تصاعدت حدة الخلافات بين تركيا والصين في الفترة الأخيرة؛ وذلك بعد انتقاد المندوب الصيني الدائم لدى الأمم المتحدة الهجمات التركية في شمال سوريا، وهو الانتقاد الذي قوبل بالرفض من قبل تركيا ومندوبها لدى المنظمة الأممية. لقد أعادت هذه الخلافات إلى الأذهان حالة التأزم التي شهدتها العلاقات بين الدولتين خلال السنوات الماضية، وخاصةً بعد الحملات التي تبنتها أنقرة لدعم أنشطة وتحركات الإيجور، وتوقيعها في أكتوبر 2021 على بيان في الأمم المتحدة يدين الممارسات العنصرية ضد أقلية مسلمي الإيجور في إقليم تركستان الشرقية. كما أن الصين اعتادت خلال السنوات الأخيرة على تبني خطاب دبلوماسي ناقد للتحركات والسياسات التركية تجاه الملف السوري.
خلاف علني
في جلسة لمجلس الأمن الدولي بشأن سوريا، يوم الأربعاء 21 ديسمبر الجاري، أعرب نائب المندوب الصيني الدائم لدى الأمم المتحدة جينج شوانج، عن رفض بلاده الهجمات التركية على شمال شرق سوريا، مؤكداً في ذلك أن سوريا دولة ذات سيادة، وأي عمل عسكري عليها يعد انتهاكاً لسيادتها وسلامة أراضيها؛ وذلك على خلفية قيام القوات الجوية التركية بشن غارات جوية مكثفة على جميع المناطق في شمال وشرق سوريا، يوم 20 نوفمبر الماضي، بالإضافة إلى قصف مناطق تبعد أكثر من 40 كم عن الحدود التركية السورية، مثل قاعدة عسكرية للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، ومخيم الهول في الحسكة، وقرية مكمان بريف دير الزور الشمالي؛ لذلك دعا “شوانج” تركيا إلى وقف تلك الهجمات وإيجاد حل سياسي، مشدداً على ضرورة إنهاء أي وجود غير قانوني للقوات الأجنبية في سوريا.
على الجانب الآخر، رفض مندوب تركيا الدائم لدى الأمم المتحدة فيريدون سينيرلي أوغلو، الاتهامات الصينية بشأن عملياتها العسكرية، مؤكداً حق بلاده في الدفاع عن حدودها وحماية شعبها. وأشار “أوغلو” إلى أن تلك الهجمات تأتي في إطار عزم تركيا مكافحة الإرهاب الراسخ على حدودها مع سوريا، وأنها ستستمر في اتخاذ كل الخطوات اللازمة من أجل حماية وضمان أمن حدودها؛ حيث ذكر أن هناك أكثر من 500 مدني شمال سوريا فقدوا حياتهم من جراء هجمات تنظيم الوحدات الكردية، التي وصفها بذراع حزب العمال الكردستاني في سوريا، خلال العامين الماضيين.
مستقبل العلاقات
في ضوء الأزمة الدبلوماسية الراهنة بينهما، يمكن تحديد سيناريوهين لمسارات مستقبل العلاقات الصينية – التركية خلال الفترة المقبلة؛ وذلك كالتالي:
السيناريو الأول يراهن على احتمالية تحجيم هذا الخلاف الدبلوماسي الدائر بين بكين وأنقرة؛ إذ يبدو أن توثيق العلاقات بينهما سيظل محور تركيز الجانبين خلال الفترة المقبلة؛ وذلك لمجموعة من الأسباب، قد يكون أبرزها:
1- التغيرات الجارية في بيئة النظام الدولي: يراقب كبار السياسة الخارجية التركية الأتراك التغييرات الطارئة على بنيان النظام الدولي في السنوات القليلة الماضية، خاصة وهم يدركون أنه آخذ في التحول؛ حيث أدى الخطاب الانعزالي المتمثل في “أمريكا أولاً”، جنباً إلى جنب مع التخوف السياسي الداخلي للولايات المتحدة تجاه المزيد من المشاركة العسكرية في الشرق الأوسط، إلى وضع قيود على إصلاح المشكلات المستمرة في العلاقات بين واشنطن وأنقرة؛ ما دفع الأخيرة إلى البحث عن الحصول على دعم لمصالحها خارج علاقاتها التقليدية ذات التوجه الغربي.
إضافة إلى ذلك، توفر علاقة الصين الوثيقة مع تركيا فرصة لتعزيز مشاركتها وتأثيرها بشكل فعال في سياسات منطقة الشرق الأوسط، بهدف توسيع نفوذها وتكاملها الاقتصادي في منطقة المتوسط؛ إذ ترى بكين أن أنقرة لاعب مهم في تغيير النظام العالمي نظراً لنفوذها وموقعها الاستراتيجي بين البحر المتوسط والشرق الأوسط وأوراسيا.
من ناحية أخرى، تسعى تركيا إلى استخدام علاقتها مع الصين لموازنة مصالحها الخارجية، خاصة أن حزب العدالة والتنمية، بزعامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يبحث عن شركاء جدد لمساعدته على تجنب المشكلات الاقتصادية والنهاية المحتملة لولايته التي استمرت 20 عاماً في أعقاب الانتخابات المقرر إجراؤها في عام 2023؛ حيث تعد الصين بديلاً قوياً للدعم الاقتصادي والسياسي لطموحات تركيا في العالم؛ وذلك في ضوء سعي أنقرة لإقامة علاقات مع التكتلات الإقليمية الأخرى التي تلعب الصين دوراً حاسماً فيها، مثل بريكس ومنظمة شنجهاي للتعاون.
2- تسارع وتيرة العلاقات التجارية بين الدولتين: في السنوات الأخيرة، ازداد حجم المعاملات التجارية بين الصين وتركيا بشكل ملحوظ؛ ففي عام 2002 تجاوز إجمالي حجم التجارة الثنائية بينهما 1.4 مليار دولار، وقفز إلى 34.3 مليار دولار في عام 2021، لتصبح بذلك الصين هي ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا، بعد الاتحاد الأوروبي، اعتباراً من ذلك العام.
وتصدر تركيا بشكل أساسي المنتجات الزراعية والمواد الخام والمعادن والسلع التي تتطلب عمالة كثيفة إلى الصين، وتستورد إلى حد كبير منتجات كثيفة رأس المال ومنتجات عالية التقنية من الصين، ومن المتوقع أن تواصل أنقرة جهودها من أجل زيادة تصدير المنتجات الغذائية والزراعية التركية إلى بكين.
3- كثافة الاستثمارات الصينية في تركيا: إن الصين لديها نحو 1060 شركة مسجلة في تركيا وفقاً لبيانات عام 2021، ويبلغ إجمالي استثماراتها نحو 4 مليارات دولار، تتركز أغلبها في قطاعات الطاقة، والبنية التحتية، واللوجستيات، والتمويل، والاتصالات السلكية واللاسلكية والثروة الحيوانية. على الجانب الآخر، ترغب الشركات التركية في استيعاب المعرفة التقنية من الشركات الصينية في القطاعات الرئيسية، مثل الإلكترونيات والطاقة، خاصةً المتجددة.
كما تدعم تركيا مشروع الحزام والطريق، الذي بفضله قد تعززت العلاقات الثنائية بين أنقرة وبكين؛ حيث أصبحت تركيا مشاركاً رئيسياً في ممر غرب آسيا لمبادرة الحزام والطريق، بفضل موقعها اللوجستي القريب من الاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى والقوقاز على نحو يشجع على جذب الاستثمارات الصينية إلى تركيا في ضوء تنفيذ المشروعات اللازمة والمرتبطة بتنفيذ المبادرة، التي بدورها تحقق عوائد إيجابية ملموسة لكل من البلدين.
4- مساعي أنقرة للانضمام لمنظمة شنجهاي: تسعى تركيا للحصول على عضوية كاملة في منظمة شنجهاي للتعاون التي تقودها الصين، لتصبح بذلك أول عضو في الناتو ينضم إلى هذه المنظمة؛ وذلك في الوقت الذي يحاول فيه أردوغان تشكيل تحالفات مع دول صديقة في الشرق. وقد تجلى ظهور تلك النوايا التركية بعد حضور الزعيم التركي قمة منظمة شنجهاي للتعاون في أوزبكستان، التي عقدت خلال شهر سبتمبر الماضي؛ حيث أجرى حينها محادثات مع قادة المنظمة، وعلى رأسهم الرئيس الصيني شي جين بينج، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من أجل دعم ملف بلاده للانضمام إلى المنظمة.
5- تصاعد حضور الدبلوماسية الناعمة في العلاقات الثنائية: تعد تركيا من أبرز الوجهات السياحية الجذابة بالنسبة للصينيين؛ حيث تم الاحتفال بعام 2018 باعتباره “عام السياحة التركية”، وتم تنظيم العديد من الفعاليات الثقافية في الصين بهذه المناسبة؛ ففي العام ذاته، ارتفع عدد السياح الصينيين الذين يزورون تركيا إلى 394 ألف سائح، بنسبة نمو بلغت 60% مقارنة بالعام السابق، وفي عام 2019 تجاوز عددهم 565 ألف سائح.
هذا وساهمت جهود الدبلوماسية العامة الصينية من خلال إذاعة الصين الدولية ومعاهد كونفوشيوس في تحسين صورتها في تركيا، حتى وصل عدد هذه المعاهد التي تعمل حالياً في تركيا إلى خمسة معاهد، كان أولها عام 2008؛ وذلك لتعليم اللغة الصينية ولتعزيز العلاقات الثقافية بين البلدين، كما تم افتتاح معهد يونس إمري الذي يعد أداة للدبلوماسية العامة الصينية الأكثر نفوذاً في تركيا.
السيناريو الثاني يفترض توسع آفاق الأزمة الدبلوماسية الراهنة بين الصين وتركيا خلال المرحلة المقبلة، معتمداً في ذلك على عدة مؤشرات، ومنها:
1- عضوية تركيا في حلف الناتو: أعلن الناتو مؤخراً عن أن الصين أولوية استراتيجية يتعين مواجهتها نظراً للتحديات التي تمثلها؛ نتيجة لمواقفها العدائية تجاه تايوان وعلاقاتها الوثيقة مع روسيا، وردت الصين بوصف حلف الناتو بأنه مصدر عدم استقرار في العالم وعرضة لتفجير الحرب الباردة، ومن ثم فإن أي تقارب بين تركيا والصين، سيمنح الأخيرة ظروفاً مواتية لتقويض التضامن بين أعضاء حلف الناتو الذي نشأ مع حرب أوكرانيا.
لذلك من المتوقع أن تظل العلاقة بين الصين وتركيا تحت الرادار؛ إذ إن العلاقات القوية بين الصين وتركيا تمثل مشكلة حقيقية للتماسك الغربي في الناتو، واستقرار الاتحاد الأوروبي، وقوة الولايات المتحدة في المنطقة، وتوازن القوى في منطقة المتوسط، كما أن تركيا بصفتها دولة في حلف الناتو، قد تكون أكثر حذراً نحو الصين من الناحية الأمنية، خاصة أن لديها التزامات أمنية تجاه الناتو.
2- التأثير المعاكس لقضية الإيجور في الصين: فخلال السنوات الأخيرة كانت تركيا تستخدم قضية الإيجور من أجل الضغط على الصين، وفي الوقت ذاته تعزيز صورة تركيا الخارجية في العالم الإسلامي؛ فعلى سبيل المثال، أصدرت وزارة الخارجية التركية، في فبراير 2019، بياناً يوضح أن هناك أكثر من مليون فرد من الإيجور الأتراك يتعرضون للاعتقال التعسفي وللتعذيب وغسيل الدماغ السياسي في معسكرات الاعتقال والسجون بالصين. كما قامت أنقرة في 28 أكتوبر 2021 بالتوقيع على بيان مع 42 دولة في الأمم المتحدة يندد بالانتهاكات الصينية لحقوق الإنسان ضد أقلية الإيجور المسلمة في إقليم تركستان الشرقية. وأكد البيان المدعوم من تركيا أن هناك تقارير ذات مصداقية تشير إلى وجود شبكة كبيرة من معسكرات إعادة التثقيف السياسي؛ حيث تم اعتقال أكثر من مليون شخص على نحو تعسفي.
وعلى الجانب الآخر، تميل الصين إلى اللعب على الورقة الكردية رداً على تصريحات تركيا الرسمية التي تنتقد انتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانج، بل تتهم تركيا أيضاً بحماية الإرهابيين الإيجور على أراضيها.
3- صعوبة التعاون العسكري بين الدولتين: لا تزال صناعة الأسلحة المحلية في تركيا تستبدل ببطء حاجتها إلى معدات الناتو العسكرية؛ فعلى الرغم من أن الطائرات بدون طيار التركية كانت حاسمة في تدمير المعدات العسكرية الروسية وغيرت ديناميكيات الصراع في أوكرانيا، فإن أنقرة لا تزال تعتمد على الأسلحة الغربية في تطوير قدراتها العسكرية.
لكن في المقابل، قد تسعى تركيا للحصول على معدات أو تكنولوجيا عسكرية أرخص وأكثر فاعلية من حيث التكلفة من الصين، إذا استمر تدهور علاقاتها مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، بيد أن العلاقات العسكرية والأمنية المتنامية بين أنقرة وبكين تواجه تحديات عميقة؛ نتيجة أن المعدات العسكرية الصينية لا تضاهي كفاءة وفاعلية معدات الولايات المتحدة وحلف الناتو حتى الآن.
وختاماً، يعد السيناريو الأول هو الأقرب للواقع، خاصة أن تركيا تسعى إلى إقامة علاقات متوازنة بين الغرب والشرق؛ وذلك في ضوء اتساع آفاق التعاون مع الصين تحديداً، نظراً للتطور السريع للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين الجانبين، ناهيك عن تنوع الفرص الجاذبة لاستمرار تقدم مسارات الشراكة بينهما، بالإضافة إلى محدودية المؤشرات المتعلقة باحتمالات تصاعد الخلافات بين أنقرة وبكين، نتيجة الترقب التركي للتغيرات الراهنة في بيئة النظام العالمي.