على الرغم من الأزمة الأوكرانية التي قلبت النظام الأمني الأوروبي والعالمي، وأعادت روسيا إلى الصدارة في حسابات التهديدات الرئيسية التي تواجه الولايات المتحدة، فإن التنافس الجيوسياسي الأوسع مع الصين في منطقة الهندو-باسيفيك لا يزال نقطة الارتكاز التي يهتم بها النظام العالمي، خصوصاً فيما يتعلق بقضيتي جزيرة تايوان وترسيم حدود بحر الصين الجنوبي اللتين تحظيان بأهمية بالغة في السياسات الأمريكية والصينية، وخاصة منذ العقد الماضي؛ إذ أضحت الولايات المتحدة تدرك أن الصين قد تحولت لخصم استراتيجي ربما تتفوق خطورته على خطورة الاتحاد السوفييتي في أفضل أوقاته؛ الأمر الذي أعطى فرصاً مواتية لجزر المنطقة للاستفادة من هذا التنافس والتحرك بين صفوف الجانبين من أجل حصد أكبر قدر من المكاسب الممكنة.
تنافس محتدم
يشهد العالم تأججاً واضحاً في التنافس الدائر بين الصين والولايات المتحدة؛ وذلك في عدة ملفات ومناطق استراتيجية مختلفة، وعلى رأسها منطقة الهندو-باسيفيك، هذا التنافس أخذ في طياته أشكالاً وصوراً متعددة، يمكن تناول أبرزها على النحو التالي:
1- تصاعد حدة التنافس الاقتصادي: في السنوات الخمس الأخيرة، شهدت المنطقة بعض التراجع في قيادة الولايات المتحدة للشؤون التجارية والقضايا الاقتصادية، وقد تم تعويض هذا الفراغ الأمريكي من خلال زيادة الجهود الصينية لترسيخ مكانتها كقوة اقتصادية مهيمنة في تشكيل قواعد التجارة والمشاركة الاقتصادية؛ حيث عملت مبادرة الحزام والطريق، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومشاركة الصين في اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة والجهود المبذولة لتوسيع دول البريكس على تحقيق هدف بكين المتمثل في زيادة نفوذها العالمي، وخاصة في محيطها الإقليمي.
لقد دفعت هذه التحركات الصينية واشنطن إلى إعادة تأكيد حضورها في المنطقة، ولكن خلال جولة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى شرق آسيا في مايو 2022، أطلق مفاوضات الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ (IPEF)، التي تلقت دعماً فورياً من كوريا الجنوبية واليابان، اللتين تشتركان معها في رؤى مماثلة لتوسيع المعايير الليبرالية حول المشاركة الاقتصادية والرقمية والتجارية في المنطقة، كما استضافت واشنطن، في شهر سبتمبر الماضي، قمة مشتركة مع دول جزر المحيط الهادئ.
2- الصدام حول أهداف الاستراتيجية الأمريكية: في فبراير الماضي، أصدرت واشنطن استراتيجيتها الخاصة بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، التي توضح أولويات سياستها في المنطقة، وخاصة احتواء النفوذ الصيني المتصاعد؛ إذ تؤكد الاستراتيجية المخاوف الأمريكية من الوجود الصيني، وهو ما دفع وزير الخارجية الصيني وانج يي إلى اتهام الاستراتيجية بمحاولة استقطاب دول المنطقة تحت مظلة الهيمنة الأمريكية، وهو ما سيؤدي بدوره إلى إثارة التوترات وإفساد منطقة الهندو-باسيفيك، ومن ثم فإن جوهرها يخلق حالة من الانقسامات ويحرض على المواجهة وتقويض السلام، بل حث وانج يي شعوب المنطقة على أن تحذر من الخطط الأمريكية بشدة، منوهاً بأن سيناريو الحرب الباردة الذي عفا عليه الزمن يجب ألا يتكرر في آسيا، وأن الاضطرابات والحروب التي قد اندلعت في مناطق أخرى من العالم بسبب السياسات الأمريكية، لا مكان لها في هذه المنطقة.
3- التوسع في شبكات التحالفات الغربية: تعتمد الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة الصعود الصيني على إقامة تحالفات أمنية وعسكرية في نطاق ضيق؛ حيث أقدمت الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة على تشكيل مجموعة من التحالفات الأمنية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وعلى رأسها تحالفات كواد وأوكوس والعيون الخمس، التي تضم معاً أبرز الدول المؤثرة في المنطقة، خاصة اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية والهند. وبوجه عام، تهدف شبكة التحالفات الأمريكية إلى تحقيق مساهمة أساسية في الأمن الإقليمي للمنطقة برعاية أمريكية، حتى تزاحم النفوذ الأمني الصيني هناك؛ ما قد يخلق حالة من التوترات المحتملة في هذه البقعة الساخنة من العالم.
4- استمرار التوترات حول ملف تايوان: لا تزال تايوان واحدة من بؤر الصدام بين الصين وبكين، ولعل هذا ما دللت عليه زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي “نانسي بيلوسي”، في أغسطس 2022، إلى تايوان؛ حيث أدت الزيارة إلى اندلاع سلسلة من الأنشطة العسكرية الصينية الواسعة عبر مضيق تايوان، وجلبت التوترات الجيوسياسية بين الصين والولايات المتحدة؛ إذ أعقبها إرسال بكين 21 طائرة إلى منطقة الدفاع الجوي التايوانية، ودفعت بالدبابات إلى ساحل فوجيان، ونشرت مركبات لجيش التحرير الشعبي في جزيرة بينتانج. وفي المقابل نقلت واشنطن إحدى حاملات طائراتها، وهي يو إس إس رونالد ريجان، ومجموعتها الضاربة شمال شرق تايوان من سنغافورا.
6- النزاع حول بحر الصين الجنوبي: من النقاط الحيوية التي يتصارع عليها الجانبان في منطقة الهندو-باسيفيك، وقوع بحر الصين الجنوبي في نطاقها الجغرافي؛ حيث يقع البحر بين شرق المحيط الهندي وغرب المحيط الهادئ، ويحتوي على عدد كبير من الجزر الصغيرة والمهمة، كما يسيطر على ما يقدر بنحو 11 مليار برميل من النفط، و190 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي. ويمتلك بحر الصين الجنوبي أهمية استراتيجية كبيرة أيضاً بسبب وقوعه في نطاق مسارات الشحن البحرية الأكثر كثافةً في العالم التي يمر عبرها ما يزيد عن نصف التجارة الدولية، وهو الأمر الذي جعله مسار تنافس بين دول المنطقة والقوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والصين؛ لضمان تأمين المصالح الجيوسياسية لهذه الأطراف.
سياسة التحوط
بالرغم من الضغوط التي تفرضها ديناميات التنافس بين بكين وواشنطن على النفوذ في جزر الهندو–باسيفيك، فإن هذا التنافس يدفع الجزر إلى ابتكار آليات مختلفة للتفاعل مع القوى الكبرى، والاستفادة منها. وفي هذا الصدد، راهنت جزر الهندو-باسيفيك على سياسة التحوط الاستراتيجي Strategic Hedging التي تشير إلى “سلوك بلد يسعى إلى تعويض المخاطر عن طريق اختيار سياسات متعددة الأطراف بقصد إحداث آثار تفاعلية متبادلة”. وتهدف هذه الاستراتيجية إلى تجنب سياسة معينة – وهي الموازنة أو الحيادية أو مسايرة التهديد – وتسعى إلى تقليل المخاطر المحتملة فيما يتعلق بالقوى الكبرى دون مواجهة أي منهما. ويتم استخدام التحوط الاستراتيجي عندما لا ترغب الدول في دعم أي من الجانبين، خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى مخاطر أمنية أكبر.
وفي هذا الإطار، أكدت جزر الهندو–باسيفيك، في أكثر من مناسبة، رغبتها في تطوير علاقات متوازنة مع كافة الأطراف الإقليمية والدولية، ولعل هذا ما تجلى في تفاعل هذه الجزر مع كل من الولايات المتحدة والصين؛ ففيما واصلت هذه الجزر تدعيم علاقاتها مع بكين بما في ذلك العلاقات الأمنية على غرار ما تضمنه الاتفاق الذي جرى توقيعه مع جزر سليمان في شهر أبريل الفائت، فإنها في الوقت ذاته حافظت على تقاربها مع واشنطن، وهو ما أظهرته القمة التي جمعت واشنطن بدول جزر المحيط الهادئ، في شهر سبتمبر الماضي؛ إذ أعلن الرئيس الأمريكي “بايدن” في القمة عن تمويل بقيمة 810 ملايين دولار للدول الجزرية في المحيط الهادئ، وشددت الدول المشاركة على أهمية التعاون والشراكة فيما بينها.
مكاسب رئيسية
لا يمكن إغفال أن السياسات التي تتبناها جزر الهندو-باسيفيك تجاه واشنطن وبكين تساعدها في تحقيق بعض المكاسب الجوهرية، التي يمكن تناولها على النحو التالي:
1- الحصول على مساندة الطرفين سياسياً: في إطار استمرار تصاعد حدة التنافس الصيني-الأمريكي، لا تزال جزر منطقة الهندو-باسيفيك تحتفظ بعلاقات وثيقة مع واشنطن وبكين، بهدف تحقيق أكبر المكاسب الممكنة؛ إذ استمر ارتباط بكين بجزر المنطقة في النمو خلال الأعوام الأخيرة، وظهر ذلك من خلال الاتصالات المتكررة بين الرئيس الصيني ورؤساء عدد من جزر الهندو-باسيفيك. وعلى الجانب الآخر، أعلنت الولايات المتحدة عن نيتها اتخاذ نهج حكومي متكامل لتعزيز المشاركة مع جزر المحيط الهادئ في عدة مجالات، مثل الدفاع والبنية التحتية والصحة والتعليم وتغير المناخ والأمن البحري، لا سيما إعطاء الاستراتيجية الأمريكية الأولوية لتجديد ميثاق الارتباط الحر مع بالاو وجزر مارشال وولايات ميكرونيزيا الموحدة.
2- استقطاب الدعم العسكري والأمني: لا تزال منطقة الهندو-باسيفيك تواجه إشكالات عديدة في ترسيم الحدود بين الدول، وهو الأمر الذي يُكسب صراعات الجزر المزيد من الزخم، ولعل النموذج الأبرز لذلك جزر بحر الصين الجنوبي؛ فقد أثارت مطالبات الصين الكاسحة بالسيادة على بحر الصين الجنوبي عداء دول الجوار، بيد أن هذه الدول استطاعت الحصول على دعم عسكري كبير من الولايات المتحدة، وهو الدعم الذي منحها ضمانة كافية إلى حد ما تجاه الشعور بالاطمئنان من وجود أكبر قوة عسكرية عالمية تساندها أمام الاستفزازات والتحركات الصينية في بحر الصين الجنوبي.
3- تعزيز سلطة بعض الحكومات في الهندو-باسيفيك: تكشف تطورات الأوضاع في منطقة الهندو-باسيفيك خلال السنوات الماضية عن مساعي بعض الحكومات لتوظيف التنافس الصيني الأمريكي من أجل تعزيز سلطتها داخلياً، ولعل هذا ما كشف عنه الاتفاق الموقع بين بكين وجزر سليمان، في شهر أبريل 2022، ويسمح للسفن الصينية بالإقامة والتجديد في موانئ الجزيرة، بالإضافة إلى إمكانية نشر الصين قوات عسكرية وشرطية في الجزيرة؛ فقد بدا هذا الاتفاق أداة لتعزيز سلطة ونفوذ رئيس وزراء جزر سليمان “منسي سوجافاري” ومواجهة أي اضطرابات داخلية تؤثر على حكمه.
4- ضمان تدفق الدعم المالي: فقد حصلت دول الهندو–باسيفيك على مساعدات كبيرة من القوى الإقليمية والمتنافسة خلال السنوات الماضية، وظهر ذلك مثلاً خلال جائحة كورونا. وبحسب تقديرات معهد لوي الأسترالي ارتفعت حجم المساعدات المالية الموجهة لجزر المحيط الهادئ بنحو 47% عام 2020، مقارنة بعام 2019، كما ارتفع حجم إجمالي القروض التمويلية، بحسب تقديرات أوردتها صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، إلى 4.2 مليار دولار في العام ذاته، وهو يعد أعلى رقم قياسي يعادل تقريباً الناتج المحلي الإجمالي لجزر فيجي، كما قدمت المؤسسات الصينية المختلفة جملة من المساعدات لتونجا في أعقاب الانفجار البركاني وتسونامي في يناير 2021، التي وصلت إلى نحو 3.5 مليون دولار.
5- محاولة الترويج للتصورات الأمنية لدول المنطقة: تحاول جزر الهندو-باسيفيك استغلال التنافس الصيني الأمريكي من أجل الترويج لتصوراتها الأمنية؛ إذ تحاول الجزر إقناع القوى الكبرى بضرورة أخذ تخوفاتها الأمنية في الحسبان وخصوصاً من منظور التعريف الموسع للأمن الذي يشمل التهديدات الأمنية غير التقليدية، مثل تحديات التغير المناخي وأنشطة الصيد غير القانونية، وهي قضايا ربما لا تأتي في أولوية أجندة القوى الدولية المتصارعة على النفوذ في الهندو-باسيفيك. وقد عبر عن هذه المعضلة وزير الدولة للشؤون الخارجية في جزر المالديف “أحمد خليل”، أثناء منتدى حوار جزر الهندو-باسيفيك” الذي عقدته مؤسسة كارنيجي ومؤسسة ساساكاوا للسلام في سبتمبر 2021؛ حيث قال: “بالنسبة للعديد من البلدان الأخرى، فإن التهديدات مثل الصيد غير القانوني وتغير المناخ، تأتي على الهامش. ولكن بالنسبة لبلد مثل جزر المالديف، فإن هذه التهديدات مسألة حياة أو موت”.
خلاصة القول أن التنافس بين بكين وواشنطن على توسيع نطاق نفوذهما على حساب الأخرى قد خلق بيئة جاذبة لجزر منطقة الهندو-باسيفيك لكي تحصل على مجموعة من المكاسب الاستراتيجية التي قد تساعدها على الصمود أمام الأزمات العالمية المتلاحقة، بداية من الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة إلى الأزمة الروسية-الأوكرانية وصولاً إلى توترات المنطقة على خلفية التهديدات الصينية المتكررة باجتياح الأراضي التايوانية.
كما يبدو أن التحالفات العسكرية الغربية في المنطقة، التي تقودها الولايات المتحدة، لن تعيد للأذهان فقط صورة واشنطن كحليف عسكري قوي، ولكنها ستؤسس لمرحلة جديدة، عنوانها الصراع الجيوسياسي الحاد بين الصين من جهة وبين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة أخرى، وتعزز تشكيل فرص الحرب الباردة الجديدة بين الجانبين، ولكن في ثوب مختلف ليس قائماً على تكوين كتل جيوسياسية صلبة على غرار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، لا سيما أن التنافس على القيادة في المحيطين الهندي والهادئ مهيأ للاشتداد مع استمرار انخراط الولايات المتحدة في المنطقة وربط مصالحها بمصالح المنطقة اقتصادياً عبر مجموعة من المبادرات والمنتديات مثل منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ الذي تستضيفه واشنطن في عام 2023.