• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
تقدير موقف

تحديات صعبة أمام حكومات أمريكا الجنوبية في 2023


تتجه قارة أمريكا اللاتينية إلى مواجهة تحديات صعبة في عام 2023، من خلال استمرار التحولات السياسية في ظل انتظار انتخابات حاسمة ببعض الدول، وتزايد احتمالات عدم الاستقرار الداخلي والاحتجاجات الشعبية على تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومواجهة الحكومات اليسارية صعوبات في الحكم، والاتجاه إلى بعض التسويات السلمية للصراعات السياسية وخاصة بفنزويلا وكولومبيا. خارجياً تتجه دول القارة إلى إعادة تشكيل خريطة التحالفات الدولية مع استمرار الحرب الأوكرانية وتصاعد الاستقطاب الدولي.

توتر متزايد

ويبدو أن قارة أمريكا اللاتينية بصدد موجة مرتقبة من التغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عام 2023، تغذيها حالة من عدم الاستقرار وتزايد الإشكاليات والتحديات الصعبة على كافة المستويات. وفي هذا الإطار يمكن إلقاء الضوء على أبرز الاتجاهات المتوقعة في القارة اللاتينية خلال عام 2023؛ وذلك على النحو التالي:

1- استمرار تحولات المشهد السياسي اللاتيني: عقب سلسلة من الانتصارات الانتخابية الحاسمة لليسار في أمريكا اللاتينية خلال عام 2022، وحتى قبله، من المُرجح أن يشهد عام 2023، عودة التأرجح نحو اليمين من جديد، مع احتمال فوز بعض المرشحين المحسوبين على تيار اليمين في الانتخابات الرئاسية المقبلة في باراجواي (أبريل)، والأرجنتين (أكتوبر). يعكس ذلك بشكل أساسي التوجه نحو التصويت ضد شاغلي المناصب السياسية في منطقة تواجه عاماً صعباً آخر من النمو الاقتصادي المتواضع والاستياء الاجتماعي. بعد أن نما الاقتصاد بنسبة 3.5% في عام 2022، وفقاً لصندوق النقد الدولي، قد تتوسع اقتصادات المنطقة بنسبة 2% فقط في عام 2023.

ويُعزز هذا التوقع أيضاً، حالة الاستقطاب السياسي الحاد التي تشهدها بلدان المنطقة، التي عبرت عنها بقوة نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وبالتحديد في البرازيل أكبر بلدان أمريكا اللاتينية. أصبح الرئيس الحالي “جايير بولسونارو”، أول مرشح للرئاسة منذ عودة البرازيل إلى الديمقراطية في عام 1989، يخسر محاولته لإعادة انتخابه، كما سجلت نتائج الانتخابات أضيق هامش للأصوات التي حازها الرئيس الفائز في الانتخابات “لولا دا سيلفا”، مقارنةً بمنافسه الذي قل عنه نقطتين مئويتين؛ ما يعكس ارتفاع معدل الاستقطاب وانخفاض ثقة الناخبين.

2- تزايد احتمالات عدم الاستقرار الداخلي: من المُرجح أن تشهد بلدان أمريكا اللاتينية خلال عام 2023، موجة جديدة من الاحتجاجات والتظاهرات الشعبية، اعتراضاً على تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، بسبب الوباء والحرب في أوكرانيا. وعلى الرغم من أنها تمثل 8% فقط من سكان العالم، فقد سجلت المنطقة أكثر من 40% من جميع الوفيات الناجمة عن كوفيد 19 خلال السنة الأولى للوباء، وعانت أيضاً من أكبر انكماش اقتصادي لها منذ أكثر من قرن. وخلال مرحلة التعافي من الجائحة، بدأت المنطقة تحقق انتعاشاً اقتصادياً، لكنها سرعان ما تعرضت لصدمات مزدوجة بسبب الحرب في أوكرانيا والأزمة الاقتصادية العالمية. واعتباراً من أكتوبر 2022، اقترب متوسط ​​التضخم من 15% – أي نحو ثلاثة أضعاف مستوى آسيا وأعلى من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بمقدار الثلث – بينما ارتفعت مستويات الدين العام إلى أكثر من 70% من الناتج المحلي الإجمالي الإقليمي.

حتى الآن، كانت موجة السخط الشعبي تمر في الغالب عبر صناديق الاقتراع؛ حيث خسر المرشحون المدعومون من الحزب الحاكم في آخر 15 انتخابات رئاسية على الأقل جرت في المنطقة. لكن في بلدان أخرى، بدأ السخط الشعبي بشأن التضخم وإجراءات التقشف الحكومية يأخذ أشكالاً أكثر زعزعة للاستقرار في بنما، والأرجنتين، وهاييتي، وبالنظر إلى أن عدداً قليلاً من الناخبين على استعداد لتحمل الآثار الجانبية للأزمات الاقتصادية الراهنة، فمن المُرجح أن تستمر الاضطرابات الاجتماعية في عام في 2023؛ الأمر الذي يعكس اتجاهاً عاماً في أمريكا اللاتينية؛ إذ تسبب ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة تاريخياً في تأجيج السخط العام والاحتجاج السياسي في المنطقة.

3- مواجهة اليسار صعوبات بالغة في الحكم: في الوقت الراهن، يحكم أكبر 6 اقتصادات في أمريكا اللاتينية، قادة وأحزاب وتيارات سياسية تنتمي إلى اليسار ويسار الوسط، عقب الفوز في الانتخابات التي شهدتها الأرجنتين، والمكسيك، وبيرو، وكولومبيا، والبرازيل. وصل قادة اليسار في هذه الدول مدفوعين بالرغبة في التغيير، ويحركهم الغضب الشعبي العارم من أوضاع الفقر المزمن، وعدم المساواة الاجتماعية. مع ذلك، من المُرجح أن يُعاني قادة الموجة الجديدة من اليسار اللاتيني من صعوبات بالغة في الحكم خلال عام 2023، مقارنةً بما كان عليه الحال خلال الموجة الأولى من صعود اليسار خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، التي شهدت طفرة في أسعار السلع؛ ما ساعد قادة اليسار على التوسع في برامج الحماية الاجتماعية.

وتضع الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، وزيادة التضخم، القادة في جميع أنحاء القارة في مأزق؛ إذ زادت العديد من الحكومات الإنفاق العام أثناء الوباء، ولديها الآن حيز مالي محدود للغاية لتوسيع دعم الغذاء والطاقة؛ ما سيقيد قدرتهم على المضي قدماً في برامجهم الإصلاحية. على سبيل المثال، تراجعت شعبية رئيس تشيلي “جابريل بوريك”، بعد أشهر قليلة من فوزه في الانتخابات، واجتاحت التظاهرات شوارع البلاد. وفي بيرو، يكافح الرئيس “بيدرو كاستيلو” من أجل بقائه في السلطة، بعد محاولات عدة من قبل المعارضة اليمينية لإقالته من منصبه. وفي الوقت نفسه، سيواجه قادة اليسار معارضة يمينية قوية داخل الكونجرس، ستعمل على عرقلة خططهم للتوسع في برامج الحماية الاجتماعية وتنفيذ التدابير البيئية المقترحة. على سبيل المثال، سوف يواجه “لولا دا سيلفا” الذي سيتولى رسمياً رئاسة البرازيل في الأول من يناير 2023، كونجرس تسيطر على أغلبية مقاعده معارضة يمينية متطرفة.

4- تسويات سلمية مرتقبة للصراعات السياسية: من المُحتمل أن يشهد عام 2023، حدوث نوع من التسوية السياسية للصراعات الداخلية التي تُعاني منها بعض بلدان أمريكا اللاتينية. على سبيل المثال، تم استئناف المفاوضات بين الحكومة والمعارضة الفنزويلية في مكسيكو سيتي بالمكسيك في نوفمبر 2022، بعد أربع سنوات من إعادة انتخاب الرئيس الاشتراكي “نيكولاس مادورو”، عبر انتخابات نُظر إليها على نطاق واسع باعتبارها “مزورة”؛ ما أدى إلى أزمة سياسية في فنزويلا وعزلة دولية لنظام مادورو. جاء استئناف المفاوضات، التي تشمل مناقشات حول شروط إجراء الانتخابات الرئاسية لعام 2024، بوساطة النرويج؛ وذلك بعد توقفها العام الماضي.

ويتوقف نجاح هذه المفاوضات في تحقيق انفراجة سياسية للصراع في فنزويلا، على عدة عوامل، منها تخفيف واشنطن العقوبات المفروضة على البلاد، وهو العامل الذي بدأت أول مؤشراته مع منح وزارة الخزانة الأمريكية ترخيصاً لشركة “شيفرون” النفطية الأمريكية بتوسيع أنشطتها في فنزويلا، وهو الأمر الذي سيسهم في تحسين الأوضاع الاقتصادية المتدهورة من جهة، وسيسعى نظام “مادورو” لتوظيفه من أجل تعزيز مكانته في مواجهة المعارضة من جهة أخرى. يضاف إلى ذلك مدى جدية الحكومة الفنزويلية في تقديم تنازلات جوهرية للمضي قدماً في جهود تعزيز الديمقراطية داخل البلاد، علاوة على مدى قدرة المعارضة على التوحد من أجل الضغط على الحكومة للوفاء بتعهداتها. وسيلعب الكونجرس الأمريكي، خاصة مجلس النواب بقيادة الجمهوريين، دوراً مهماً أيضاً في هذه الأزمة، ومن المُرجح أن يسعى لصياغة تشريع جديد في عام 2023، من شأنه تأخير وتقييد أي تخفيف محتمل للسياسة الأمريكية المتشددة تجاه فنزويلا.

وفي كولومبيا، وبعد أربع سنوات تقريباً من تعليق إدارة الرئيس السابق “إيفان دوكي” محادثات السلام مع جيش التحرير الوطني اليساري(ELN) ، استأنفت إدارة الرئيس “جوستافو بيترو”، رسمياً المحادثات مع جيش التحرير في نوفمبر 2022 في كاراكاس. وبصفتها أقدم وأقوى جماعة مسلحة في كولومبيا وأمريكا اللاتينية، يأمل الكثيرون قيام جيش التحرير الوطني بتسريح أعضائه وإلقاء السلاح. مع هذا، فإن نجاح جهود إحلال السلام الدائم في كولومبيا، يعتمد في جزء كبير منه على التزام الحكومة الفنزويلية بالمشاركة جنباً إلى جنب مع الحكومة الكولومبية في المفاوضات الجارية مع جيش التحرير الوطني، الذي ينشط على الحدود الكولومبية–الفنزويلية، وهناك مزاعم بتقديم النظام الحاكم في فنزويلا الدعم والمأوى لعناصره. ويفسر هذا الأمر حرص الرئيس الكولومبي على اختيار فنزويلا ضامناً ومضيفاً لمحادثات السلام مع جيش التحرير، وقيامه باستئناف علاقات بلاده الدبلوماسية والعسكرية مع فنزويلا.

وتظل فرص تحقيق السلام في كولومبيا مرهونة أيضاً بمدى نجاح الحكومة في إدماج العناصر الفاعلة والقوية داخل جيش التحرير في محادثات السلام، باعتباره مفتاحاً لضمان امتثال بقية المقاتلين داخل الحركة، خاصة المتشددين منهم، بجانب مشاركة المعارضة السياسية في هذه المحادثات لإسباغ الشرعية على أي اتفاق مرتقب للسلام، إضافة إلى معالجة الأسباب الجذرية للصراع في كولومبيا.

5- إعادة تشكيل خريطة التحالفات الدولية: من المتوقع أن يشهد عام 2023، تحولاً في خريطة الشراكات والتحالفات الدولية لبلدان أمريكا اللاتينية، التي لطالما نُظر إليها باعتبارها شريكاً “طبيعياً” للغرب؛ بسبب التشارك في العديد من القيم الديمقراطية. مع ذلك، مثلت الحرب في أوكرانيا نقطة تحول جوهرية في خريطة العلاقات اللاتينية مع البلدان الغربية (أوروبا والولايات المتحدة). وقد كان عدد قليل من قادة أمريكا اللاتينية صريحين بشكل خاص بشأن انتقاد الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، وامتنعت بعض دول المنطقة عن التصويت في المحافل الدولية لإدانة روسيا. يضاف إلى ذلك سيادة تصور لدى قطاع عريض من المواطنين اللاتينيين بأن حلف الناتو مسؤول عن اندلاع الحرب مثل روسيا، وأن العقوبات الغربية، وليست الحرب، هي المتسبب في الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية.

لذلك فمن المُرتقب أن تزداد قوة العلاقات اللاتينية بكل من روسيا والصين، في ظل تطلع دول المنطقة إلى توظيف هذه العلاقات، بما يخدم مصالحها الاقتصادية، كما يُنظر إلى الحضور الصيني والروسي في أمريكا اللاتينية، كوسيلة لموازنة النفوذ الأمريكي وزيادة الاستقلال الذاتي لدول المنطقة وتعزيز قوتها التفاوضية مع واشنطن. ويبدو أن الموقف اللاتيني من الحرب يُثير رفضاً طويل الأمد لسياسات الهيمنة الأمريكية في المنطقة والعالم، كما أنه يعكس التراجع الملحوظ في النفوذ الأمريكي والأوروبي في أمريكا اللاتينية؛ وذلك على مدار العقد الماضي؛ ما سمح لبكين وموسكو بملء هذا الفراغ بما يخدم مصالحهما الجيوستراتيجية.

وختاماً، فإنه من أجل عرقلة التمدد المتزايد من قبل روسيا والصين بالقارة اللاتينية، سيتعين على واشنطن العمل بجد من أجل تأطير جهد إقليمي طويل الأجل، والالتزام بأجندة أكثر جرأة بشأن التجارة والاستثمار في بلدان أمريكا اللاتينية، لمساعدتها على التخفيف من حدة التداعيات السلبية للحرب في أوكرانيا. وما لم تتمكن الولايات المتحدة من إعادة التفكير في سياستها تجاه كوبا وفنزويلا، ستتفوق عليها الصين، وكذلك روسيا في جوارها المباشر. وفي الوقت نفسه، يأمل الاتحاد الأوروبي استعادة نفوذه في المنطقة، من خلال قمة لقادة دول الاتحاد وأمريكا اللاتينية في أواخر عام 2023، عندما تتولى إسبانيا رئاسة الاتحاد.