استقبل الرئيس الأمريكي جو بايدن يوم 30 نوفمبر الماضي نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في العاصمة واشنطن، في أول “زيارة دولة” تجمع الرئيس الأمريكي الحالي برئيس دولة أجنبية. ورغم أن هذه الزيارة ليست هي الأولى من نوعها للرئيس الفرنسي إلى الولايات المتحدة؛ حيث سبق أن استقبل الرئيس ترامب نظيره ماكرون عام 2018، فإن الظرف الدولي الراهن وتصاعد حدة الخلافات الفرنسية-الأمريكية في الفترة الماضية، تجعل من هذه الزيارة مفترق طرق في هذه العلاقات. وتعتبر "زيارة الدولة" هي أعلى مستوى من الزيارات من الناحية البروتوكولية، وهو ما يؤشر على وجود مساحة كبيرة للتعاون والتقارب رغم تصاعد التنافس بين الجانبين في عدد من المجالات الأخرى.
ملفات معلنة
اقتصرت الأجندة المعلنة للقاء ماكرون وبايدن على بعض الموضوعات ذات الأهمية بالنسبة للدولتين. وتمثلت أبرز الأهداف المعلنة لماكرون من وراء زيارته للولايات المتحدة فيما يلي:
1- التنسيق حول الأزمات الدولية محل الاهتمام المشترك: تناول الرئيسان الأمريكي والفرنسي باستفاضة خلال لقائهما آخر تطورات الأزمة الأوكرانية رغم اختلاف المقاربات بينهما حول ضرورة بدء فتح قنوات حوار مع الرئيس الروسي من عدمه، كما تطرق الرئيسان لتصاعد حدة التنافس الأمريكي مع الصين في منطقة الهندوباسيفيك في ظل التوترات الحالية في المنطقة، بالإضافة إلى التهديدات المتنامية في منطقة الساحل الأفريقي وكيفية العمل المشترك لمجابهتها. ومن الملاحظ من خلال صياغة جدول أعمال اللقاء أنه قد حدث تنسيق كبير بشأنه على مستوى العاصمتين، وأن استضافة الجانب الأمريكي للقاء لا تعني أنه تمت صياغته بصورة حصرية في واشنطن.
2- تقليص درجة التأثر الفرنسي بقانون خفض التضخم: كان قانون خفض التضخم الأمريكي من ضمن الملفات الشائكة التي تم طرحها في هذه القمة؛ حيث تخشى باريس من الإجراءات الحمائية التي من المقرر أن يفرضها هذا القانون، وهو ما يمثل بدوره إضراراً للصادرات الأوروبية بشكل عام. وفي هذا الإطار، سعى ماكرون للحصول على بعض الاستثناءات أو – إن صح التعبير – للحصول على بعض الإعفاءات من هذه الإجراءات التي تهدف إلى توجيه الاستثمارات العالمية في مجال الطاقة للولايات المتحدة، ناهيك عن دعم القانون تكاليف إنتاج بعض السلع التكنولوجية الحيوية في الولايات المتحدة – ومن بينها أشباه الموصلات – وهي سياسة تراها باريس تلاعبية بأسعار المنتجات وتكاد تشبه سياسة تعمد تعويم العملة التي تنتهجها بكين لإيجاد ميزة تنافسية لصادراتها.
3- تعزيز تعاون البلدين بمجالي الفضاء والطاقة النووية: أتت هذه الزيارة للبناء على الزخم المتولد أثناء زيارة نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس إلى باريس يوم 10 نوفمبر الماضي، التي أعلنت خلالها نائبة الرئيس الأمريكي عن اتفاق بين البلدين لتوسيع التعاون في قضايا الفضاء؛ وذلك لمجابهة أزمة المناخ وتحقيق الاستدامة في الأنشطة السلمية للفضاء الخارجي، كما أعلنت فيها هاريس أن الولايات المتحدة ملتزمة بالانضمام إلى منظمة مرصد المناخ الفضائي (SCO) التي أطلقها ماكرون رسمياً في عام 2019، وهي منظمة تهدف إلى استخدام بيانات الفضاء بصورة أكثر سلاسة لغرض مجابهة تغيرات المناخ.
لذلك قام ماكرون باستهلال هذه القمة بزيارة إلى مقر وكالة ناسا برفقة هاريس، وتم الإعلان خلالها عن توقيع عدد من مذكرات التفاهم بين الشركات الأمريكية والفرنسية العاملة في هذا المجال. وبالإضافة إلى ما تقدم، شهدت القمة أيضاً توقيع عدد من مشروعات التعاون في الطاقة النووية باعتبار فرنسا هي أكثر الدول الأوروبية اعتماداً على الطاقة النووية في مزيج الطاقة الخاص بها؛ حيث تتضمن هذه المشروعات التوسع في بناء وتصدير المفاعلات النموذجية الصغيرة Small Modular Reactor وأنشطة تخصيب وإعادة معالجة اليورانيوم لتوليد الكهرباء.
4- زيادة التعاون الثقافي بين الجانين الفرنسي والأمريكي: ترتبط فرنسا مع الولايات المتحدة بروابط ثقافية ممتدة الجذور، ومن بينها تخطيط العاصمة واشنطن على يد المعماري الفرنسي “لونفون L’Enfant”، وتدشين المدينة الأمريكية “نيو أورليانز New Orleans” على يد جون باتيست لو مواين في عام 1718 بولاية لويزيانا. وقد حرص ماكرون خلال هذه الزيارة على استدعاء هذا التأثير الثقافي العميق عن طريق زيارة مدينة “نيو أورليانز” يوم 2 ديسمبر الجاري؛ حيث أعلن عن إنشاء صندوق لدعم تعلم اللغة الفرنسية في مدارس الولايات المتحدة، كما تم تنظيم فعالية موسيقية في الحي الفرنسي بالمدينة. إلى جانب ذلك، قام ماكرون بتوقيع مذكرة تفاهم مع حاكم ولاية لويزيانا في قضايا المناخ، على اعتبار أنها من أكثر الولايات عرضة للآثار السلبية لظاهرة تغير المناخ.
مكاسب منشودة
بالإضافة إلى الملفات السالفة الذكر، التي تم تناولها بشكل علني، هناك مجموعة من الأهداف الضمنية استهدفت باريس وواشنطن تحقيقها من وراء هذه الزيارة. وتتضح هذه الأهداف عبر ما يلي:
1- تأكيد الطابع الاستراتيجي للعلاقات الأمريكية الفرنسية: في مقابل الآراء التي تتحدث عن تراجع زخم العلاقات الأمريكية الفرنسية، يبدو أن ماكرون رغب في إبراز الطابع الاستراتيجي لهذه العلاقات بالنظر إلى الوضع الحرج الذي فرضته الحرب الروسية الأوكرانية على منظومة الأمن الجماعي في أوروبا. هذا وقد بدا جلياً من فعاليات الزيارة وجود رغبة لدى ماكرون في إبراز تنوع مناحي العلاقات الفرنسية الأمريكية كضامن لامتصاص أي صدمات، مثل عشاء البيت الأبيض الذي حضره عدة مئات من الشخصيات الفرنسية البارزة، ومن ضمنهم 6 وزراء فرنسيون وعلى رأسهم وزير الاقتصاد الفرنسي برونو لومير، وبرلمانيون فرنسيون بارزون مثل جانلويس بورلانج، وغيرهم من كبار رجال الأعمال، وشخصيات علمية مثل رائدي الفضاء توماس بيسكيت وصوفي أدينوت، بالإضافة إلى شخصيات فنية.
2- حلحلة خلافات البلدين حول القضايا الخارجية الملحة: بخلاف ما تم نشره عقب اللقاء الذي عُقد بوزارة الخارجية يوم 1 ديسمبر 2022 بين المسؤولين الفرنسيين وكل من نائبة الرئيس كمالا هاريس ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، تشير التقديرات إلى أنه تم تناول بعض القضايا الدولية الحرجة في الغرف المغلقة بين الجانبين. هذا ويأتي على رأس هذه القضايا نمط التعامل الغربي المشترك تجاه روسيا في حربها ضد أوكرانيا؛ حيث بدا الموقف الأوروبي غير متماسك على النحو المأمول نظراً لميل برلين النسبي نحو عدم تضييق الخناق أكثر على روسيا، وهو ما يستدعي تأمين باريس أكبر قدر ممكن من الضمانات الأمريكية في ضوء موقف ألمانيا المتردد.
كما تتضمن أهم هذه القضايا حصول باريس على تطمينات ذات صلة بصفقة الغواصات المبرمة بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا المعروفة باسم “أوكوس”، التي مثلت شرخاً معتبراً في العلاقات الأمريكية الفرنسية. وإذا كانت طبيعة هذه التطمينات لا تزال غير واضحة، فإنه يبدو أن باريس قد اقتنعت بأن مثل هذه الصفقة تتطلب قدرات عسكرية وتقنية أكبر مما تمتلكه في مجال تكنولوجيا الدفع النووي للغواصات البحرية، خاصةً أن واشنطن تُولي منطقة الهندوباسيفيك اهتماماً وجودياً في ظل المنافسة المحتدمة مع الصين وتهديدها المباشر لبعض الدول التي ترتبط معها واشنطن بتحالفات عسكرية مباشرة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا.
3- بحث إمكانية ملء فرنسا الفراغ الاستراتيجي الأوروبي: بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لطالما أُثيرت إشكالية مدى نجاح فرنسا في أن تحظى بوضعية الشريك الأوروبي الأكثر تميزاً في القارة، وجدارتها في دعم وتمرير السياسة الأمريكية فيها. ورغم مرحلة الشد والجذب الأخيرة بين باريس وواشنطن، فإن الوضع الداخلي المتأزم في لندن بعد استقالة رئيسة الوزراء ليز تراس من منصبها عقب فترة قصيرة من استقالة سلفها بوريس جونسون، جعلت الولايات المتحدة متشككة في مدى قدرة بريطانيا على لعب الأدوار التقليدية المنوطة بها باعتبارها الحليف الأوروبي الرئيسي للولايات المتحدة، خاصةً في ظل تشاركهما في المنظومة الثقافية الأنجلوسكسونية؛ لذلك تعتبر هذه الزيارة انتهازاً لفرصة ترنح الحكومة البريطانية داخلياً وانغماسها في تصحيح السياسة الاقتصادية السابقة من قبل باريس لتحقيق الهدف المُشار إليه.
4- تعزيز شعبية الرئيس ماكرون المتآكلة في داخل فرنسا: جاءت استجابة الرئيس ماكرون لدعوة بايدن لإتمام هذه الزيارة لتلبي بعض المتطلبات الداخلية التي كان الرئيس الفرنسي في أمس الحاجة لها؛ فبعد فقدان حزبه الأغلبية المطلقة في الانتخابات البرلمانية في شهر يونيو الماضي، وتدهور الأوضاع الاقتصادية نتيجة استمرار معدلات التضخم والبطالة في الارتفاع، كان ماكرون في حاجة لتطور سياسي من شأنه أن يعيد له بعضاً من شعبيته المتآكلة في الداخل.
وتجدر الإشارة في ذات السياق إلى أن بعض وسائل الإعلام الفرنسية بدأت بالفعل تروج لكون الرئيس ماكرون هو الرئيس الفرنسي الوحيد الذي يقوم بزيارتين من فئة “زيارة دولة” إلى الولايات المتحدة، وهو ما يمكن الاستناد إليه باعتباره أكثر رؤساء فرنسا نجاحاً في إقناع الولايات المتحدة بمحورية باريس في سياستها عبر الأطلنطي. يُضاف إلى ما سبق، تزايد الضغوط على ماكرون ووزير اقتصاده من بعض الشركات الفرنسية الكبرى التي تخشى من التداعيات السلبية للتدهور المحتمل في علاقات فرنسا والولايات المتحدة واعتماد الكونجرس قوانين تجارية تمييزية لصالح السوق الأمريكية.
برجماتية حاكمة
وختاماً، رغم أن الأجندة المعلنة لهذه الزيارة ركزت على مجالات التعاون الاقتصادي بالأساس، فإن توقيتها والظروف المحيطة بها تجعل من الأهداف السياسية غير المعلنة مكوناً رئيسياً لها. ورغم أن الدعوة موجهة بالأساس من الرئيس بايدن لنظيره الفرنسي، فإن استعراض كفة المكاسب لكل طرف تؤشر على خروج ماكرون بمكاسب أكبر على الصعيدين الداخلي والخارجي، أخذاً في الاعتبار أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة عكفت على تنظيم هذا النوع من الزيارات مع الرؤساء الفرنسيين – باستثناء ساركوزي – للحفاظ على زخم العلاقات وتأكيد طابعها الاستراتيجي رغم خلافات الجانبين، وهو ما يعكس الطابع البرجماتي الحاكم لهذه العلاقات.