تعود أصول أزمة الطاقة الحالية في أوروبا إلى ما هو أبعد بكثير من الحرب الأوكرانية التي اندلعت في فبراير 2022. وبالرغم من بروز أزمة الطاقة الأوروبية في مطلع عام 2021، التي نجمت حينها عن زيادة الطلب الهائل على الطاقة في أوروبا، بعد عام من الركود بفعل تفشي فيروس كوفيد-19 – وذلك بغية تسريع التعافي الاقتصادي من تبعات الوباء – فإن الأزمة في واقع الأمر تعكس عقداً كاملاً من تباطؤ الاستثمار في إنتاج النفط والغاز، على خلفية المساعي الأوروبية للتخلص التدريجي من الانبعاثات الكربونية، الذي لم يقابله في الوقت ذاته انخفاض هيكلي في الطلب.
ومع تفاقم مخاطر الإمداد بالغاز الطبيعي للقارة الأوروبية، التي خلفتها الحرب الروسية الأوكرانية، من جراء توتر العلاقات الروسية الأوروبية، فإن الأزمة باتت على صدارة جدول الأعمال الأوروبية؛ حيث لا تزال أوروبا تكابد أسعار الطاقة المتصاعدة، جنباً إلى جنب مع التباطؤ الاقتصادي الحاد.
في إطار ذلك، تسعى الحكومات الأوروبية بخطى حثيثة نحو تجنب أزمة الطاقة في عام 2023، غير أن الاحتمالات تقود إلى أن استنفاد مخزون الغاز الطبيعي في أوروبا بصورة كبيرة سيكون بحلول ربيع 2023، وهو ما يدفع نحو عدد من السيناريوهات على المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في أوروبا.
تحركات أوروبية
عمدت الحكومات الأوروبية خلال الأشهر الأخيرة من عام 2022، في ظل المخاوف المتنامية من عدم كفاية الطاقة خلال فصل الشتاء، إلى اتخاذ عدد من المسارات لتجنب تداعيات نقص الطاقة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للأزمة في عام 2023، ومن أهم تلك المسارات ما يلي:
1- زيادة التدافع على استيراد الغاز الطبيعي: تسعى الحكومات الأوروبية في الوقت الراهن إلى ملء مخازن الغاز لديها، وقد تم تحقيق ذلك إلى حد كبير عن طريق استيراد الغاز النرويجي، والغاز الطبيعي المسال (LNG) عند مستويات تقترب من الحد الأقصى لمستويات الإنتاجية طوال فصل الصيف، بالإضافة إلى زيادات صغيرة في العرض من قبل كل من الجزائر وأذربيجان. لكن وبالرغم من ذلك، فإن الإمدادات المنخفضة من الغاز الروسي التي وصلت أوروبا بين مارس وأغسطس، لا تزال تمثل جزءاً كبيراً من واردات الطاقة إلى أوروبا في عام 2022. ومن ثم يمكن القول بأن الزيادة في قدرة الاستيراد القصوى لأوروبا قد زادت بمقدار طفيف فقط، عند معرفة أن الجزء الأكبر منها قادم من روسيا التي لن تكون حاضرة بين المصدرين خلال العام المقبل.
2- انتهاج خطط دعم السيولة الحكومية: تحاول الدول الأوروبية تنفيذ خطط دعم السيولة الحكومية على خلفية اقتراح الاتحاد الأوروبي تبني آلية جديدة لسوق الغاز بالجملة، بهدف زيادة الاستقرار في أسعار الطاقة. وفي إطار ذلك، خصصت ألمانيا ميزانية قدرها 68 مليار يورو متاحة لقطاع المرافق وحده، الذي يحتاج إلى سيولة إضافية لتلبية متطلباته من الطاقة، فيما أعلنت المملكة المتحدة عن استعدادها لتخصيص 46 مليار يورو، والسويد 23 مليار يورو، فيما قامت كل من فنلندا وفرنسا بتقييم احتياجات السيولة للقطاع بنحو 10 مليارات يورو.
3- دعم التحول نحو الطاقة المتجددة: أجبر الوضع الذي تعايشه أوروبا في الوقت الحالي من جراء أزمة الطاقة المتفاقمة، التي بلغت مداها بنشوب الحرب الروسية الأوكرانية، قادة الاتحاد الأوروبي على تصعيد العمل السريع لسد الثغرات التي خلفتها روسيا بتقليص صادراتها من الغاز إلى أوروبا.
حيث اتجهوا إلى تسريع الخطى في التحول نحو الطاقة المجددة، حتى تلك الدول التي كانت مترددة في السابق في الانضمام إلى مساعي التوسع في مصادر الطاقة المتجددة. وفي ذلك السياق، قام الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2022، بالموافقة على زيادة أهدافه للطاقة المتجددة إلى 45% بحلول عام 2030، ارتفاعاً من الهدف السابق البالغ 40%. جدير بالذكر أن الاتحاد الأوروبي يُحصِّل في الوقت الحالي ما يزيد قليلاً عن 20% من إجمالي طاقته من مصادر الطاقة المتجددة.
وبحسب تقرير جديد صادر عن وكالة الطاقة الدولية، فإن العالم بإمكانه أن يحقق قدراً كبيراً من الطاقة المتجددة خلال السنوات الخمس المقبلة، كالتي حققها على مدار السنوات العشرين الماضية.
4- تبني سياسة تحديد سقف لأسعار الغاز: في يوم 19 ديسمبر 2022، اتفق الوزراء الأوروبيون على وضع سقف للأسعار – أي تحديد حد أقصى لسعر الغاز – إذا تجاوزت الأسعار 180 يورو/ميجاواط ساعة لمدة ثلاثة أيام. وقد جاء ذلك القرار بعد أسابيع من المحادثات بشأن ذلك الإجراء الطارئ الذي أحدث انقساماً في الآراء بين دول الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تستمر فيه المحاولات الأوروبية في ترويض أزمة الطاقة، وهي أحدث محاولة من جانب 27 دولة في الاتحاد الأوروبي لخفض أسعار الغاز المتفاقمة وتهدئة التضخم الجامح نحو مستويات قياسية، بعد إيقاف روسيا معظم شحنات الغاز إلى أوروبا.
وقد أظهرت الوثيقة التي حملت ذلك القرار، أنه يمكن بدء العمل بالحد الأقصى اعتباراً من 15 فبراير 2023، وهو التاريخ الذي سيتم فيه الموافقة على الصفقة رسمياً من قبل الدول كتابةً، وبعد ذلك يمكن أن يدخل حيز التنفيذ.
تداعيات محتملة
على الرغم من الجهود المبذولة لتأمين إمدادات كافية من الغاز لفصل الشتاء، فإن ديناميكيات سوق الطاقة في أوروبا في عام 2023، لا تزال معقدة، ومن المتوقع أن يكون الوضع أكثر صعوبة عما كان عليه في عام 2022؛ حيث ستظل أسعار الطاقة مرتفعة، ولن يوقف طوفان ارتفاعها سوى خفض الطلب في جميع أنحاء القارة، وهو ما من شأنه أن يكون له تداعيات واسعة على عدد من الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في أوروبا خلال 2023، وهو الأمر الذي يمكن تناوله على النحو التالي:
1- تباطؤ قطاع الصناعة في أوروبا: من المتوقع إذا فشلت دول الاتحاد الأوروبي في تلبية الطلب المتنامي على الغاز، أن يتسبب خفض الطلب الإجباري في إجبار الصناعة في جميع أنحاء أوروبا على التباطؤ؛ حيث سيأخذ خفض الطلب شكل التحول عن الكهرباء المولدة بالغاز، بما في ذلك الفحم والديزل، ومن ثم فإن أول القطاعات التي ستتضرر من جراء ذلك، هي القطاعات المنزلية والتجارية، التي من المرجح أن تتقلص بشكل ما بسبب ارتفاع أسعار التجزئة.
ومع ذلك، فإن معظم الانخفاضات في الطلب ستأتي من القطاعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة والغاز، مثل الكيماويات والصلب والسيراميك وتصنيع المواد الأخرى والأسمدة، التي من المتوقع أن تضطر إلى خفض الإنتاج أو الإغلاق لفترات طويلة.
وقد أخذ الإنتاج الصناعي في أوروبا بالفعل ينخفض بشكل حاد في تلك القطاعات. ولعل مزيداً من التراجع المتوقع في الإنتاج، سيكون له تأثيراته غير المباشرة على الأسعار وسوق العمل وثقة المستهلك، بما يؤدي في النهاية إلى تفاقم الركود في 2023 وإبطاء الانتعاش اللاحق.
2- تفاقم ضغوط التنافسية وإفلاس بعض الشركات: مع ارتفاع تكاليف المدخلات المتوقع إلى مستويات قياسية، قد تصبح الصناعة الأوروبية غير قادرة على المنافسة، وربما يستمر ذلك لعدة سنوات؛ ما يتسبب في ابتعاد سلاسل التوريد العالمية عن أوروبا. وربما تعمل ضغوط التنافسية أيضاً على توجيه قرارات الشركات الصناعية بشأن البقاء في وضع الخمول، أو الاضطرار إلى إعلان إفلاسها، أو إنتاج سلع بسعر غير اقتصادي، في العديد من القطاعات، وأبرزها قطاع السيارات.
في ذلك السياق، حذرت مجموعات صناعية ألمانية من كون الارتفاع المستمر في أسعار الطاقة قد يؤدي إلى “تراجع التصنيع في ألمانيا”، وهددت شركات صناعة السيارات في أوروبا الشرقية بنقل الإنتاج إلى جنوب أوروبا؛ حيث تكون تكاليف الطاقة أقل، أو إلى خارج المنطقة تماماً، بما يزيد المخاوف من أن تحذو المزيد من الصناعات في أوروبا حذوها، بما ينتج عنه هروب الاستثمارات بعيداً عن أوروبا.
3- توتر السياسات المالية في الاتحاد الأوروبي: من المرجح أن تتعرض السياسات المالية في أوروبا لمزيد من التوتر، في ظل اضطرار الحكومات إلى تحمل جزء من الارتفاع غير المسبوق في أسعار الغاز الطبيعي، بغية تجنب تحميلها بالكامل على الأسر. وقد بدأت البلدان الأوروبية بالفعل في توفير الغاز للأسر بأسعار معقولة، وهو ما جاء في عدة صور؛ إما في شكل تحديد حد أقصى للأسعار كما في المملكة المتحدة، التي بلغت تكلفة الارتفاع في أسعار الطاقة التي تتحملها حكومتها نحو 150 مليار جنيه إسترليني، أو تأميم قطاع الطاقة كما الحال في ألمانيا التي أممت بالكامل أكبر شركة مستوردة للغاز “يونيبر” Uniper في إطار توسيع تدخل الدولة في الصناعة، بالإضافة إلى تدابير الإغاثة الأخرى للأسر.
4- ضعف الاستجابة الحكومية في بعض الملفات الاجتماعية: يبدو أن التركيز على الطاقة يستهلك وقت واهتمام جميع السياسيين الأوروبيين، وهو ما قد ينجم عنه إهمال عمليات صنع سياسات أخرى ربما تهم المواطن الأوروبي؛ فمنذ تفشي فيروس كوفيد–19، تم تأجيل العديد من الإصلاحات مراراً وتكراراً.
ففي فرنسا، على سبيل المثال، أوقف الرئيس إيمانويل ماكرون إصلاحاً مثيراً للجدل حول المعاشات التقاعدية في بداية الوباء، فيما تحاول بلدان أخرى التخلص من الإصلاحات التي التزمت بها من أجل تأمين الأموال من صندوق التعافي بعد الوباء التابع للاتحاد الأوروبي، وهو ما يفرض تحدياً كبيراً أمام صناع السياسة الأوروبيين حول ضرورة المواءمة بين القضايا الاجتماعية المختلفة، وألا يقتصر جُل التركيز على تقديم الدعم للأسر فيما يخص أسعار الطاقة، بما لا يدع مجالاً للاهتمام ببعض الملفات الاجتماعية الأخرى، وتركها عالقة.
5- تراكم أعباء الديون: أدى تعليق قوانين الاتحاد الأوروبي التي تفرض سقوفاً للإنفاق العام على الحكومات التي تتجاوز ديونها 60% من الناتج المحلي الإجمالي، إلى تراكم أعباء الديون خلال فترة الوباء وأزمة الطاقة الممتدة منذ مطلع 2021، وهو ما ينذر بتقييد الميزانيات الأوروبية لسنوات قادمة. علاوة على ذلك، فإنه على مدار العقد المقبل، من المتوقع أن تؤثر الحاجة الملحة لزيادة الإنفاق من أجل مكافحة تغير المناخ وإغاثة كبار السن، على الموارد المالية العامة بدرجة أكثر من ذلك.
لذا يخشى بعض صانعي السياسة من أن تتسبب المزيد من الديون في جعل الأسواق في حالة توتر مستمر. وعلى خلفية ذلك حذرت كريستين لاجارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي، وزراء المالية الأوروبيين من أن زيادة الإنفاق العام قد يؤدي إلى ارتفاع أسرع في أسعار الفائدة، وهو ما سيدفع البلدان ذات الديون المرتفعة بشكل خاص إلى مطالبة البنك التجاري الأوروبي، بمساعدتها على تسديد ديونها.
6- تصاعد الاحتجاجات وعدم الاستقرار السياسي في أوروبا: وفق تصريحات وكالة الطاقة الدولية، فإن هناك حاجة إلى مزيد من خفض الطلب بنسبة 13% من أجل الحفاظ على مستويات التخزين للغاز أعلى من 33% حتى عام 2023، وتجنب تفاقم أزمة الغاز في أوروبا في حالة انخفاض التدفقات، وهو ما يفرض تغيير سلوك المواطنين في التعامل مع الطاقة، وربما يثير غضبهم تجاه حكوماتهم، باعتبارها سبب الأزمة والتصعيد مع روسيا على حساب مصلحة مواطنيها.
وبالفعل برزت الاحتجاجات في الفترة الأخيرة في عدة دول أوروبية منها فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وألمانيا، للمطالبة بزيادة الأجور، واحتجاجاً على ارتفاع أسعار الطاقة، وربما تتفاقم الأوضاع سوءاً، بما يؤثر على القرارات الانتخابية في عدة دول أوروبية خلال عام 2023.
إجمالاً، تستمر فجوة الطاقة في إثارة المخاوف في أوروبا، رغم المساعي الأوروبية لاحتواء الأزمة، خاصةً في ظل غياب صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا في العام المقبل، الذي رغم انخفاضه مثل الجزء الأكبر من واردات أوروبا من الغاز في عام 2022، وهو الأمر الذي من المتوقع أن يكون له آثاره السلبية على عدة مستويات في عام 2023، كزعزعة الثقة بقدرات الحكومات الأوروبية على إدارة الأزمة، ووضع القدرات المالية للمنطقة برمتها على المحك للتخفيف من تأثير ارتفاع أسعار الكهرباء على الشركات والأسر. وهو ما من شأنه أن يضع صانعي السياسات أمام تحدٍّ رئيسي، وهو إيجاد طرق لتعزيز كفاءة الطاقة وتحقيق الاستقرار في استهلاك الغاز والتحول الأخضر في أسرع وقت ممكن، بما يمكنها من تأمين مستقبل الطاقة في أوروبا على المدى البعيد.