• اخر تحديث : 2024-11-22 10:05
news-details
قراءات

لماذا يتهم "ماكرون" موسكو بتقويض النفوذ الفرنسي في أفريقيا؟


اتهم الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” روسيا بالعمل على تشويه صورة وسمعة فرنسا في أفريقيا عبر تغذية دعاية مناهضة لباريس هناك، بهدف خدمة الطموحات الروسية المتوحشة – حسب وصفه – في القارة خلال السنوات الأخيرة؛ وذلك في رد على انتقاد قد وُجه لبلاده على هامش مشاركته في أعمال قمة الدول الفرانكفونية التي استضافتها تونس في 20 نوفمبر 2022، أنها تستغل علاقاتها السياسية والاقتصادية في مستعمراتها القديمة من أجل تعزيز مصالحها الخاصة، قبل أن يؤكد وجود مشروع سياسي ممول من موسكو للإضرار بالمصالح الفرنسية في القارة الأفريقية.

وهذه المرة ليست الأولى التي يوجه فيها ماكرون انتقادات لموسكو بتأجيج المشاعر المعادية لباريس في أفريقيا، بل تكررت في عدد من المحافل التي شارك فيها ماكرون خلال العامين الماضيين، وهو ما قد يعكس الوضع المتأزم للنفوذ الفرنسي المتراجع نسبياً في عدد من المناطق الاستراتيجية بأفريقيا لا سيما منطقة الساحل.

في مقابل هناك صعود متنامٍ للنفوذ الروسي خلال السنوات القليلة الماضية؛ ما يعني تصاعد التنافس الدولي في قارة أفريقيا الذي يتزامن مع بروز بعض التحولات الاستراتيجية على الصعيد الدولي لا سيما استمرار الأزمة الأوكرانية في شرق أوروبا التي أسهمت في تغير الديناميات الجيوسياسية في القارة من خلال تسليط الضوء على التنافس الروسي الفرنسي هناك، في ضوء اندفاع موسكو نحو أفريقيا نظراً لحاجتها إلى هامش مناورة للمساومة مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية حول الملفات الشائكة بينهما.

أبعاد رئيسية

تعكس التصريحات الأخيرة للرئيس الفرنسي ضد موسكو ملامح التوتر بين فرنسا وروسيا على الساحة الأفريقية خلال السنوات الأخيرة، وهي الملامح التي تتمثل فيما يلي:

1. استمرار الانتقادات المتبادلة: تعمل باريس على شيطنة النموذج الروسي في أفريقيا باعتباره أحد مسببات تقويض الاستقرار الإقليمي؛ ففي جولة الرئيس ماكرون إلى أفريقيا في يوليو 2022 التي شملت دول الكاميرون وبنين وغينيا بيساو، أعرب عن قلقه إزاء توسيع علاقات روسيا مع عدد من الدول الأفريقية، وقد شبه الأمر بالتواطؤ الروسي مع الأنظمة الحاكمة الضعيفة والمجالس العسكرية غير الشرعية. ووصفها بأنها آخر القوى الاستعمارية الإمبريالية في القارة، كما حمل موسكو مسؤولية أزمة الغذاء العالمية التي طالت تداعياتها الدول الأفريقية، بسبب شن الحرب الروسية على أوكرانيا منذ فبراير 2022. وقد اتهمها بتوظيف الغذاء كأحد أسلحة هذه الحرب، وهو ما يعكس رغبة فرنسا والغرب في معاقبة موسكو والعمل على تحجيم حضورها ونفوذها في عدد من المناطق الاستراتيجية بما في ذلك أفريقيا.

في المقابل، تتهم موسكو باريس بمحاولة فرض رؤيتها على الدول الأفريقية لخدمة مصالحها الحيوية على حساب الأفارقة، وهو ما برز في دفاع موسكو عن المجلس العسكري الحاكم في مالي خلال الفترة الماضية ضد محاولات باريس فرض عقوبات أممية على القادة العسكريين الماليين في مجلس الأمن الدولي. كما روجت موسكو على الساحة الأفريقية لمسؤولية الغرب عن أزمة الغذاء العالمية بسبب العقوبات التي فرضها على موسكو التي عطلت سلاسل التوريد العالمية للحبوب.

2. تزايد النفوذ الروسي في أفريقيا: تخشى باريس من تطور العلاقات الروسية مع عدد من الدول الأفريقية بما في ذلك دول الساحل مثل أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو وغيرها، وهي العلاقات التي تدعمها التحركات الدبلوماسية لموسكو مثل جولة سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي الأخيرة لأربع دول أفريقية هي مصر وإثيوبيا وأوغندا والكونغو برازفيل.

وانعكس التحرك الروسي في القارة في تصويت الدول الأفريقية في مارس 2022 بالأمم المتحدة حول إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا؛ حيث تراوح تصويت 25 دولة بين الامتناع عن التصويت وعدم التصويت مطلقاً؛ فقد أعلنت بعض الدول الأفريقية مثل الكاميرون والكونغو برازفيل والجابون وغينيا الاستوائية حيادها في الأزمة الأوكرانية في إطار مساعيها للحفاظ على علاقات جيدة مع موسكو؛ إذ تشير تقارير إلى توقيع أكثر من 90 اتفاقية في نهاية قمة روسيا أفريقيا الأولى التي انعقدت في مدينة سوتشي الروسية عام 2019.

3. تحول الدول الأفريقية نحو شركاء جدد: خسرت باريس على مدار السنوات القليلة الماضية بعض حلفائها الاستراتيجيين في منطقة الساحل، مثل أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو؛ فقد لعبت الانقلابات العسكرية التي شهدتها بعض البلدان الأفريقية خلال العامين الماضيين دوراً بارزاً في بروز بعض التحولات الاستراتيجية على صعيد التحالفات الإقليمية عقب صعود نخبة جديدة من العسكريين إلى سدة السلطة. ورغبتهم في البحث عن شركاء جدد بعيداً عن الفلك الفرنسي، لا سيما أن بعض العسكريين ينتقدون حضور فرنسا في بلدانهم ويتهمونها بالتورط في تأجيج التحديات الأمنية بهدف البقاء طويلاً هناك لضمان الحصول على الموارد والثروات الأفريقية.

إذ تدهورت العلاقات بين مالي وفرنسا منذ أغسطس 2020 وتطورت إلى طرد السفير الفرنسي لدى باماكو في يناير 2022 بسبب ما اعتبرته الأخيرة تصريحات فرنسية عدائية تجاه السلطة الحاكمة في مالي، بالإضافة إلى إلغاء اتفاق التعاون العسكري بين مالي وفرنسا في 2 مايو 2022 بعد 8 سنوات تقريباً من توقيعه؛ وذلك بسبب اتهامات للقوات الفرنسية بالتجسس وانتهاك السيادة المالية بعد رصد نحو 50 حالة انتهاك للمجال الجوي المالي من قبل الطائرات الفرنسية منذ بداية عام 2022. في المقابل، دعمت موسكو قرارات المجلس العسكري الحاكم المالي حول تأجيل الانتخابات الرئاسية في البلاد لعام 2026، واتهمت باريس بزيادة تعقيد الوضع الراهن في البلاد والمنطقة.

4. نشاط فاجنر في بعض الدول الأفريقية: تشكل تحركات مجموعة فاجنر الأمنية الروسية الخاصة – التي تنتشر في 23 دولة أفريقية – مصدر قلق للمصالح الفرنسية الاستراتيجية في أفريقيا بما في ذلك منطقة الساحل، خاصة بعد اتفاق الحكومة المالية مع المجموعة على نشر 1000 عنصر في شمال مالي لمحاربة التنظيمات الإرهابية في البلاد بتكلفة شهرية قدرها 10 ملايين دولار، بجانب لعبها دوراً بارزاً في عدد من الصراعات الأفريقية مثل أفريقيا الوسطى؛ ما يجعلها تقدم نفسها بديلاً للقوات العسكرية الغربية بما في ذلك الفرنسية. وقد اتهمت الأمم المتحدة مدعومة من باريس قوات فاجنر مع القوات المالية بالتورط في قتل 300 مدني خلال الفترة الأخيرة، وكذلك استخدام القوة المفرطة والقتل العشوائي في أفريقيا الوسطى.

5. توسع النشاط الأمني الروسي في أفريقيا: وقعت موسكو أكثر من 30 اتفاقاً أمنياً مع عدد من الدول الأفريقية خلال السنوات الأخيرة مثل مالي وأفريقيا الوسطى والنيجر وبوركينا فاسو والكاميرون وجامبيا وغانا وإثيوبيا وغيرها، وهو ما يعكس أهمية المتغير الأمني والعسكري كمرتكز أساسي للسياسة الروسية في أفريقيا بما في ذلك منطقة الساحل؛ إذ يعتمد الجيش المالي على أسلحة روسية الصنع، فيما يعتمد الجيش التشادي في تسليحه على السلاح الروسي بنسبة 90%، فضلاً عن إرسال موسكو مستشارين أمنيين في أفريقيا الوسطى، كما تروج موسكو لصناعاتها التسليحية في أفريقيا التي تستورد دولها ما يقرب من 49% من الأسلحة الروسية. ويسعى الروس إلى إقامة قاعدة عسكرية روسية في البحر الأحمر بالقرب من منطقة الساحل لتعزيز نفوذها في المنطقة.

6. تأليب الرأي العام الأفريقي ضد الوجود الفرنسي: تستغل موسكو تنامي المشاعر المعادية للوجود العسكري الفرنسي في بعض الدول الأفريقية بتقديم نفسها كبديل كفء في الحرب ضد الإرهاب، خاصة مع إخفاق المقاربة الأمنية الفرنسية في تحقيق نجاحات حقيقية في هذا الصدد منذ انخراطها بالساحل في عام 2013.

فقد عبر الأفارقة عن رفضهم الوجود العسكري الفرنسي من خلال بعض التظاهرات الشعبية التي شهدتها عدد من الدول الأفريقية مثل مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو والنيجر وإثيوبيا وغيرها. وفي سبيل تعزيز ذلك، تُطوِّر موسكو علاقاتها مع نشطاء من المجتمع المدني والحركات الطلابية في مالي، كما تعزز انتشارها من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام مثل سبوتنيك وروسيا اليوم التي تمتلك عدداً كبيراً من المتابعين في مالي. وتقدم موسكو الدعم للحركات المناهضة لفرنسا في منطقة الساحل مستغلة مشاعر العداء لباريس هناك، التي تتزايد أصواتها منتقدة سياسات باريس في الساحل مثل حركة M5-RFP في مالي، وCOPA/BF في بوركينا فاسو، وTournons La Page في النيجر، وWakit Toma في تشاد، والتي تحمل جميعها رسائل معادية للفرنسيين كجزء من برامجها السياسية.

7. التنافس الاقتصادي المتصاعد بين القوتين: تدرك باريس مخاطر التوجه الروسي نحو أفريقيا للاستحواذ على مواردها وثرواتها؛ حيث تسعى موسكو إلى تأسيس شراكات اقتصادية وتجارية مع دول الساحل بهدف الحصول على فرص استثمارية وتجارية قابلة للاستمرار مثل مشروعات الطاقة وتطوير الطاقة النووية. كما تستحوذ موسكو على نحو 37.6% من سوق السلاح الأفريقية، فيما تتوسع بعض الشركات الروسية مثل Nordgold في الاستثمار بقطاع الثروات المعدنية مثل الذهب. وتشهد بعض الشركات الفرنسية والروسية تنافساً في بعض المجالات؛ فهناك تنافس قوي بين شركتي Rosatom الروسية للطاقة النووية ونظيرتها الفرنسية Avenda للحصول على المزيد من العقود والامتيازات في دول القارة.

دوافع باريس

تحمل الاتهامات الفرنسية تجاه روسيا تفسيرات عدة حول دوافع هذا التوجه الفرنسي، وتتمثل أبرزها في:

1. إعادة إحياء النفوذ الفرنسي: تسعى فرنسا لإعادة ترميم علاقاتها مع الدول الأفريقية، وتعويض تراجع نفوذها النسبي بالتعاون مع شركائها الأفارقة؛ وذلك بهدف عدم ترك الساحة الأفريقية، لا سيما منطقة الساحل للتحركات الروسية المتزايدة خلال الفترة الأخيرة، خاصةً مع قرب إطلاق فرنسا استراتيجية جديدة في أفريقيا في غضون 6 أشهر وفق ما أعلن الرئيس ماكرون في 9 نوفمبر 2022، عقب إنهاء مهمة قوة برخان لمكافحة الإرهاب.

2. المخاوف الفرنسية من خسارة حلفائها في أفريقيا: وذلك في ضوء تأزم باريس في إدارة علاقاتها مع صعود نخبة حاكمة جديدة تميل إلى روسيا على حساب فرنسا، وهو ما يدفعها نحو إعادة هيكلة وجودها العسكري وإعادة انتشار قواتها العسكرية في القارة دون أي احتجاجات متصاعدة من قبل الأفارقة.

3. تأليب الدول الأفريقية على روسيا: يحاول الرئيس ماكرون تقويض القمة الروسية الأفريقية الثانية المقبلة المقرر إجراؤها في يوليو 2023 بمدينة سان بطرسبرج الروسية؛ وذلك في إطار المساعي الفرنسية والغربية لتحجيم الدور الروسي في أفريقيا، وهو ما يعززه تهديد فرنسا الخفي للدول الأفريقية بعدم التعاون مع روسيا، خشية حرمانها من المساعدات الفرنسية ومحاولة إثارة الاضطرابات في الداخل. ويدلل على ذلك قرار فرنسا مؤخراً تعليق المساعدات المالية إلى مالي التي بلغت نحو 488 مليون دولار خلال الفترة بين عامي 2013 و2017.

4. استقطاب الرأي العام الأفريقي: وذلك من خلال محاولة فرنسا تقديم صورة جديدة لها لدى الأفارقة تبرز خوفها على مصالح دول أفريقيا ضد المطامع الروسية، وإن كان العقل الجمعي الأفريقي متوافقاً على عدم نزاهة الحضور الفرنسي في القارة، في ظل الاتهامات المتصاعدة لها بزعزعة الاستقرار وتمويل الإرهاب وسرقة الموارد والثروات الأفريقية.

تداعيات محتملة

يحتمل أن تؤدي الاتهامات الفرنسية لروسيا في أفريقيا وما يرتبط بها من تنافس ثنائي بينهما إلى مسارعة الطرفين إلى استقطاب أكبر عدد من الشركاء الأفارقة؛ وذلك من خلال تعزيز العلاقات السياسية والدبلوماسية والاقتصادية، بالإضافة إلى محاولة كل من الطرفين شيطنة الطرف الآخر عبر الترويج لمعلومات مضللة لتأليب الرأي العام الأفريقي ضدهما.

صحيح أن هذا التنافس يمكن أن يكون له انعكاسات إيجابية من خلال تعظيم الاستفادة الاقتصادية للدول الأفريقية، في شكل مساعدات اقتصادية وعسكرية وتنموية وإنسانية واستثمارات في مجالات مختلفة، بيد أنه قد يؤدي إلى نتائج سلبية؛ لأنه قد يسفر عن تنامي حالة الاستقطاب بين الدول الأفريقية للاصطفاف إلى أي من القوتين، وهو ما قد يعزز الانقسام الأفريقي لا سيما في المنظمات الإقليمية الأفريقية مثل إيكواس، وربما يؤدي أيضاً إلى احتدام المنافسة الدولية على أفريقيا؛ إذ قد تستغل بعض القوى التنافس الروسي الفرنسي من أجل توسيع دائرة تحركاتها، فتتعارض المصالح الدولية، بما يصاحبه من زعزعة للاستقرار الإقليمي في بعض المناطق الأفريقية.

وإجمالاً، يظل التنافس الروسي الفرنسي قائماً ومرشحاً للتصعيد ما دام كل طرف يسعى إلى تعظيم مصالحه الاستراتيجية وتوسيع نفوذه وهيمنته في أفريقيا. وما لم يتجه الطرفان إلى إطلاق حوار استراتيجي شامل للحيلولة دون تضارب المصالح بينهما، قد يفضي ذلك إلى احتدام المنافسة التي ربما تتطور إلى صراع قد يسهم في زعزعة الاستقرار والأمن الإقليمي.