في ختام القمة الأوروبية–المتوسطية التي عُقدت في مدينة أليكانتي على الساحل الشرقي الإسباني، التي شارك فيها الدول الـ9 المطلة على البحر المتوسط من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (كرواتيا، وقبرص، وفرنسا، واليونان، ومالطا، والبرتغال، وسلوفينيا، وإسبانيا، وإيطاليا)، يوم 9 ديسمبر الجاري، أعلن رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيز أن بلاده سوف تستضيف أول مناورات عسكرية مشتركة لبلدان الاتحاد الأوروبي، وأن التنسيق مع البلدان الأعضاء بلغ مرحلة متقدمة مع هيئة الأركان الأوروبية التي ستشرف على هذه المناورات، التي قد تشمل أيضاً تمارين لوحدات عسكرية بحرية، وهو ما قد يعتبره البعض نواة أساسية لتكوين جيش أوروبي موحد، وهو ما سبق أن نادى به قادة أوروبيون في السابق.
خطط أوروبية
خلال تولي إسبانيا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من العام المقبل، سيشارك دول التكتل في أول مناورات عسكرية مشتركة في تاريخ الاتحاد. وقد أشار الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل إلى أن هذه المناورات تشكل خطوة متقدمة نحو إنشاء “القوة العسكرية الأوروبية”، التي ستكون نواتها الأولى “قوة انتشار سريع” تتكون من 5 آلاف مقاتل؛ وذلك تمهيداً لاكتمال القوة الأوروبية المشتركة في عام 2025، كما صرح بوريل بأن قيادة هذه القوة المشتركة ستنتقل، عند اكتمالها، من هيئات الأركان الوطنية إلى هيئة الأركان الأوروبية الموحدة.
ونقلت تقارير صحفية عن مصادر أوروبية ما يفيد بأن قوة الانتشار السريع ستُخصص لها موارد مالية للتعبئة والتجهيز والتدريب، وأن مهامها في المرحلة الأولى ستكون محصورة في عمليات تحقيق الاستقرار، ثم في الإنقاذ والإخلاء خلال النزاعات الحربية. ومن المنتظر أن القيادة العسكرية العامة للاتحاد الأوروبي، التي تُشرف على البعثات غير الحربية كتدريب القوات المسلحة في بلدان خارج الاتحاد، هي التي ستتولى قيادة قوة الانتشار السريع اعتباراً من عام 2025. كما أن الدول الأعضاء ما زالت تتفاوض على شروط المشاركة في هذه القوة ومصادر تمويلها، والمواقع التي ستدور فيها هذه المناورات؛ هذا إلى جانب أنه يجري البحث أيضاً عن إمكانية مشاركة قوات أطلسية في بعض التمارين التي ستشملها هذه المناورات.
عوامل دافعة
ثمة عدة أسباب دفعت الأوروبيين إلى التفكير في إجراء هذه المناورات العسكرية في وقت استثنائي تمر به القارة مؤخراً، ولعل أبرز هذه الأسباب ما يلي:
1- التطلع إلى تكوين قوة عسكرية أوروبية: سبق أن دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نوفمبر 2018 إلى إنشاء ما وصفه بـ”جيش أوروبي حقيقي” للدفاع عن القارة التي قد تضطر لمواجهة التهديدات الخارجية، خاصةً تلك النابعة من القوى الكبرى كالصين وروسيا، وهو ما أيدته المفوضية الأوروبية لاحقاً، ومن ثم فإن مقترح تشكيل قوة أوروبية مشتركة للانتشار السريع سابق لنشوب الحرب في أوكرانيا؛ حيث تضمنته وثيقة “البوصلة الاستراتيجية” التي وضعها الاتحاد الأوروبي لتطوير أنظمته الدفاعية والأمنية.
وقد حددت وثيقة “البوصلة الاستراتيجية” أيضاً التوجهات الجيوستراتيجية للتكتل بهدف تجاوز مفهوم “المجموعات القتالية الأوروبية” التي كان قوامها 1500 عنصر فقط، ولكنها بقيت حبراً على ورق بسبب عدم توافر الإرادة السياسية اللازمة لتفعيلها، خاصةً أن أي أعمال عسكرية في الاتحاد الأوروبي تتطلب سياسة خارجية مشتركة متكاملة تماماً بين أعضائه؛ لذلك فإن إجراءات اتخاذ القرار كانت بطيئة للغاية في بعض الأحيان؛ ولذلك يطمح زعماء القارة إلى أن تشجع تلك المناورات على تسريع وتيرة هذه الإجراءات لتفعيل البنود المتضمنة ضمن وثيقة "البوصلة الاستراتيجية".
2- الاستجابة لضغوط الحرب الأوكرانية: إن الحرب الدائرة في أوكرانيا وما رافقها من تهديدات روسية مباشرة، كانت المحفز الأساسي للخطوات غير المسبوقة التي اتخذتها بلدان الاتحاد الأوروبي لتعزيز قدراتهم الدفاعية؛ إذ كشف التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا عن الحاجة إلى أن يأخذ الاتحاد الأوروبي سياسته الأمنية والدفاعية على عاتقه بشكل أكبر؛ وذلك في إطار الدفاع الجماعي عن ضمان السلام في القارة والجوار، وكذلك المساهمة في جهود السلام على الصعيد العالمي، وخاصةً إدراك دول التكتل للدرس الذي أعطته لهم الحرب بضرورة تأمين وتعزيز قدراتهم العسكرية، للدفاع عن أراضيهم إذا تكرر السيناريو الأوكراني مع إحدى الدول الأعضاء.
3- طمأنة الأعضاء في مواجهة التهديدات: كثيراً ما أكد المجلس الأوروبي مصلحة الاتحاد الأوروبي الاستراتيجية في بيئة مستقرة وآمنة في شرق المتوسط؛ وذلك في ضوء القلق العميق بشأن الإجراءات الأحادية المتكررة والتصريحات الاستفزازية من جانب تركيا تجاه اليونان – وهي عضو بالاتحاد الأوروبي – التي كان آخرها تهديدات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بضرب أثينا بصواريخ باليستية؛ وذلك على خلفية خلافاتهما بشأن بحر إيجة وترسيم الحدود البحرية لتحديد حقوق التنقيب عن الطاقة في شرق المتوسط.
ولذلك يرى التكتل أنه يجب بالأساس معالجة القضايا العالقة بالوسائل السلمية والاحترام الكامل للقانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار؛ من أجل الحفاظ على سيادة وسلامة أراضي جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي واحترام حقوقها السيادية، أما في حال تم استنفاد كافة الوسائل السلمية، فلا مانع من استخدام القوة العسكرية الأوروبية للدفاع عن مصالح وسيادة أراضي الدول الأعضاء.
4- الاستفادة من تكامل وتعاون دول التكتل: مما لا شك فيه أن تعزيز التعاون العسكري بين دول الاتحاد الأوروبي مدفوع بقوة وتكامل أطر التعاون بين دول التكتل، وهو التعاون الذي لا يزال مستمراً بينهم في مختلف المجالات، وعلى رأسها الطاقة. وعلى سبيل المثال، اتفقت إسبانيا وفرنسا والبرتغال على بناء أول خط أنابيب هيدروجين رئيسي في أوروبا بحلول عام 2030، بتكلفة 2.5 مليار يورو، لنقل الهيدروجين من مدينة برشلونة بشبه الجزيرة الأيبيرية إلى مدينة مرسيليا الفرنسية، وفي نهاية المطاف إلى بقية أوروبا، كما يهدف الخط إلى جعل إمدادات الطاقة في الاتحاد الأوروبي أكثر استقلالية، وهو الهدف الذي سرعه التدخل العسكري الروسي في أوكرانيا الذي تسبب في أزمة طاقة عالمية، ومن ثم فإن التعاون العسكري يعد مرآة للخطوات الأوروبية المماثلة في بقية المجالات.
تبعات محتملة
قد يتمخض عن الدعوة إلى إجراء هذه المناورات العديد من الانعكاسات على القدرات والإمكانات العسكرية الأوروبية في مواجهة تحدياتها الأمنية، ومن أبرز تداعياتها ما يلي:
1- التمهيد لقوة عسكرية أوروبية موحدة: قد يشهد العقدان الحالي والمقبل تطوراً ملحوظاً في حجم وقدرات الجيوش الوطنية الأوروبية، التي ستشكل فيما بعد الأساس الرئيسي لتكوين قوة عسكرية أوروبية موحدة، تعتمد على الموارد الأوروبية الخاصة، سواء مالياً أو عسكرياً، ويُشرف عليها البرلمان الأوروبي، وتكون قادرة على إجراء عمليات حفظ السلام والعمليات الإنسانية، وبناء السلام على الصعيد العالمي، خاصةً أن جهود تفعيل بنود وثيقة “البوصلة الاستراتيجية”، ستعزز التعاون الدفاعي الأوروبي، وستجعل الاتحاد الأوروبي أقوى وأكثر قدرة على التعامل مع الأزمات بشكل مستقل عند الحاجة.
2- التخفيف من حدة التبعية الأمريكية: قد تكون المناورات العسكرية بداية مشجعة لدعم استقلالية سياسات الاتحاد الأوروبي في مواجهة التهديدات العسكرية، بعيداً عن توجهات حلف الناتو الذي يتم الاعتماد فيه بالأساس على الولايات المتحدة وتوجهاتها، وهو ما أكده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منذ نحو ثلاثة أعوام بشأن ما وصفه بالموت السريري للحلف، وتصريحاته بشأن تعزيز الاستقلالية الاستراتيجية للاتحاد وقدرته على العمل مع شركائه لحماية قيمه ومصالحه، من خلال التدريب المشترك للقوات المسلحة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وتطوير القدرات الإلكترونية، وزيادة الإنفاق الدفاعي والمشتريات الدفاعية المشتركة من قبل الدول الأعضاء، حتى يصبح الاتحاد الأوروبي جهة فاعلة أمنية ودفاعية قوية وقادرة على حماية مصالحها ومواطنيها بشكل مستقل.
3- زيادة الإنفاق العسكري لدول التكتل: من المتوقع زيادة حجم الإنفاق العسكري للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي؛ حيث سبق أن نبه الممثل الأعلى للسياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل مراراً في الأسابيع الأخيرة إلى أن المخزونات الأوروبية للمعدات الحربية والذخائر قد أشرفت على النضوب نتيجة المساعدات التي أرسلتها الدول الأعضاء إلى أوكرانيا، وأن تجديدها بات ملحاً وحيوياً؛ ليس فقط بسبب الحرب الدائرة على حدود الاتحاد الأوروبي، بل في ضوء ما تشهده بلدان عديدة قريبة من الحدود الخارجية للاتحاد.
ويُشار في هذا الصدد إلى أن بيانات الوكالة الأوروبية أفادت بأن الإنفاق الدفاعي الإجمالي في بلدان الاتحاد الأوروبي بلغ 214 مليار يورو في 2021، بزيادة قدرها 6% عن 2020، لكن ذلك لا يشكل سوى 1.5% فقط من إجمالي الناتج القومي للبلدان الأعضاء، أي دون نسبة 2% التي توافقت عليها الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي. كما يُشار إلى أن الإنفاق الدفاعي الصيني يعادل حالياً 3% من إجمالي الناتج القومي، فيما يتجاوز 7% في الولايات المتحدة.
4- احتمالية بروز توجه إيطالي مخالف: بعد وصول اليمين المتطرف إلى رأس السلطة في إيطاليا، بقيادة رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، بدا أن زعيمته تتخذ مواقف أكثر مناهضة تجاه سياسات بقية دول الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يدفعها إلى عدم المشاركة في هذه المناورات، خاصةً بعد أن توافقت الأطراف المعنية على تغيير مسار خط الأنابيب الهيدروجيني من منطقة جبال البرانس إلى الساحل المتوسطي.
بيد أن هناك بعض المحاولات الأوروبية لرأب الصدع بين إيطاليا وبعض الدول الأعضاء؛ إذ بدا واضحاً أن الاهتمامات غير المعلنة في هذه القمة كانت منصبة على محاولات تخفيف التوتر وتصفية الأجواء بعد الأزمة التي نشبت بين باريس وروما حول ملف الهجرة غير الشرعية، وتهديدات الأخيرة المستمرة بعرقلة جهود معالجة عدد من الملفات الأوروبية الكبرى.
فرصة سانحة
خلاصة القول: إن المناورات العسكرية المرتقبة لدول الاتحاد الأوروبي، التي تعد الأولى من نوعها في تاريخ القارة الأوروبية، قد تكون فرصة سانحة نحو تحقيق الهدف القاري المتمثل في إنشاء جيش أوروبي موحد، يعمل على مجابهة كافة التهديدات التي تواجه الأمن الأوروبي، ويقوم بدوره بمنأى عن الاعتماد على حلف الناتو الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة وتوجهاتها، فضلاً عن تعزيز أطر التكامل بين دول التكتل المهدد بالتفكك، خاصةً بعد الانسحاب البريطاني منه، وارتفاع أصوات تيار اليمين المتطرف بالدول الأعضاء، وخاصةً إيطاليا، وهو التيار المعروف بسياساته الرافضة لتوجهات الاتحاد الأوروبي.