• اخر تحديث : 2024-03-28 03:17
news-details
قراءات

كيف تصاعدت التوترات بين فرنسا وإيطاليا في الآونة الأخيرة؟


رغم تصاعد التهديد العسكري على حدود الاتحاد الأوروبي باندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، فإن الأزمات الداخلية بين دول الاتحاد تثبت أنها لا تقل خطراً عن تهديدات الخارج. ويبدو أن تأثيرات حرب أوكرانيا قد بدأت تنطبع على المشهد السياسي في عدد من الدول الأوروبية الهامة، وانعكست في صورة مراجعات لأولوياتها بل ولفاعلية نخبها الحاكمة. فبعد تصاعد التوترات الفرنسية الألمانية على خلفية اعتماد الأخيرة المتزايد على الغاز الروسي، بدأت ترتفع نبرة الخلافات بين فرنسا وإيطاليا على خلفية قضية المهاجرين، التي ترتبط بعض أسبابها بالظرف الراهن، بينما يعود البعض الآخر إلى أزمنة سابقة وخلافات تاريخية، ولكن ساهم الظرف الراهن في استدعائها بل تصعيدها.

أبعاد التوتر

تصاعدت التوترات بين فرنسا وإيطاليا في الآونة الأخيرة، وهي التوترات التي ارتبطت ببعض الأبعاد الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1- أزمة السفينة “أوشن فايكينج”: احتدت الخلافات بين فرنسا وإيطاليا فيما يتعلق بقضية المهاجرين بعدما شجبت فرنسا، يوم 10 نوفمبر الجاري، موقف إيطاليا – الذي وصفته بـ”غير المفهوم وغير المقبول” – برفضها استضافة اللاجئين القادمين إليها على متن سفينة أوشن فايكينج (Ocean Viking) لأكثر من 15 يوماً؛ ما تسبب في أول أزمة دبلوماسية بين الحكومتين الجديدتين في البلدين. وفي حقيقة الأمر، تعود هذه الأزمة إلى عام 2011 عندما نزح آلاف التونسيين إلى إيطاليا بعد اشتعال الاضطرابات في المنطقة العربية؛ حيث عكفت إيطاليا آنذاك على منحهم “تصاريح إقامة مؤقتة” تتيح لهم التوجه نحو فرنسا دون أحقية من الأخيرة لرفض دخولهم البلاد، وهو ما جعل الاتحاد الأوروبي ينشئ آلية تضامنية لإعادة توطين المهاجرين بين أكثر الدول المستقبلة للمهاجرين، وعلى رأسها فرنسا وإيطاليا وألمانيا لمنع تكدسهم في بلد واحد.

2- التصريحات التصعيدية من الجانب الفرنسي: صاحب القرارَ الإيطالي تصعيدٌ من الجانب الفرنسي؛ حيث أعلن وزير الداخلية الفرنسي “جيرالد دارمانين” أن فرنسا سترحب “بشكل استثنائي” بسفينة أوشن فايكينج، إلا أنها في المقابل لن يتسنى لها استقبال ما يقرب من 3500 مهاجر من المتوقع وصولهم إلى فرنسا من إيطاليا في الصيف المقبل. وما فاقم تعقيدات الأزمة، قيام وزير الداخلية الفرنسي بدعوة الحكومة الألمانية إلى أن تحذو حذوه وتوقف العمل بهذه الآلية الأوروبية التشاركية، كما أعلن أن فرنسا ستشدد الإجراءات الحدودية مع إيطاليا لمنع تسلل أي أشخاص غير مصرح لهم، ناهيك عن التلويح بإمكانية تأثير ذلك على مجمل العلاقات الثنائية بين البلدين.

3- سياسة الضغط المتبادل من جانب إيطاليا: فاقم من حدة الأزمة رد الفعل الإيطالي الفوري على وزير الداخلية الفرنسي؛ فبعد ساعات قليلة من تصريحات المسؤول الفرنسي، شجب وزير الداخلية في حكومة “جورجيا ميلوني” ماتيو بينتيدوسي، القرار الفرنسي المتعلق بالإجراءات الانتقامية ضد روما، ووصفه بأنه “غير مفهوم”؛ حيث أرجع البعض هذا الامتعاض الإيطالي إلى رؤية روما بعدم وجوب قبولها بعض الإجراءات التي ترفض الدول الأخرى القيام بها، ومنها استضافة أعداد كبيرة من اللاجئين.

هذا وتجدر الإشارة إلى أنه قد وصل ما يقرب من 90 ألف لاجئ إلى إيطاليا هذا العام، وتعهدت 13 دولة أوروبية باستضافة ما مجموعه 8000 شخص، أي أقل من العُشر، وهو ما ينظر إليه باعتباره رقماً ضئيلاً للغاية من قبل روما، خاصة أن فرنسا استضافت حتى الآن 38 شخصاً فقط، كما تنظر إيطاليا إلى هذه المسألة من مقاربة مختلفة مفادها أن الآلية التضامنية الأوروبية لا تعني أن الدول الأخرى تتفضل على دول وصول اللاجئين عن طريق استقبال بعضهم، بل تعني أن المسؤولية مشتركة، وأن إعادة توطينهم ما هي إلا مسألة وقت وفقاً لمقتضيات الضرورة الجغرافية التي توجب عليهم فقط المرور أولاً بالأراضي الإيطالية، وهي مقاربة تختلف نوعاً ما عن الرؤية الفرنسية لهذه المسألة.

المسارات المحتملة

يستدعي مستقبل التوترات الراهنة بين إيطاليا وفرنسا بعض المسارات المحتمة المتمثلة فيما يلي:

1- التهدئة واستقرار الوضع بصورة سريعة: من ضمن المسارات المحتملة لهذه الأزمة هو تراجع الحكومة الإيطالية عن هذا النهج المتشدد بعد فترة زمنية قصيرة؛ حيث قد تعتقد فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية أنه من المحتمل أن يكون اتباع حكومة ميلوني لهذا النهج نوعاً من إثبات ولائها وجديتها أمام الناخبين الإيطاليين والرأي العام في تنفيذ معتقدات أحزاب اليمين المتطرف. ويستند أنصار هذا الرأي إلى تصريحات وزير الداخلية الفرنسي “جيرالد دارمانين” التي أدلى بها يوم 4 نوفمبر الجاري بأنه لا “يشك” في أن إيطاليا ستحترم القانون الدولي وتستقبل “أوشن فايكينج”؛ وذلك قبل أن يدلي بتصريحات أكثر حدة في وقت لاحق.

كما يفترض أنصار هذا الرأي أن المسألة الخلافية ذات طبع قانوني واضح، وغير قابلة للتأويلات السياسية، وهو ما تنتفي معه احتمالية إمعان إيطاليا في مخالفة قاعدة من قواعد القانون الدولي المستقرة؛ حيث تشير قواعد القانون الدولي ذات الصلة إلى أنه يتوجب على أقرب ميناء للقارب الذي يحمل على متنه شخصاً كان قابلاً للغرق، استقبال هذا القارب وإيواء من عليه”، وهو حال القارب المشار إليه في الحالة الإيطالية. إلا أن هذه الاحتمالية بدأت في التراجع تدريجياً بعد تطور ردود أفعال الجانبين.

2- التصعيد الحاد والتأثير على ملف الهجرة: إن أحد العوامل الرئيسية التي ترجح احتمالية تصاعد هذه الأزمة هو وجود رئيسة وزراء إيطالية – وهي جورجيا ميلوني – تنتمي إلى حزب يميني متطرف (حزب إخوة إيطاليا)، ويصنف على أنه أكثر الأحزاب المتطرفة في البلاد منذ سقوط الفاشية. هذا الأمر ينبئ بأن تطور الموقف لا يرتبط ببعض العوامل الظرفية أو حدث بعينه بل أنه سياسة مستقرة لفترة من الزمن سترتبط ارتباطاً وثيقاً ببقاء الحزب اليميني المتشدد في الحكم.

ويدعم هذه الفرضية المضايقات التي تعرضت لها 3 سفن أخرى، منها سفينة تنتمي إلى منظمة أطباء بلا حدود، في المياه الإقليمية الإيطالية؛ حيث رفضت السلطات في روما دخولها لفترة من الوقت؛ وذلك قبل السماح لها بالدخول أخيراً. يضاف إلى ذلك مستوى الغضب الكبير السائد داخل الحكومة الفرنسية التي ترى أن إيطاليا هي أكثر الدول استفادة من الآلية التضامنية الأوروبية لإعادة توطين النازحين واللاجئين، وأن فرنسا هي أكثر الدول التي تحملت تكاليف هذه الآلية على كاهلها، وفي الأخير تقوم روما بالتنصل من مسؤولياتها المحدودة نسبياً وتحمل باريس مزيداً منها. من هنا، يعتقد البعض أن هذا التصعيد من شأنه التأثير على سياسات الهجرة في أوروبا بشكل عام، وأنها ستشهد مراجعات خلال الفترة المقبلة.

3- احتمالية امتداد التصعيد إلى العلاقات الثنائية بشكل عام: تثار أيضاً احتمالية أن يمتد هذا التصعيد ليشمل مجمل العلاقات الثنائية بين البلدين، وليس فقط ملف الهجرة واللجوء. ويستند أنصار هذا التيار إلى منطق مفاده أن سياسة الهجرة واستقبال اللاجئين في أوروبا سياسة مستقرة، تحتاجها الدول الأوروبية بقدر ما تتحمل تكاليفها، ومن ثم فإن الخلافات في هذا المجال قد لا يفضل أن ترتب نوعاً من المراجعة الشاملة لسياسات الهجرة واللاجئين على المستوى الأوروبي وحينها قد تضطر كل دولة للضغط على الأخرى في مجالات أخرى. ولعل أهم المجالات التي قد تشهد ضغطاً متزايداً بين فرنسا وإيطاليا، مبيعات الأسلحة، والتعاون الاستخباراتي، وتنسيق السياسات إزاء دول شمال أفريقيا ومنها ليبيا وتونس.

الخلاصة: إن كانت موضوعات الهجرة واللاجئين تمثل الشرارة التي أشعلت الأزمة الحالية بين فرنسا وإيطاليا، فإن وتيرة التصعيد بين البلدين تنبئ بوجود مزيد من الأزمات في المستقبل القريب. هذا وإن كان سيناريو التهدئة وعودة الأمور إلى نصابها لا يزال قائماً، ولكن المعطيات الحالية تؤشر على أن سيناريو تأثر العلاقات الثنائية بشكل أوسع هو الأكثر ترجيحاً ولو على نطاق محدود.