.

2- ارتفاع حدة الانتقادات الأوروبية: على صعيد الاتحاد الأوروبي، لم تفلت التحركات الألمانية الأخيرة مع الصين من حدة الانتقادات من قبل مفوضية الاتحاد الأوروبي، التي تنظر إلى المسألة من عدسة الأزمة الحالية مع روسيا؛ ففي ظل قيام معظم الدول الأوروبية بمراجعة درجة اعتمادها الكبيرة على واردات الغاز الطبيعي الروسي وتشجيع الاتحاد الأوروبي لهذا الاتجاه، يبدو أن برلين لم تتعظ من اعتماد الدول الأوروبية على دولة بعينها في مجالات حيوية، خاصة لو كانت هذه الدولة ذات أجندة عامة مناوئة. وقد تجلت أيضاً هذه الانتقادات والضغوط الأوروبية في ظل قيام بريطانيا وفرنسا بتعزيز قواتهما الموجودة في جزر المحيط الهادئ ومنطقة الهندو–باسيفيك بغية إحكام الحصار على الصين، وهي الجهود التي قد يتم عرقلتها بفعل التحركات الألمانية الأحادية.

3- تصاعد الضغوط الأمريكية: من المرتقب أن يؤدي هذا التقارب أيضاً إلى زيادة الضغوط الأمريكية على برلين؛ وذلك ليس فقط لاعتبارات التنافس العالمي بين واشنطن وبكين، لكن أيضاً لوجود بعض السوابق التي قد تعتبرها واشنطن تحولاً غير مرغوب فيه في السياسة الألمانية أو الأوروبية بشكل عام تجاهها. ففي الزيارة التي جمعت أولاف شولتز وإيمانويل ماكرون، في شهر أكتوبر الفائت، أدلى المسؤولان بتصريحات أن أوروبا لا تحبذ نمط السياسات الحمائية التي تتبعها كل من الصين والولايات المتحدة على حد سواء؛ فالأخيرة قامت باعتماد “قانون تحجيم التضخم”، الذي بموجبه تقر الحكومة الفيدرالية الأمريكية حزمة من المساعدات للمنتجين المحليين لمساعدة السوق الداخلية على كبح جماح التضخم، وهو ما تراه أكبر اقتصادات أوروبا (ألمانيا وفرنسا) إجراءات مضرة بالصادرات الأوروبية. لذلك فإن التقارب الألماني الصيني قد يُقرأ في إطار أوسع من شأنه إثارة حفيظة واشنطن وزيادة الضغوط على شولتز.

الخلاصة: إن كان الهدف الرئيسي من وراء التقارب الألماني الصيني المتنامي يتمثل بالأساس في دعم وإنعاش الاقتصاد الألماني المتعثر، إلا أن المستشار الألماني قد يقتنصه لتحقيق مكاسب سياسية أخرى هامة. مع ذلك، فإن هذا الطموح الألماني يصطدم بمجموعة من الضغوطات الداخلية والإقليمية والعالمية التي قد تعرقل النتائج المرجوة عن الخروج بسلاسة. ورغم تنوع مستويات هذه الضغوط والعراقيل، فإن مردود هذا التقارب على الاقتصاد الألماني وما قد يصاحبه من اضطرابات داخلية في حالة فشله في الإتيان بما هو متوقع منه، قد تكون هي أكثر الضغوط تأثيراً على مستقبل المستشار الألماني السياسي، رغم عدم توقع تسببها في الإطاحة به قبل انقضاء ولايته على غرار النموذج البريطاني.