• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
تقدير موقف

هل تتجه العلاقات الاقتصادية بين ألمانيا والصين نحو الانحسار؟


تشهد ألمانيا حالة من الانقسام بين أعضاء الائتلاف الحكومي بشأن مسار العلاقات الاقتصادية مع الصين. ففي حين يرى اتجاه أن المحافظة على تلك العلاقات هي السبيل الأمثل لدعم الاقتصاد الألماني، حتى وإن أثار التقارب مع الصين حفيظة واشنطن والحلفاء من الدول الغربية الأخرى، يرى آخرون ضرورة أن تتخلص برلين من اعتمادها التجاري المفرط على الصين.

وستستمر ألمانيا على الأرجح في اتباع نهج قائم على إبقاء العلاقات الاقتصادية مع الصين، لا الانفصال التام عنها؛ لما يحمله ذلك من عواقب سلبية، ولكن مع تقليص التعاون معها في المجالات الاقتصادية ذات الحساسية الأمنية.

علاقات قوية:

تكشف البيانات عن تطور العلاقات الألمانية – الصينية على الصعيدين التجاري والاستثماري خلال السنوات الأخيرة، وهو ما أدى لتنامي المخاوف السياسية داخل ألمانيا بشأن التبعية الاقتصادية والاعتماد المتزايد على الصين، وذلك في ضوء ما يلي:

1- ارتفاع حجم التبادل التجاري: تعد الصين أكبر شريك تجاري لألمانيا، بحجم تبادل تجاري قدره 290 مليار دولار عام 2021، وشكلت الصين حوالي 9.5% من إجمالي تجارة ألمانيا خلال ذلك العام، مقارنة بأقل من 1% فقط عام 1990.

2- تنامي الاستثمارات الألمانية في الصين: تتركز الاستثمارات الألمانية بالسوق الصيني في صناعات مختلفة على الأخص السيارات، وذلك بحجم استثمارات قدره 36.4 مليار دولار في عام 2020، وفقاً لوزارة التجارة الصينية.

واستحوذت الشركات المصنعة للسيارات الألمانية الثلاث الكبرى، فولكس فاجن وبي إم دبليو ومرسيدس بنز، بالإضافة إلى مجموعة "بي إيه إس إف" (BASF) الكيميائية، على ثلث الاستثمارات الأوروبية في الصين بين عامي 2018 و2021، وفقاً لدراسة حديثة أجرتها مجموعة "روديوم" (Rhodium).

ونتيجة لظروف الحرب الأوكرانية، تمضي العديد من الشركات الألمانية قدماً في خططها الاستثمارية في الصين. فعلى سبيل المثال، تخطط مجموعة "بي إيه إس إف" (BASF) الكيميائية لاستثمار 10 مليارات يورو في الصين بحلول عام 2030، مع تقليص وجودها في أوروبا لارتفاع تكاليف الطاقة.

3- حضور صيني في السوق الألماني: بلغ حجم العقود والاستثمارات الصينية في السوق الألمانية نحو 51.4 مليار دولار في الفترة بين 2002 إلى 2022، تركزت بشكل أساسي في قطاعات النقل واللوجستيات والتكنولوجيا، طبقاً لمعهد "إنتربرايز" الأمريكي لأبحاث السياسة العامة، وهي تفوق الاستثمارات الصينية في فرنسا المقدرة بنحو 34.2 مليار دولار في الفترة نفسها، و24 مليار دولار في إيطاليا، و9.7 مليار دولار في إسبانيا.

انقسام سياسي ألماني:

تتباين وجهات نظر أعضاء الائتلاف الحكومي والجهات الحزبية في ألمانيا بشأن العلاقات الاقتصادية مع الصين، ففي حين يدافع المستشار الألماني أولاف شولتز وبعض من المسؤولين الألمانيين عن استمرار العلاقات الاقتصادية الألمانية – الصينية، يسعى بعض أعضاء الحكومة، خاصة المنتمين لحزب الخضر، ومن بينهم وزيرة الخارجية أنالينا بربوك ووزير الاقتصاد روبرت هابيك نحو التخلص من التبعية للصين؛ حتى لا تتحول إلى ابتزاز بحسب قولهم، ويمكن إيضاح أهم العوامل التي ترتكز عليها وجهتي النظر على النحو التالي:

1- وجهة نظر شولتز: ازدادت العلاقات الألمانية – الصينية عمقاً تحت قيادة المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، والتي زارت الصين حوالي 12 مرة، برفقة وفود تجارية، مما أسهم في ترسيخ سياسة التركيز الأحادي الجانب على الصين. وعليه، فإن التحول السريع في مسار العلاقات الألمانية – الصينية قد يكون غير واقعي نتيجة لذلك، وهو ما يمكن تفصيله على النحو التالي:

‌أ- عدم ملائمة التوقيت: يرى شولتز أن برلين لن تستطيع في الوقت الراهن التخلص من الاعتماد على بكين تجارياً واستثمارياً، خاصة في ظل معاناة الاقتصاد الألماني من أزمة طاقة بسبب ظروف الحرب الأوكرانية، ويتوقع أن يشهد الاقتصاد الألماني ركوداً بنسبة 0.4% خلال عام 2023.

‌ب- ضغوط الشركات الكبرى: يضغط لوبي الشركات الألمانية من أجل استمرار العلاقات الاقتصادية القوية بين كل من ألمانيا والصين، خاصة أن السوق الصيني يعتبر مصدراً رئيسياً لإيرادات العديد من الشركات الألمانية الكبرى. فخلال عام 2021، جاءت حوالي 40% من عائدات شركة "فولكس فاجن" من الصين، وحوالي 21% من عائدات مجموعة الملابس الرياضية "أديداس"، ونحو 13% من عائدات شركة سيمنز من الصين أيضاً.

‌ج- بدائل صعبة: يشير رجال الصناعة في ألمانيا إلى أن العلاقات الأكثر صرامة مع الصين قد تؤدي إلى خسارة أعمال تجارية ليس بالإمكان تعويضها عبر الدخول إلى الأسواق الأخرى. ويواجه المصنعون الألمان صعوبات في الولوج لبعض الأسواق في منطقة جنوب شرق آسيا، بسبب القيود على الاستيراد، بالإضافة إلى المنافسة مع المصنعين اليابانيين.

وفي حالة تدهور العلاقات الألمانية – الصينية، من المتوقع أن تتأثر العديد من الصناعات الألمانية سلباً؛ نظراً لاعتماد العديد منها على المعادن والعناصر الأرضية النادرة التي يتم الحصول عليها من الصين، واللازمة لقطاعات مثل السيارات والتكنولوجيا وغيرهما، وهي من الصعب الحصول عليها من أسواق أخرى.

2- وجهة نظر الخضر: يرى أنصار هذا الاتجاه ضرورة تقليص الاعتماد على الصين، ويسوقون في ذلك الحجج التالية:

‌أ- تحاشي سيناريو الاعتماد المفرط: كشفت الأزمة الروسية – الأوكرانية عن مخاطر اعتماد ألمانيا المتزايد على الغاز الطبيعي الروسي. وعليه، فإن الاعتماد المتزايد على الصين كسوق رئيسي للصادرات الألمانية، فضلاً عن الاعتماد على الواردات الصينية في العديد من الصناعات، يعرض برلين للمخاطر، خاصة في حال تصاعد الصراع بين الصين وتايوان عسكرياً.

‌ب- ضعف استفادة الاقتصاد الألماني: يدعي هذا الاتجاه أن نمط العلاقات الاقتصادية يصب في صالح الصين، حيث إن الميزان التجاري بين البلدين يميل بفائض مستمر لصالح الصين، كما أن نمو الشركات الألمانية في الصين لا يجلب بالضرورة الفوائد للاقتصاد الألماني. وتبدو العلاقات الاقتصادية مع الصين أقل أهمية، سواء من الناحية الاقتصادية أو الجيوسياسية، خاصة بالنظر للشراكة الألمانية الواسعة مع دول منطقة اليورو أو الولايات المتحدة الأمريكية. 

وعلى الرغم من ارتفاع الاستثمارات الألمانية في الصين، فإنه يعتبر أقل بكثير مما استثمرته الشركات الألمانية في 19 دولة في منطقة اليورو، هذا بالإضافة إلى محدودية المجالات التي تستثمر فيها ألمانيا في الاقتصاد الصيني، مقارنة بما تستثمره في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

‌ج- انتقاد الرأي العام المحلي للصين: أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجرته "بيو للأبحاث مؤخراً أن حوالي 71% من الألمان يرون الصين بشكل سلبي مقارنة بـ 37% في عام 2001. وعلى سبيل المثال، وجد استطلاع حديث أجرته مجلة "دير شبيجل" الألمانية أن 81% من الألمان يعارضون مشاركة شركة "كوسكو" الصينية في محطة حاويات ميناء هامبورج الألماني.

توازن دقيق:

تكشف التوجهات الرسمية لألمانيا ناحية العلاقات الاقتصادية مع الصين عن توازن دقيق يدفعه توجهان وهما: رغبة برلين في الحفاظ على مصالحها التجارية والاستثمارية، ومسايرة السياسة الأمريكية الرامية للحد من التعاون مع الصين في المجالات ذات الحساسية الأمنية، وهو ما يتضح على النحو التالي:

1- الحفاظ على العلاقات: قام المستشار الألماني شولتز بزيارة بكين، في نوفمبر 2022، على الرغم من الانتقادات التي تم توجيهها لتلك الزيارة. وحملت الزيارة العديد من الدلالات بشأن توجه ألمانيا نحو تعزيز العلاقات مع الصين، وعدم الخضوع للرغبات الأمريكية بشأن تبني مواقف مناوئة للصين. كما استهدفت الزيارة تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الجانبين حيث اصطحب شولتز وفداً يضم عدداً من المديرين التنفيذين للعديد من الشركات الألمانية الكبرى، ومنها فولكس فاجن وسيمنز وغيرها.

وفي غضون الأسابيع الماضية، وافقت الحكومة الألمانية على صفقة شراء شركة الشحن البحري الصينية "كوسكو" لحصة في محطة الحاويات بميناء هامبورج الألماني، وسمح للشركة بالاستحواذ على حصة أقلية بلغت 24.9%، رغم معارضة عدد من الوزراء بالحكومة لهذه الصفقة، فضلاً عن تحذير المفوضية الأوروبية الحكومة الألمانية من الصفقة، باعتبار أن ذلك قد يتسبب في تسريب معلومات مهمة وحساسة بشأن نشاط الموانئ إلى بكين.

2- تعزيز الانفتاح على شركاء آخرين: وفقاً لتصريحات وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك، فإن ألمانيا تسعى نحو تبني سياسة تجارية جديدة مع الصين، ترتكز على خفض درجة الاعتماد على المواد الخام والبطاريات وأشباه الموصلات الصينية، وتهدف لتعزيز انفتاح الاقتصاد الألماني على العديد من الشركاء الآسيويين الآخرين.

3- سقف للعلاقات: أوقف ذلك صفقة بيع شركة "إيلموس لأشباه الموصلات أس إي" الألمانية لصالح شركة "سيليكس مايكرو سيستمز" السويدية، المملوكة لمجموعة مايكرو سيستمز الصينية، باعتبار أن شراء ذلك المصنع قد يعرّض الأمن القومي الألماني للخطر.

وفي ضوء ما سبق، يتضح أن الأطراف السياسية في ألمانيا تخوض صراعاً بين استمرار العلاقات الصينية باعتبارها شريكاً تجارياً مهماً، وبين الانفصال عنها. وعلى الرغم من ذلك، المتوقع أن يتمسك شولتز بنهجه البرجماتي والحفاظ على العلاقات الاقتصادية مع الصين، حتى وإن تسبب ذلك في تزايد الانتقادات لسياسته في الداخل الألماني، وعلى مستوى الدول الغربية أيضاً، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.

ويبدو أن التكلفة التي سيتحملها الاقتصاد الألماني نتيجة فصل العلاقات الاقتصادية معها، أكبر من تكلفة المخاطر الناتجة عن التبعية الاقتصادية للصين. وعلى الرغم من ذلك، ستعمل ألمانيا على خفض التبعية الاقتصادية للصين بشكل تدريجي على المدى المتوسط، حيث تكشف الحرب الأوكرانية عن دروس للدول الأوروبية، وهي أهمية تقليص انكشافها التجارية أو الاستثماري على الدول التي تعتبرها الولايات المتحدة خصوماً لها، خاصة في ظل مجاراة أوروبا للسياسات الأمريكية.