في حدثٍ هو الأول من نوعه منذ عام 2017، خيم شبح الإرهاب على تركيا يوم الأحد 13 نوفمبر 2022، إثر عملية تفجيرية قامت بها امرأة وسط العاصمة اسطنبول أسفرت عن وقوع 6 قتلى، وأكثر من 81 جريح. وتنطلق أهمية قراءة دلالات تلك العملية، وتحليل تداعياتها من تزامنها مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في يونيو 2023، التي من المُتوقع أن تُعقد وسط حالة من الاضطراب والتوتر على ثلاث مستويات:
المستوى الأول، هو السلطة التركية المُتمثلة في رجب طيب أردوغان و"تحالف الشعب" الذي يضم كلاً من الحزب الحاكم "العدالة والتنمية" وحزب "الحركة القومية". والمستوى الثاني، هو المعارضة التي تُمثلها الأحزاب التركية بكتلتيها: الأولى، تُعرف باسم "تحالف الستة" الذي يضم 6 أحزاب معارضة مختلفة أيديولوجياً يأتي على رأسها حزب المعارضة الرئيسي في تركيا، حزب "الشعب الجمهوري". والثانية، تُعرف باسم "تحالف العمل والحرية"، المُكون من ستة أحزاب كردية ويسارية بقيادة حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي.
أما المستوى الثالث، فهو الشارع التركي الذي تعصف به الظروف الاقتصادية والمعيشية المُتردية، لاسيما بعد أن فقدت الليرة 40% من قيمتها منذ منتصف عام 2021 حتى منتصف العام 2022، وارتفاع التضخم إلى أكثر من 83%، وانتشار البطالة، لاسيما في ظل أزمة اللاجئين.
دلالات هامة
تحمل تفاصيل تلك العملية الإرهابية عدة دلالات هامة مرتبطة بالإطار المكاني والزماني الذي وقعت فيه، وأيضاً مرتبطة بالجهة المُنفذة لها، وذلك على النحو التالي:
أولاً، بالنسبة لمكان وتوقيت وقوع العملية، تمت العملية في شارع الاستقلال بميدان تقسيم في قلب العاصمة اسطنبول، الساعة 4:20 عصراً يوم أحد، الذي يعد عطلة أسبوعية للأتراك. وإلى جانب كون هذا الشارع طريقاً رئيسياً للمُشاة ما يجعله مُكتظاً بالمدنيين الأتراك، لاسيما أيام العطل الرسمية، هو يعتبر أيضاً وجهة سياحية هامة وحيوية بالنسبة للعرب والأجانب، نظراً لأنه يضم عدداً كبيراً من المتاجر والمطاعم الشهيرة والمعالم السياحية والفنادق المعروفة باستضافة المؤتمرات الدولية الهامة، فضلاً عن القنصليات، ومقرات البعثات الأجنبية.
ويدل ذلك على وجود دافع رئيسي وراء الهجوم لاستهداف أكبر عدد من المدنيين، سواء من سكان البلد أو من السائحين، وتوجيه ضربة قوية لقطاع السياحة في تركيا في ظل أزمة اقتصادية حادة تعيشها البلاد، خاصة أن الشارع نفسه قد شهد عام 2016 عملية إرهابية نُسبت لتنظيم "داعش" الإرهابي، أسفرت عن مقتل 5 مدنيين، وإصابة 36 كان من بينهم 12 سائحاً من جنسيات مختلفة عرب وأجانب.
ثانياً، بالنسبة لمُرتكب العملية الإرهابية، فقد جاء اختيار امرأة للقيام بالعملية انطلاقاً من عدة اعتبارت: أولها، أن النساء غالباً ما يَكُن خارج الشبهات مقارنة بالرجال، وبالتالي يسهل عليهن، نسبياً، اختراق نقاط التفتيش والاندساس وسط المجتمعات المدنية وإخفاء أية أسلحة أو قنابل تحت ملابسهن أو في حقائبهن، دون إثارة أي شكوك، خاصة أن السائد في مجال التطرف والإرهاب هو قيام الذكور بالمهام العملياتية.
وثانيها، أن العمليات الإرهابية التي تقوم بها النساء غالباً ما تُثير حالة من الهلع والخوف بين المدنيين أكثر من تلك التي يُنفذها الذكور لأنها تُخالف الصورة النمطية للمرأة كضحية للعنف والإرهاب. أما ثالث تلك الاعتبارات، فهو أن ضرب قلب اسطنبول في أكثر شوارعها اكتظاظاً وقت ذروة، يُضفي شكوكاً في مدى كفاءة عمل الأجهزة الأمنية.
ثالثاً، على الرغم من إعلان أجهزة الأمن التركية القبض على المرأة التي نفذت الهجوم، والتي اعترفت أثناء التحقيقات بأنها تدربت على يد حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب الكردية السورية، ودخلت تركيا عبر منطقة عفرين بشمال غرب سوريا، إلا أن حزب العمال الكردستاني قد نفى ضلوعه في أي عملية إرهابية قد تستهدف المدنيين، كما أنكرت قيادة قوات سوريا الديمقراطية "قسد" وجود أي صلة بينها وبين الهجوم أو مُنفذيه.
بالتالي سواء كان حزب العمال الكردستاني هو الجهة المُنفذة للعملية وفقاً للتحقيقات الأولية، أو كانت أي جهة إرهابية أخرى، فإن تأخر إعلان أي جهة عن تبنيها للعملية، أو الرغبة في عدم الكشف عن هويتها يفرض حالة من اللايقين، ويوسع من دائرة الشك والاتهام، ولعل هذا ما تهدف إليه الجهة المُنفذة للهجوم لزعزعة ثقة المواطن التركي في كفاءة أجهزة الاستخبارات التركية، لاسيما بعد سرعة الكشف عن الجاني والقبض عليه وعلى حوالي 50 شخصاً آخرين يُشتبه في صلتهم به.
دوافع مختلفة
بناءً على نتائج التحقيقات التي قامت بها أجهزة الأمن التركية والتي أعلنت ضلوع حزب العمال الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية في عملية تقسيم، وعمليات أخرى كان من المُفترض أن تتم خلال الفترة القادمة، يمكن تحليل بعض الدوافع والأسباب التي قد تكون وراء تلك العملية على النحو التالي:
1- التقارب التركي – السوري: في ضوء مساعي تركيا لإعادة رسم خريطة سياستها الخارجية استجابة لمُستجدات الساحة الإقليمية والدولية وللأوضاع والضغوط الداخلية، تصاعدت التصريحات وتزايدت الأنباء مؤخراً عن وجود تقارب تركي–سوري، برعاية روسية، لرفع مستوى العلاقة بين الأجهزة الاستخباراتية واستعادة النشاط الدبلوماسي بين البلدين، وهو الأمر الذي من المُتوقع أن يكون له انعكاسات سلبية على العديد من الأطراف في سوريا على رأسها الأكراد.
فقد تنامت تحذيرات قوات سوريا الديمقراطية لحكومة دمشق من خطوة التطبيع مع النظام التركي، باعتبارها خطوة تهدف إلى إحكام القبضة على الأكراد في شمال سوريا، من خلال التعاون والتنسيق الأمني والعسكري بين الطرفين، وتقاسم النفوذ في المناطق التي تسيطر عليها "قسد".
2- تنامي استهداف الأكراد في العراق: في إطار تبني الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لاستراتيجية تجفيف منابع الإرهاب التي تهدد الأمن القومي التركي على الحدود الجنوبية، وتزايد الحديث بشأن عملية عسكرية تركية مُرتقبة في شمال سوريا على غرار العملية العسكرية التي أطلقها أردوغان منتصف أبريل 2022 تحت مسمى "المخلب _ القفل" في شمال العراق بهدف ضرب معاقل حزب العمال الكردستاني، أفادت التقديرات الأخيرة التي أعلنتها وزارة الدفاع التركية يوم الأحد 13 نوفمبر 2022، بأن عملية "المخلب _ القفل" قد أسفرت حتى الآن عن مقتل 455 عنصراً من الحزب، وتم تدمير 557 مغارة وملجأ، وضبط 1203 قطعة سلاح، و1904 لغم وعبوات ناسفة.
3- الاضطهاد المُتزايد للسوريين في تركيا: مع اقتراب عدد اللاجئين السوريين في تركيا إلى نحو 4 مليون لاجئ، وسط ارتفاع نسب البطالة وتدهور الأوضاع المعيشية والاقتصادية، وإلى جانب الإجراءات المُتشددة ضدهم فيما يخص الإقامة أو التنقل، تصاعدت خطابات وجرائم الكراهية والعنصرية ضد اللاجئين السوريين والدعوات المطالبة بترحيلهم إلي سوريا، الأمر الذي أسهم في توظيف الأزمة من قِبل الأطراف المُتنافسة في الانتخابات القادمة، من خلال التسابق في إعلان العداء ضد اللاجئين، وجعل مسألة ترحيلهم على رأس أجندة كل طرف لإرضاء الناخبين وكسب أصواتهم.
فقد تزايدت حملات التعبئة اليومية لترحيل السوريين، وأعلنت منظمة "هيومن رايتس ووتش" يوم 24 أكتوبر 2022 أن السلطات التركية قد اعتقلت ورحَّلت مئات اللاجئين من الرجال والنساء السوريين بشكل تعسفي وقسري إلي سوريا، تحت مُسمى العودة الطوعية، في إطار مشروع أردوغان لإعادة تسكين أكثر من مليون لاجئ سوري قبل يونيو 2023.
توظيف سياسي
على الرغم من التداعيات السلبية لتلك العملية على المستويين الأمني والاجتماعي، لما خلَّفته من خسائر بشرية وتبعات نفسية، إلا أنه من المُتوقع أن توظفها القوى السياسية التركية سواء من السلطة الحاكمة، أو من المعارضة على نحو يضمن خدمة وتعزيز مصالح كل طرف منهما خلال المعركة الانتخابية القادمة.
بالنسبة لأردوغان، قد تشهد الفترة القادمة تحركاً على المستويين الداخلي والخارجي كالتالي:
على المستوى الداخلي، من المُتوقع أن يتخذ أردوغان من عملية تقسيم ذريعة لإعادة الضغط على مسألة حل حزب "الشعوب الديمقراطي"، ذي الغالبية الكردية، وتشديد الرقابة والقبضة الأمنية وفرض القيود التعسفية على المجتمع التركي، فضلاً عن شن حملة واسعة من الاعتقالات ضد كل من يُشتبه به أو بصلته بأي جهة إرهابية سواء تابعة لحزب العمال الكردستاني أو بتنظيم "داعش" الإرهابي، في إطار جهود ومساعي حماية الأمن القومي التركي، وبما يخدم مصلحته، ويُحجِّم من حرية ونشاط مُعارضيه خلال مرحلة الاستعداد للانتخابات.
أما على مستوى السياسة الخارجية، وعلى غرار العملية العسكرية الأخيرة التي أطلقتها تركيا في العراق، من المُتوقع أن يتخذ أردوغان الاتهامات الموجهة إلي الفصائل الكردية السورية، ووجود أنباء عن أن الأمر بعملية تقسيم قد صدر من مدينة "كوباني" على الحدود التركية الواقعة تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، مُبرراً ومُسوغاً -أمام الداخل التركي والمجتمع الدولي- لتسريع وتيرة العملية العسكرية في الشمال السوري، التي أعلن عنها أردوغان مؤخراً، سواء لتأمين حدود تركيا الجنوبية من خطر الإرهاب العابر للحدود، أو رغبة في استكمال مسار عودة اللاجئين السوريين إلي بلدهم الأصلي، لاسيما أن تلك الخطوة من شأنها أن تخدم شعبية أردوغان في الداخل التركي قبل موعد الانتخابات، باعتبارها حماية للأمن القومي التركي، وحلاً لأزمة ملف اللاجئين الذي تحاول المعارضة التركية استغلاله في حربها الانتخابية ضد أردوغان وحزبه الحاكم.
وعلى صعيد آخر، ستوظف المعارضة التركية عملية تقسيم في تصعيد حدة مهاجمتها واتهامها للسلطات التركية، بالتخاذل وعدم الكفاءة في تأمين الحدود التركية–السورية، رغم تنامي التهديدات الإرهابية العابرة لحدودها. فخلال اجتماع الكتلة البرلمانية يوم 15 نوفمبر 2022 استنكر رئيس حزب الشعب الجمهوري، كمال كيليتشدار أوغلو، دخول الإرهابية المُنفذة لعملية تقسيم عبر الحدود التركية-السورية بطريقة غير شرعية واستقرارها في اسطنبول حتى التخطيط والتنفيذ للقيام بالعملية، قائلاً: "كم إرهابي يُقيم الآن على أراضي الدولة التركية دون أن نعرفهم؟.. من الذي يتحمل المسئولية عن دخول الإرهابية التي نفذت تفجير تقسيم.. هناك فشل ذريع في الإجراءات الأمنية، وهناك من سمح لها بالدخول عبر الحدود والانتقال إلى إسطنبول".
ختاماً، يمكن القول إن عملية تقسيم ستشرعن للعديد من السياسات والتحركات التي ستتخذها كافة الأطراف على الساحة السياسية التركية خلال المرحلة القادمة، والتي تهدف في الأساس لخدمة مصالح كل طرف في مواجهة الطرف الآخر خلال السباق الرئاسي والبرلماني القادم في يونيو 2023.