شهدت العاصمة التركية إسطنبول في 25 نوفمبر الماضي، مباحثات مهمة بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، الذي أجرى زيارة إلى تركيا للتنسيق مع أردوغان بخصوص بعض القضايا، والمشاركة في مراسم إنزال سفينة حربية إلى البحر صنعتها تركيا لمصلحة باكستان بإسطنبول. وقد حملت الزيارة وما اكتنفها من تصريحات ثنائية بخصوص العلاقات بين البلدين، العديد من الدلالات المهمة المرتبطة بتنامي مساحة وأوجه التعاون الثنائي، خصوصاً في ضوء الحاجة الثنائية إلى التنسيق والتعاون بشأن العديد من القضايا المشتركة الأمنية والاقتصادية والسياسية.
مؤشرات كاشفة
شهدت العلاقات التركية الباكستانية تطوراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، وقد عبر عن هذا التطور العديد من المؤشرات؛ وذلك على النحو التالي:
1- تأكيد تركي للانفتاح على باكستان: على هامش المؤتمر الصحفي الذي عقده مع رئيس الوزراء الباكستاني شهباز شريف، أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن العلاقات ذات الصيغة الثلاثية بين تركيا وأذربيجان وباكستان تتطور بشكل متسارع، مرحباً باستئناف الخطوط الجوية الباكستانية رحلاتها إلى إسطنبول، ولفت إلى أن باكستان تلعب دوراً مهماً في استقرار منطقة جنوب آسيا، وأوضح أن تركيا وباكستان تتعاونان في مختلف المنابر الدولية كالأمم المتحدة، ومنظمتي التعاون الإسلامي والتعاون الاقتصادي، ومجموعة الدول الثماني الإسلامية النامية، وهي تصريحات تمثل تأكيداً رسمياً تركياً لتجاوز العلاقات مع باكستان حدود الرابطة الإسلامية والثقافية بين البلدين، لتشمل التنسيق الأمني، والعديد من القضايا السياسية والاقتصادية الأخرى.
2- زيادة حجم التعاون الاقتصادي: أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، على هامش مباحثاته مع شهباز شريف، أن "حجم التجارة بين البلدين وصل إلى مليار دولار، وهو مستمر في الزيادة من أجل تحقيق الهدف ببلوغه خمسة مليارات دولار" وفق تعبيره. ومن جهته دعا رئيس الوزراء الباكستاني تركيا إلى الانضمام لمشروع الممر الاقتصادي بين بلاده والصين الذي تبلغ تكلفته مليارات الدولارات. وقال شريف إنه سيكون سعيداً بالتحدث إلى الجانب الصيني بشأن اقتراحه انضمام تركيا لمشروع الممر الاقتصادي، مضيفاً أن الصين وباكستان صديقتان حميمتان وتستفيدان من الممر الاقتصادي بين البلدين في إطار مبادرة الحزام والطريق الصينية، ومنوهاً أنه يقترح أن تتعاون الدول الثلاث في إطار هذه المبادرة، وقد عبرت هذه المواقف عن الأولوية التي يحظى بها العامل الاقتصادي في إطار العلاقات بين البلدين.
3- سعي لتعزيز التعاون الأمني المشترك: أكد الرئيس التركي خلال المؤتمر الصحفي مع شهباز شريف، دعم بلاده لباكستان في مكافحة الإرهاب، مشدداً على أن باكستان تلعب دوراً مهماً في استقرار منطقة جنوب آسيا. وكانت العديد من المؤشرات والتحركات قد عبرت عن تنامي وتيرة التنسيق الأمني بين البلدين في الأشهر الأخيرة؛ ففي يونيو الماضي أجرى وزير الداخلية التركية سليمان صويلو مكالمة هاتفية مع نظيره الباكستاني رانا ثناء الله خان حول فرص التعاون الأمني بين البلدين في المجال الأمني، خصوصاً في مجال مكافحة الإرهاب، ومواجهة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، والجرائم السيبرانية.
الجدير بالذكر أن مؤشرات التعاون الأمني بين البلدين تنامت بوتيرة متسارعة، خصوصاً في أعقاب سيطرة حركة طالبان على مفاصل الحكم في أفغانستان في أغسطس 2021؛ وذلك في ضوء المصالح الأمنية الكبيرة التي تربط أنقرة بمنطقة الجنوب الآسيوي.
4- دعم تركي لباكستان في قضية كشمير: أحد المؤشرات الرئيسية التي تُعبر عن تنامي العلاقات الاستراتيجية بين تركيا وباكستان في السنوات الأخيرة، ارتبط بالموقف التركي من قضية كشمير المتنازع عليها بين الهند وباكستان؛ حيث عبرت تركيا في أكثر من مناسبة عن دعم باكستان؛ ففي يونيو الماضي على سبيل المثال استقبل الرئيس التركي رئيس وزراء باكستان شهباز شريف، وأكد بشكل واضح دعم بلاده لباكستان في قضية كشمير، مؤكداً حرصه على تقريب وجهات النظر بين أنقرة وإسلام أباد إزاء العديد من القضايا الإقليمية والدولية. وقد أثار هذا الموقف التركي غضب الهند؛ إذ عبرت الخارجية الهندية في أكثر من مناسبة عن رفضها هذا الموقف التركي، الذي اعتبرته تدخلاً "في شؤونها الداخلية".
5- مساعدات إنسانية لإسلام أباد: عانت باكستان من كارثة إنسانية هائلة خلال الشهور الماضية نتيجة الفيضانات في إقليم السند الجنوبي الشرقي، إلى مستويات عالية. وقالت الهيئة الوطنية الباكستانية لإدارة الكوارث إن الفيضانات في باكستان أثرت على نحو 33 مليون شخص وقتلت 1314 شخصاً على الأقل، من بينهم 458 طفلاً. وفي إطار التضامن مع باكستان، كانت تركيا قد أعلنت عن تضامنها الكامل مع باكستان من جراء هذه الأزمة الإنسانية. وفي هذا السياق أرسلت تركيا 15 طائرة و13 قطاراً محملة بمساعدات إنسانية، لدعم المتضررين، وفق ما صرح به الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.
الدوافع التركية
يُمكن القول إن هناك جملة من الدوافع التي تقف خلف التوجه التركي المتنامي لتعزيز العلاقات مع باكستان، ويمكن بيان هذه الدوافع على النحو التالي:
1- ارتباط باكستان بمشروع "العثمانية الجديدة": منذ وصوله إلى سدة الحكم في تركيا، تبنى حزب العدالة والتنمية نهجاً خارجياً توسعياً وُصف بـ"العثمانية الجديدة". وفي هذا السياق تقع باكستان في إطار المجالات الحيوية التي تتحقق فيها المصالح التركية أو ما يعرف بـ"العمق الاستراتيجي" كما ذهب أحمد داود أوغلو مهندس السياسة الخارجية التركية؛ حيث تجمع باكستان بين الامتدادين الآسيوي والإسلامي، ومن ثم فإن التمدد والنفوذ التركي في باكستان يمثل تمدداً في المجالين.
2- التحرك لتشكيل تكتلات إسلامية جديدة: الجدير بالذكر أن هذا التوجه نحو تعزيز العلاقات مع باكستان، يرتبط بمقاربة تركية تستهدف السعي لتشكيل تكتل إقليمي إسلامي في المنطقة الآسيوية، مناظر لمنظمة التعاون الإسلامي التي ترى أنقرة أن العرب يُسيطرون عليها، وقد تم التعبير عن هذا التوجه عام 2019 عندما دعا رئيس الوزراء الماليزي في ذلك الوقت مهاتير محمد، إلى قمة إسلامية ضمت تركيا وقطر وباكستان وإندونيسيا وإيران. وفي يونيو 2021، وعلى هامش عقد أعمال المؤتمر العام الثاني للجمعية البرلمانية لـ”منظمة التعاون الاقتصادي”، بمشاركة دول إيران وأفغانستان وطاجيكستان إضافة إلى باكستان، وتركيا وجمهوريات مرتبطة بالثقافة التركية هي أذربيجان وكازاخستان وقرغيزيا وتركمانستان وأوزبكستان؛ تمت الدعوة بشكل واضح إلى تشكيل تحالف إسلامي خاص بهذه المنطقة.
3- الاهتمام التركي بالملف الأفغاني: أحد المُحفزات الرئيسية لتنامي العلاقات التركية الباكستانية، تمثل في القضايا الأمنية المشتركة بين البلدين، خصوصاً تلك القضايا المرتبطة بالعمق الآسيوي، لا سيما في أعقاب صعود حركة طالبان إلى سدة الحكم، والفراغ الاستراتيجي الذي خلفه الانسحاب العسكري الأمريكي، ورغبة بعض القوى في ملء هذا الفراغ، فضلاً عن احتمالية تحول أفغانستان إلى بيئة خصبة لتنامي أنشطة التيارات الإرهابية، خصوصاً تنظيمي داعش والقاعدة؛ الأمر الذي عزز من الحاجة إلى وجود تنسيق أمني مشترك بين تركيا وباكستان.
4- رغبة أنقرة في توسيع سوق صادراتها العسكرية: لقد كانت فكرة تحول باكستان إلى سوق للصادرات العسكرية التركية، أحد المؤشرات الرئيسية على تنامي التعاون والتنسيق الأمني بين البلدين؛ ففي 25 أكتوبر الماضي أشارت تقارير إلى أن باكستان تسعى إلى اقتناء جيل جديد من الطائرات التركية المسيرة، وهي الطائرة المسيرة “أكينجي”، التي تُعتبر أكبر حجماً وأكثر تطوراً من “بيرقدار تي بي 2”. وعلى الرغم من عدم وجود تأكيدات رسمية حول تملك باكستان الطائرات المسيرة التركية، فإن القوات الجوية الباكستانية قد ظهرت وهي تتدرب على طائرات “بيرقدار تي بي 2″ و”أكينجي” في سبتمبر الماضي.
5- سعي تركيا لتحقيق مصالحها الاقتصادية: بالإضافة للاعتبارات الأيديولوجية والجيوسياسية والأمنية التي يُمكن في ضوئها فهم التوجه التركي نحو باكستان، يوجد أيضاً البعد الاقتصادي؛ حيث تعاني باكستان من أوضاع اقتصادية مأزومة، خصوصاً مع شح الموارد، ولديها ديون مستحقة تجاه البنك الدولي، ومن ثم يمثل المدخل الاقتصادي أحد المداخل المهمة بالنسبة لتركيا؛ حيث تمثل فرصة لفتح أسواق جديدة أمام المنتجات التركية، وتبادل تجاري أوسع خصوصاً مع الكتلة السكانية الكبيرة لباكستان (212 مليون نسمة)، فضلاً عن كون باكستان جزءاً من طريق الحرير الجديد الذي يبدأ من الصين ويمر عبر باكستان وإيران ثم تركيا إلى أوروبا، ومن ثم فإن تعزيز العلاقات مع باكستان سيضمن لتركيا حضوراً أقوى فيما يتعلق بطريق الحرير وما يترتب عليه من منافع اقتصادية.
في الختام، يمكن القول إن التوجه التركي المتنامي نحو تعزيز العلاقات مع باكستان، يرتبط بشكل رئيسي بالرؤية التركية التي تقوم على أن باكستان جزء من المجال الحيوي لأنقرة، فضلاً عن كونها أحد مداخل تعزيز النفوذ الجيوسياسي في المنطقة الآسيوية، وكذا إحدى الأسواق المهمة أمنياً واقتصادياً، ويُضاف إلى ذلك أن مرحلة ما بعد صعود حركة طالبان إلى سدة الحكم في أفغانستان صعدت من التهديدات الأمنية المشتركة للبلدين، وفرضت ضرورة زيادة التنسيق الثنائي.