تنمو المشاعر المؤيدة لروسيا في الكونجرس بصورة مضطردة، وهو الأمر الذي ينعكس بصورة واضحة في عدد المُشرعين المؤيدين لقرار قطع الإدارة الأمريكية المساعدات عن أوكرانيا على نحو يؤثر سلباً في الأوساط السياسية الأمريكية، ولا سيما أن تلك الأصوات تؤمن بأن الولايات المتحدة تخاطر بخوض حرب نووية مع موسكو من أجل أوكرانيا التي تبعد عنها آلاف الأميال، وفي وقت تعاني فيه من التضخم. وقد كانت تلك الأصوات تنحصر سلفاً في عدد محدود من الأصوات الجمهورية، بيد أنها تمتد حالياً إلى عدد من ممثلي اليسار؛ الأمر الذي تتزايد خطورته في ظل الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب بعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس التي أُجريت في الثامن من نوفمبر الفائت.
مؤشرات بارزة
يجد نمو المشاعر المؤيدة لروسيا في الكونجرس جذوره في عدد من المؤشرات التي يمكن الوقوف عليها على النحو التالي:
1– تأييد مشرعين جمهوريين روسيا على منصات إعلامية: لعب بعض أعضاء الكونجرس دوراً في تأييد روسيا من خلال عرض بعض مواد الفيديو المناصرة لها على منصات إعلامية بديلة. ومن الجدير بالذكر، في هذا الإطار، أن الموقع الإلكتروني الشهير “Rumble” الذي يحظى بشعبية كبيرة لدى المحافظين، وبخاصة مع كونه منصة لمشاركة الفيديوهات، نشر عدداً من الفيديوهات المؤيدة لروسيا لا سيما في أعقاب إغلاق فرع قناة “روسيا اليوم” في الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي ازدادت خطورته بالنظر إلى حجم التمويل الذي تلقته تلك المنصة من إحدى شركات رؤوس الأموال الاستثمارية التي أسسها الموالي للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والسيناتور الجمهوري المنتخب مؤخراً جي دي فانس بدعم من الملياردير بيتر ثيل. وتكشف أبرز نتائج البحث على ذلك الموقع عن مقطع الفيديو الذي روج فيه ستيف بانون لضرورة مراجعة أموال الإغاثة الأوكرانية.
2- تزايُد التغريدات المؤيدة لروسيا على منصة “تويتر”: قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، ووفقاً للدراسة التي أجراها “مركز قانون الفقر الجنوبي”، فقد عارض مرشحو الحزب الجمهوري لمجلس النواب في تغريداتهم على منصة “تويتر” الدعم الأمريكي لأوكرانيا؛ وذلك بنسبة بلغت 90% من بين أكثر من 100 تغريدة أُعيد تغريدها. وقد تأسست تلك المعارضة على تزايد معدلات التضخم، وتساءلت عن أسباب دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا في الوقت الذي يُكافح فيه الأمريكيون لدفع فواتيرهم، وأكدت تراجُع أصوات المؤيدين للموقف الأمريكي تجاه روسيا وأوكرانيا، وهو ما تتزايد خطورته؛ لأن تلك الآراء إنما تؤدي الوظيفة التي تقوم بها القنوات الإعلامية الموالية لروسيا وشركات العلاقات العامة التي استعانت بها موسكو لتحسين صورتها الدولية.
3- تعدُّد دعوات مراجعة الموقف الأمريكي تجاه أوكرانيا: دعت عضوة الكونجرس الجمهورية مارجوري تايلور جرين في أوائل شهر ديسمبر الجاري وغيرها من الجمهوريين إلى تأييد قرار مراجعة دعم أوكرانيا، متهمة أعضاء الكونجرس الديمقراطيين بالنفاق، كما دعتهم إلى إرضاء الرأي العام الذي يطالب بالشفافية التامة لمعرفة أين تذهب أموال دافعي الضرائب، وقد طالبت بكشف مختلف جوانب ذلك في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب في إحدى جلسات الاستماع المخصصة لمراجعة الموقف الأمريكي تجاه أوكرانيا، كما انتقدت الجناح التقدمي للحزب الديمقراطي الذي يناهض التدخل الدولي، لكنه يقدم الأموال لأوكرانيا في الوقت نفسه.
4- دعوة الديمقراطيين بايدن للتوصل إلى تسوية للحرب: سبق أن طالب 30 من المشرعين الأمريكيين اليساريين الرئيس الأمريكي جو بايدن بضرورة التوصل إلى تسوية تفاوضية مع روسيا على نحو يُنهي الحرب الروسية–الأمريكية، ويضع ترتيبات أمنية جديدة يقبلها الجانبان، وهو ما يرجع إلى حجم المساعدات الأمريكية المقدمة إلى أوكرانيا، وهو الأمر الذي تزايدت خطورته؛ لأن هؤلاء المشرعين ألقوا باللوم على الولايات المتحدة التي تسببت سياساتها العدائية في اندلاع تلك الحرب، ولأن المسؤولية تُحتم على الولايات المتحدة النظر في الآليات المختلفة التي تكفل تسوية تلك الحرب.
5- التصويت ضد المساعدات الأمريكية لأوكرانيا: لا يمكن التقليل من شأن اعتراض عدد من نواب الكونجرس، وفي مقدمتهم بول جوسار ومارجوري تيلور جرين وسكوت بيري، على مشروعات القوانين التي تقضي بتخصيص مزيد من المساعدات الأمريكية إلى أوكرانيا؛ ففي مايو الماضي، على سبيل المثال، بلغ عدد الأصوات المعارضة لمشروع القانون الذي كان ينص على تخصيص المزيد من الأموال لإمداد أوكرانيا بالمعدات العسكرية مع إنفاق 20 مليار دولار على المعدات وتدريب العسكريين الأوكرانيين وغير ذلك، 11 عضواً في مجلس الشيوخ، و57 عضواً في مجلس النواب، كما عرقل السيناتور الجمهوري راند بول الإقرار السريع للمشروع في مجلس الشيوخ لاحقاً، وهو ما أثار في مجمله المخاوف بشأن مسار الحرب الروسية–الأوكرانية في ظل تحولات محتملة على سياسة المساعدات الأمريكية.
تداعيات محتملة
من شأن نمو المشاعر المؤيدة لروسيا في الكونجرس الأمريكي أن يسفر عن جملة من التداعيات التي يمكن الوقوف عليها على النحو التالي:
1– الترويج للروايات الروسية بشأن الانخراط في الحرب: منذ بداية الحرب الروسية–الأوكرانية، اعتمد الكرملين على الحلفاء السياسيين والإعلاميين الأمريكيين المحافظين بجانب شخصيات بارزة في اليمين الأمريكي، منهم نيك فوينتيس، ومستشار ترامب السابق ستيف بانون، ونجم فوكس نيوز تاكر كارلسون الذي يصفه كثيرون بأنه وسيلة من وسائل تحقيق الأهداف الروسية لإضعاف الدعم الأمريكي لأوكرانيا، وتقويض المساعدات الأمريكية، واستخدام التضليل لتزييف أهوال الحرب، فيما وصفه كثير من الخبراء بالتضليل الإعلامي الذي يستهدف الجماهير الأمريكية والروسية على حد سواء، وهو الأمر الذي قد يتنامى مع تعدد أعضاء الكونجرس الذين يمولون ذلك التضليل.
2- تزايُد تأثير الأصوات المعارضة لتقديم مساعدات لكييف: مع سيطرة الجمهوريين على مجلس النواب، من المتوقع أن يزداد تأثير نقاد المساعدات الأوكرانية في الكونجرس ووسائل الإعلام الصديقة لموسكو على اليمين الأمريكي، ومن المؤشرات الدالة على ذلك تأكيد كيفين مكارثي زعيم الأقلية الجمهورية في مجلس النواب آنذاك، أن فوز الحزب الجمهوري بالأغلبية يعني أنه لن يقدم “شيكاً على بياض” لأوكرانيا. بيد أنه من غير المتوقع في المقابل أن تتمكن تلك الأصوات من عرقلة مساعي “بايدن” الرامية إلى الحصول على مساعدات جديدة لأوكرانيا، على الرغم من أنهم قد يحاولون تقليصها.
3- تأجيج السخط الشعبي ضد الدعم الأمريكي لأوكرانيا: يرى عدد من أعضاء الكونجرس الجمهوريين أن الولايات المتحدة على المستوى الواقعي، لا يمكنها الاستمرار في تقديم المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا؛ بسبب التضخم الذي يؤثر مباشرة في حياة مختلف المواطنين الأمريكيين، ولا سيما مع تزايد حجم تلك المساعدات، حتى إن الإدارة الأمريكية ترغب في إقناع الكونجرس الأمريكي بتضمين مساعدات إضافية لكييف بمبلغ 37 مليار دولار لعام 2023، وهي المساعدات التي سيذهب جزء كبير منها إلى احتياجات الجيش الأوكراني، على أن يذهب الجزء الآخر للبنوك الأوروبية والعالمية والصناديق الخاصة.
ناهيك عن بعض العقود الأمريكية المبرمة، وفي مقدمتها العقد الموقع مع شركة رايثون في نوفمبر الماضي مقابل 1.2 مليار دولار لشراء أنظمة دفاع جوى لكييف. ومن شأن تلك الأصوات المؤيدة لروسيا أن تؤثر سلباً في الرأي العام الأمريكي الذي يعاني بالفعل من تبعات التضخم كي يتزايد السخط الشعبي تدريجياً على الإدارة الأمريكية.
4– فرض مزيد من الضغوط على الإدارة الأمريكية: تتزايد انتقادات الجناح المحافظ للحزب الجمهوري وحلفائه الإعلاميين للدعم الأمريكي لأوكرانيا؛ فعلى سبيل المثال، طرح رئيس كتلة الحرية اليمينية في شهر أكتوبر الماضي فكرة استخدام الجمهوريين سيطرتهم المتوقعة على مجلس النواب للتحقيق في جهود إدارة بايدن وسياساتها المتعلقة بمحادثات السلام بين أوكرانيا وروسيا، بل في حجم المساعدات الأمريكية إلى أوكرانيا، وهي المساعدات التي تواجه الإدارة الأمريكية صعوبة في تتبعها حتى اتفق المشرعون الأمريكيون على أن جهود المراقبة الحالية غير كافية وبخاصة في ظل قيام الإدارة الأمريكية بفحص 10% فقط من 22 ألف قطعة سلاح قدَّمتها واشنطن لكييف بين شهري فبراير ونوفمبر.
ختاماً، تعددت الرسائل المناهضة للموقف الأمريكي من الحرب الروسية–الأوكرانية داخل الحزب الجمهوري خلال الأشهر الثلاثة الماضية؛ إذ تزداد خطورة تلك الرسائل؛ لكونها تجد قنوات ومنصات إعلامية تروج لها. وفي هذا الإطار، دفعت “مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي” بأن هذه المنصات المدعومة من نواب الكونجرس أكثر تأثيراً من الأدوات المضللة التي تستخدمها أجهزة الدعاية الروسية، وأنها تؤجج الشكوك حول الاتجاه الذي ستأخذه السياسة الأمريكية مع استمرار ارتفاع الأسعار، فضلاً عن تحذير استطلاعات الرأي من ضغوط الناخبين مستقبلاً وتحديداً في الانتخابات الرئاسية المقبلة لعام 2024، خاصة إذا استمرت الحرب لسنوات وتراكمت تكلفة دعم أوكرانيا.