• اخر تحديث : 2024-04-22 16:34

تمثل التغيرات المناخية بما تفرضه من تداعيات على كافة المستويات سياسياً واقتصادياً وأمنياً، واحداً من أكبر التهديدات التي تواجه البشرية في الفترة الراهنة وفي السنوات المقبلة. وفي ضوء تنامي التهديدات المستقبلية المرتبطة بظاهرة التغيرات المناخية، بدأ المجتمع العالمي برمته في الاهتمام بما يُعرف بـ "سياسات تحول الطاقة"، ويُقصد بتحول الطاقة أو "الانتقال الطاقوي" تهميش دور النفط والغاز الطبيعي والفحم بشكل كبير من معادلات الطاقة العالمية، والاستعاضة عنها بمصادر الطاقة المتجددة النظيفة كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح في الاستخدامات المختلفة.

ومع تركيز معظم التحليلات والدراسات التي تناولت ظاهرة التغيرات المناخية على الأبعاد الأمنية الإنسانية المرتبطة بالظاهرة، إلا أن الظاهرة التي تُسميها بعض الدوائر الغربية بـ "الجيوش الخضراء" لم تحظ بنصيب واسع من التناول. ويُقصد بالجيوش الخضراء "تحول الجيوش نحو استخدام مصادر الطاقة الصديقة للبيئة والمتجددة"، من خلال السعي إلى إحداث تغييرات استراتيجية في بنية الجيوش والتوجه نحو بناء منظومات تُقلل من الاعتماد على الأسلحة التي تزيد من الانبعاثات الكربونية، بجانب الاعتماد على مصادر الطاقة النظيفة لتوفير الاحتياجات الطاقوية للجيوش، فضلاً عن التحول في استراتيجيات الجيوش والانتقال من عقيدة مواجهة التهديدات التقليدية، ووضع التهديدات غير التقليدية وظاهرة التغيرات المناخية على رأس أولوياتها.

توجه متنامٍ لبناء "جيوش خضراء"

وضع القائمون على التخطيط الاستراتيجي في الجيش البريطاني عدداً من الأهداف التي تسعى المملكة المتحدة إلى تحقيقها على مستوى الجيش البريطاني بحلول عام 2050، وهي الأهداف التي يُمكن إجمالها في فكرة التحول نحو "الجيش الأخضر". ومن أهم الأهداف التي وضعها مسئولو الوزارة في هذا الصدد: بناء سلاح جوي يكون خاليا تماماً من الانبعاثات الكربونية. بجانب الاعتماد على الوقود المتجدد لتلبية نصف احتياجاتهم من الطاقة، والبحث عن خطط تستهدف أن يتم الاعتماد على الطائرات والمركبات الجوية التي تدار عبر البطاريات لخفض الانبعاثات بنسبة 80% تقريباً خلال العقد ونصف العقد القادمين.

 وقد أشار الجنرال البريطاني ريتشارد نيجي المسئول عن تغير المناخ والاستدامة بوزارة الدفاع البريطانية، إلى أن هذا التحول الأخضر للجيش البريطاني لا يُغفل في المقابل "تعزيز القدرة العسكرية أو على أقل تقدير، عدم الانتقاص منها"، مؤكداً أن الهدف من هذا التوجه يتمثل في "جعل الجيش البريطاني أكثر الجيوش الصديقة للبيئة".

وفي السياق ذاته، أشار المارشال البريطاني السير مايكل فيجستون القائد في سلاح الجو، إلى أن "تحويل الأسطول البريطاني من المقاتلات وقاذفات القنابل والناقلات وطائرات النقل نحو استخدام الوقود الحيوي البيولوجي، يمكن أن يجعل سلاح الطيران يصل إلى مرحلة الحياد الكربوني بالكامل بحلول عام 2040، أي قبل عشر سنوات من الموعد المحدد له مسبقاً.

 

 وقد عبرت هذه التصريحات والاستراتيجية الجديدة للجيش البريطاني عن توجه جاد يستهدف تحقيق "التحول الأخضر" للجيش البريطاني على المدى المتوسط والبعيد، مع التركيز على عدم تأثير هذا التوجه على قوة وقدرات الجيش البريطاني على المستوى العملياتي.

وعلى منوال الجيش البريطاني نفسه، سعت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى تبني إجراءات تدفع باتجاه جعل الجيش الأمريكي من الجيوش الصديقة للبيئة، كجزء من الجهود الأمريكية للحد من التلوث بنسبة 50 إلى 52%على مدى العقد المقبل. وقد أشارت جريدة "بوليتيكو" لأول مرة في مارس 2021 إلى أن البنتاجون يأمل في أن تعتمد جميع المركبات التابعة للجيش الأمريكي على الطاقة الكهربائية بحلول عام 2030.

 وقد خصص بايدن في ميزانية الدفاع الأمريكية التي اعتمدتها إدارته مبلغاً مالياً كبيراً بقيمة 617 مليون دولار للتحول المناخي لوزارة الدفاع الأمريكية، مع تركيز أكثر من 40% من الأموال على جعل قواعد الجيش الأمريكي أكثر مرونة في مواجهة الاضطرابات الجوية الشديدة، وفي إطار الميزانية الجديدة، تخطط الوزارة أيضاً لإنفاق ما يقرب من 200 مليون دولار أمريكي على نماذج تكنولوجيا الأسلحة الأقل اعتماداً على الوقود الأحفوري و153 مليون دولار أخرى لتحسين كفاءة استخدام الطاقة للطائرات والسفن والمركبات العاملة بالفعل.

والجدير بالذكر أن هذا التوجه الأمريكي بدأ منذ سنوات، فعلى سبيل المثال أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية في فبراير 2017 أنها تسعى إلى تطوير "ذخيرة صديقة للبيئة"، وأشارت الوزارة في ذلك الوقت إلى أن الهدف من هذا التوجه هو إنتاج "ذخائر قابلة للتحلل وصديقة للبيئة، إذ تحتاج الذخائر التقليدية مائة سنة أو أكثر لتتحلل، الأمر الذي يأتي بتداعيات سلبية على البيئة".

دوافع التوجه نحو "الجيوش الخضراء"

باتت الجيوش العسكرية فعلياً تلعب دوراً مهماً على مستوى التعاطي مع ظاهرة التغيرات المناخية، سواءً على مستوى دورها في مواجهة الظاهرة، أو على صعيد التوجه نحو بناء جيوش تقوم استراتيجياتها وبنيتها الداخلية على التعاطي مع التغيرات المناخية. ويُمكن إجمال دوافع هذا التوجه على النحو التالي:

1- التماشي مع الاستراتيجيات الوطنية لمواجهة الظاهرة: أحد الاعتبارات الرئيسية التي تقف خلف توجه العديد من الدول نحو بناء "جيوش خضراء" صديقة للبيئة، يتمثل في كون هذا التوجه جزءاً من الاستراتيجيات الوطنية والعالمية الرامية إلى مواجهة تداعيات ظاهرة التغيرات المناخية والتكيف معها والتحجيم من خطرها.

إذ دفعت التغيرات المناخية صانعي السياسات في كافة دول العالم إلى جعل فكرة "التحول الطاقوي" على رأس المحددات الحاكمة لوضع أي استراتيجات وطنية خاصة بكافة المؤسسات بما في ذلك مؤسسة الجيش، إذ ليس من المتصور أن تتبنى الدول استراتيجيات تستهدف الحد من الانبعاثات الحرارية، في الوقت الذي تستمر فيه الجيوش في استخدام آليات عسكرية من طائرات ودبابات وصواريخ تُساهم في زيادة معدلات هذه الانبعاثات، وعلى سبيل المثال يعتمد الجيش الأمريكي وهو من أكثر الجيوش تقدماً في العالم، في تشغيل آلياته العسكرية على الوقود بنسبة 40%.

2- تأثير التغيرات المناخية على الصراعات المسلحة: ذهبت العديد من التقديرات والدراسات إلى أن التغيرات المناخية سوف تدفع في السنوات المقبلة باتجاه زيادة معدلات الصراع المسلح في العديد من النطاقات الجغرافية، وأشارت بعض الدراسات الغربية إلى أنه "إذا لم يتم تخفيض الانبعاثات الحرارية العالمية، فإن خطر العنف الناجم عن المناخ سوف يزيد بمعدل خمسة أضعاف"، خصوصاً مع الزيادة المحتملة في معدلات التنافس على الموارد الطبيعية، وهي اعتبارات تزيد من الحاجة إلى إحداث تغييرات هيكلية واستراتيجية في بنية الجيوش للتعامل مع التهديدات المستقبلية المرتبطة بظاهرة التغيرات المناخية.

3- التأثيرات السلبية للتغيرات المناخية على الجيوش: يرتبط توجه بعض دول العالم نحو بناء جيوش صديقة للبيئة، بالتأثيرات السلبية للتغيرات المناخية على عمل الجيوش نفسها، وقد أشارت بعض التقديرات إلى أن ارتفاع درجات الحرارة في منطقة الشرق الأوسط تقع على رأس التحديات التي تواجه عمل القوات الأمريكية في المنطقة، إذ تساهم ظاهرة ارتفاع درجات الحرارة في إصابة العديد من المقاتلين بشكل يومي بالإجهاد الحراري وضربات الشمس أو الإرهاق، وهي تداعيات تُقلل من قدرة المقاتلين على التحمل.

وتُشير بعض الدراسات إلى أنه وفي أثناء الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، عانى خمسون فرداً أمريكياً من أصل ألف من المنتشرين في العراق من صدمات واختلالات وظيفية ناتجة عن الحرارة. أما في صفوف الجنود البريطانيين، فقد كانت 15% من حالات العلاج في المستشفيات بسبب أمراض مرتبطة بالحرارة، وقد وصل مجموع هذه الحالات إلى 800 حالة.

وبالإضافة للتداعيات على مستوى الحالة الصحية للجنود والمقاتلين، تُساهم التغيرات المناخية على المدى المتوسط والبعيد في تعطيل بعض المعدات والآليات العسكرية، وقد أشارت بعض الدوائر على سبيل المثال إلى أن المقاتلة الأمريكية "أم برادلي" والطائرات القتالية "إف 35" لا تحظى بالثقة الكاملة من قبل الجيش الأمريكي في ظل درجات الحرارة المرتفعة. كذلك تُساهم الملوحة الزائدة التي تعد أحد ارتدادات التغيرات المناخية، في التآكل المتزايد في بعض المعدات العسكرية البحرية، ومشاكل تقنية في التوربينات الخاصة بالسفن.

فضلاً عن ذلك، فإن درجات الحرارة المرتفعة تؤثر على العمليات الجوية للجيوش، إذ أنها تُحتم على الجيوش التقليل من أوزان الحمول الموجودة على الطائرات الحربية، وتُقلل من عدد العمليات التي يتم تنفيذها عبر هذه الطائرات. كذلك تؤثر الحرارة المرتفعة على عمل أجهزة الرادار والرصد وأنظمة التحكم، الأمر الذي يُؤثر على قدرة هذه الأجهزة على رصد الطائرات المسيرة التي يتم التحكم فيها عن بُعد، إلى جانب أن العواصف الرملية والترابية تُقلص من القدرة على الرؤية، وكلها اعتبارات تؤكد أن التغيرات المناخية تؤثر على المهام والخطط العسكرية للجيوش، وتُحتم على الجيوش إعادة بناء استراتيجياتها بما يتفق وهدف مواجهة التغيرات المناخية.

4- العلاقة بين التغيرات المناخية والأمن الدولي: شهدت قمة حلف شمال الأطلسي التي عُقدت في يونيو 2021، نقاشاً موسعاً حول العلاقة بين التغيرات المناخية والأمن العالمي، وفي سياق متصل أصدرت مجموعة الخبراء التابعة للمجلس العسكري الدولي الخاص بالمناخ والأمن (IMCCS) تقريرها السنوي الثاني حول المناخ والأمن في العالم، محذرةً من "العواقب الوخيمة لتغير المناخ على الأمن"، وهي العواقب التي تتطلب تكييف الأمن العالمي على الفور مع المناخ على جميع المستويات، وأن يتم التركيز بشكل أكبر على دور الجيوش في الاستجابة لمخاطر الأمن المناخي الناشئة، وهي تحذيرات دفعت قادة الجيوش في الدول العظمى إلى أخذ مسألة "التحول الأخضر" للجيوش على محمل الجد.

تحديات قائمة

على الرغم من وجود إرادة سياسية واضحة لدى العديد من الدول الكبرى للتوجه نحو ظاهرة "الجيوش الخضراء"، إلا أن هذا التوجه يواجه بعض التحديات الرئيسية، التي ترتبط بشكل رئيسي بتشكيك بعض الدوائر الداخلية في فاعلية هذا التوجه على المستوى العسكري والعملياتي، وتأثيراته المحتملة على قوة الجيوش.

فمثلاً في الولايات المتحدة يخشى الجمهوريون من أن يؤدي تبني سياسات خضراء في سلاح الجيش البري والبحري والقوات الجوية بشكل أسرع مما ينبغي إلى إبطاء انتاج الأسلحة في الداخل الأمريكي، ويؤكد الجمهوريون في هذا الصدد أن "التحول الأخضر" للجيش الأمريكي قد يُعرقل قدرة الولايات المتحدة على إحراز تقدم عسكري يتلائم ومتطلبات مواجهة التهديدات الصينية.

أما التحدي الآخر الذي يواجه التوجه نحو بناء جيوش صديقة للبيئة فيتمثل في التحديات البنيوية التي تعوق التحول قريباً إلى "الجيوش الخضراء"، ففي الوقت الذي تعتمد فيه معظم جيوش دول العالم بشكل كبير على المصادر التقليدية كأساس لعمل الجيوش، فإن التحول نحو الاستعاضة عن هذه المصادر بأخرى صديقة للبيئة، لن يكون بالأمر السهل، وسوف ينتج تداعيات سلبية على المستوى التكتيكي والعملياتي للجيوش.

وفي الختام، يمكن القول إن التغيرات المناخية دفعت باتجاه تحرك العديد من الدوائر الأمنية إلى إجراء تعديلات على استراتيجيات الجيوش، بما يضمن اشتمال مهام الجيوش على مواجهة ظاهرة التغيرات المناخية والتكيف معها، كجزء من التحول في مفاهيم الأمن القومي للدول، وهو التحول الذي جعل من التغيرات المناخية على رأس مهددات الأمن القومي.