• اخر تحديث : 2024-11-23 11:50
news-details
قراءات

دور القوى المتوسطة والإقليمية في ظل تحولات النظام الدولي


تستدعي حالة الصعود الصيني- اقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجياً- طرح التساؤلات حول تأثير هذا الصعود على توازن القوى مع الولايات المتحدة (القوة القائمة)، ومدى رضاء الصين (القوة الصاعدة) عن القواعد والأطر القائمة في النظام الدولي الراهن، باعتبارهما العوامل الأكثر تأثيرًا على شكل النظام الدولي وتحولاته.  وتأتي تلك التساؤلات في ظل التغيرات الجوهرية التي شهدها النظام الدولي في الأعوام الأخيرة، ومنها تراجع المعسكر الغربي، وتراجع نفوذ الولايات المتحدة، وقدرتها على تشكيل الأحداث الدولية أو التعامل مع الأزمات الدولية مثل أزمة وباء كورونا، والتي أثرت كثيرًا على سمعة الولايات المتحدة. في الوقت ذاته الذي صعدت فيه الصين إلى مكانة القوة العظمى في النظام الدولي الرافضة للهيمنة الأمريكية، والساعية إلى توسيع نفوذها من خلال استغلال أزمات النظام الدولي لإظهار تفوق النموذج الصيني ونشر مفاهيم دولية جديدة مثل «مجتمع المصير المشترك»، و«المنفعة المتبادلة». ثم جاءت الحرب الأوكرانية، والتي عبرت عن رغبة روسيا في مراجعة النظام الدولي من أجل انهاء الانفراد الأمريكي.

في سياق ما سبق تحاول هذه المقالة تناول أبرز التحولات التي تعصف بتوازنات القوى داخل النظام الدولي، والتي تسير نحو إنهاء الانفراد الأمريكي بقيادة العالم، مع الصعود الصيني؛ اقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجياً، ثم تناقش المقالة حدود الإدراك الأمريكي وكيفية تعاطيها مع هذا التحدي، ثم تتناول المقالة دور القوى المتوسطة والإقليمية، كونها لاعبًا مهمًا يسعى للانفكاك عن حالة الاستقطاب الدولي الراهن، ومساعيها لإرساء أسس نظام عالمي جديد قائم على احترام القانون والأطر الدولية.

أولاً: تراجع الدور الأمريكي في قيادة النظام الدولي

يُعرف النظام الدولي بأنه «التوزيع القائم للقوة بين الفاعلين الدوليين في فترة زمنية معينة». ويعبر النظام الدولي عن نمط أو أنماط سائدة للتفاعلات بين الوحدات الدولية، تعكس هذه التفاعلات علاقات تأثير وتأثر بين الوحدات. وتتكون عناصر النظام الدولي من الفاعلين الدوليين وهيكل يحدده توزيع القوة والمقدرات داخل النظام الدولي. هذا الهيكل يحدد ترتيب الوحدات المكونة للنظام الدولي من حيث القوة والمكانة. ويؤثر هذا الهيكل على سلوك الفاعلين الدوليين من حيث التحديات والفرص المتاحة لهم. ويضاف إلى ذلك مجموعة القواعد والإجراءات والمنظمات التي تنظم سلوك الفاعلين الدوليين. وكذلك العمليات أو الأنشطة التي تتم داخل النظام الدولي مثل الحرب الباردة والعولمة. ومنذ انتهاء الحرب الباردة اعتمد النظام الدولي في شقيه الاقتصادي والأمني على القيادة الأمريكية والذي حقق للولايات المتحدة تفردًا بقيادة تفاعلات النظام الدولي واستطاعت من خلاله تأمين مصالحها وتحقيق أهدافها من خلال مؤسسات اقتصادية وأمنية دولية وإقليمية تعمل وفق المعايير والقيم الأمريكية.

فبعد أن كانت السياسة الخارجية الأمريكية قائمة على مدار سبعين عامًا على أهمية قيادة الولايات المتحدة لحلفائها نحو حلول مشتركة للقضايا العالمية المشتركة، شكلت سياسات ومواقف ترامب قطيعة مع انخراط الولايات المتحدة في النظام الدولي الذي قامت الولايات المتحدة بإرساء قواعده القائمة على حرية التجارة ونشر الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية.  ومن ثم أدت سياسات ترامب الأحادية والحمائية إلى ضرب قواعد الليبرالية المؤسسية الدولية، وتراجع الدور الأمريكي في قيادة النظام الدولي، والتي انعكست بالسلب على الشرعية الدولية وعلى صورة الولايات المتحدة، وترسخ الانطباع لدى المجتمع الدولي بأن الولايات المتحدة أصبحت دولة لا يمكن الاعتماد عليها في تولي مسؤوليات قيادة النظام الدولي، كما شككت مواقف ترامب في مدى التزام الولايات المتحدة تجاه حلفائها.

ثانيًا: التنافس الصيني الأمريكي وانعكاسات الاستقطاب الدولي

يُعد التنافس الصيني الأمريكي تنافسًا تقليديًا بين قوة (قائمة) وقوة (صاعدة) في النظام الدولي، وعلى خلفية الصعود الصيني، تشهد الدوائر الأكاديمية مناقشات حول مستقبل النظام الدولي؛ حيث تؤكد على أن العالم يسير في اتجاه نهاية الأحادية القطبية القائمة على هيمنة الولايات المتحدة كقوة عظمى، مع تزايد الاستقطاب والتوتر الدولي.

ومن أبرز مؤشرات التوتر الدولي التصعيد الأمريكي- الصيني حول تايوان، والذي يُعد تهديدًا أمنيًا عالميًا يأتي بالتزامن مع استمرار الأزمة الأوكرانية. وعلى الصعيد الاقتصادي، تصاعدت التوترات بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية على خلفية فرض الإدارة الأمريكية ضوابط تصدير شاملة على تكنولوجيا تصنيع أشباه الموصلات الأمريكية، والتي تمثل انتكاسة كبيرة لخطط الصين التكنولوجية والعسكرية. كذلك تصاعدت التوترات الدبلوماسية والأمنية بين الجانبين بشأن تايوان عقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي «نانسي بيلوسي» إلى تايوان في أغسطس 2022.

وقد انعكس تصاعد حالة الاستقطاب والتوتر على تراجع جهود الحوكمة الدولية في مواجهة التحديات الكونية التي تواجه النظام الدولي مثل تغير المناخ والأوبئة؛ حيث تسود حالة من التنافس والجمود الاستراتيجي وعدم القدرة على الفصل بين القضايا الجيوسياسية ذات الطبيعة التنافسية، والقضايا العالمية الملحة مثل الأوبئة وتغير المناخ التي لا يصلح التعامل معها إلا من خلال أطر جماعية تعاونية واتفاقات ملزمة لجميع الأطراف. فمثلاً حدث تعليق التعاون بين الولايات المتحدة والصين بشأن قضية التغير المناخي عقب زيارة «نانسي بيلوسي» رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى تايوان؛ حيث تصاعدت على إثرها الاتهامات المتبادلة بين الطرفين. وبالتأكيد فإن تعليق التعاون بين أكبر دولتين منتجتين لغازات الاحتباس الحراري ينعكس سلبيًا على الجهود الدولية لمكافحة التغير المناخي. في حين ترفض الصين الاتهامات الأمريكية بأن تعليق التعاون يقوض الجهود الدولية لمكافحة التغير المناخي، وتقول أنها قدمت دعمها للمساعي المناخية للدول النامية في إطار آلية التعاون بين دول الجنوب.

وترتيبًا على ما سبق، فإن الخبراء يؤكدون أن مستقبل النظام الدولي سوف يتحدد بناء على  ما سوف يسفر عنه التنافس متعدد الأبعاد بين الولايات المتحدة والصين في المجالات الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية.

ثالثًا: حدود الإدراك الأمريكي ومساعي استعادة مكانتها الدولية

تدرك الإدارة الأمريكية أن الصين أخطر منافس للولايات المتحدة؛ نظرًا لسعيها نحو تغيير القواعد الليبرالية التي يقوم عليها النظام الدولي، بالإضافة إلى تنامي النفوذ الصيني المتزايد في العديد من الملفات، وقد انعكس ذلك الإدراك على السياسة الخارجية الأمريكية؛ حيث أكدت استراتيجية الأمن القومي الأمريكية التي نُشرت في أكتوبر 2022 على أن تركيز الإدارة الأمريكية على المدى الطويل سينصب على منافسة الصين.وفي ضوء الإدراك الأمريكي لتلك التطورات التي تعصف بتوازنات القوى داخل النظام الدولي، والساعية لإزاحة الانفراد الأمريكي بقيادة العالم، تسعى الولايات المتحدة الآن إلى استعادة هذا النظام الذي ترسخ بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، فضلًا عن  استعادة مكانتها الدولية التي تراجعت بشدة بسبب سياسات الرئيس السابق دونالد ترامب الأحادية القائمة على إعلاء المصالح الوطنية وفقًا لمبدأ "أمريكا أولاً".

وفي مواجهة بكين، تتبع الولايات المتحدة استراتيجية تسعى لمحاصرة الصين تجمع بين العقوبات الاقتصادية، وتعزيز قوتها العسكرية وقوتها الناعمة عن طريق دعم النموذج القيمي الأمريكي وجذب المجتمع الدولي إلى القيم الليبرالية الأمريكية مقابل القيم الصينية.

كما تعمل الولايات المتحدة على تعزيز التعاون مع الدول الشريكة في القيم وتوحيد الديمقراطيات في سبيل تحقيق الأمن الجماعي؛ حيث ترى الولايات المتحدة أنه من خلال الهيمنة الليبرالية الأمريكية يمكن للمجتمع الدولي أن يحقق السلام والاستقرار.

أضف إلى ما سبق تواصل الولايات المتحدة توجيه رسائل التحذير لحلفائها عندما ترى خطوطها الحمراء تتعرض للانتهاك نتيجة تقاربهم مع الصين. ففي أبريل عام 2022، تدخلت الولايات المتحدة لوقف صفقة كبيرة تشتري بموجبها المملكة العربية السعودية أسلحة صينية. وفي عام 2021 تدخلت الولايات المتحدة للتأثير على أبو ظبي لمنع الصين من استكمال العمل في موقع بحري قالت الولايات المتحدة إنه مخطط صيني لبناء قاعدة عسكرية.

رابعًا: القوى المتوسطة والإقليمية وسياسات التحوط الاستراتيجي

وضع التنافس الأمريكي- الصيني العديد من الدول في وضع «اختيار بين الجانبين»، ورفضًا لحالة الاستقطاب الدولي، هناك دول عديدة ترفض أن تختار ما بين عالم بقيادة أمريكية أوعالم بقيادة صينية أو أن تنحاز لطرف على حساب الآخر أو أن تعيش في عالمين بمجموعتين مختلفتين من القيم. فمثلاً حذر الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» في خطابه خلال قمة قادة المنتدى الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (أبيك)، في العاصمة التايلاندية بانكوك بتاريخ 18 نوفمبر 2022 من أن عدداً متزايداً من الدول توضع في موقف يتعين عليها الاختيار بين بكين وواشنطن، معتبراً أن ذلك «خطُأ فادحًا». وأضاف ماكرون "نحن لا نؤمن بالهيمنة والمواجهة. نؤمن بالاستقرار ونؤمن بالابتكار"، وشدد ماكرون على ضرورة بناء "نظام عالمي واحد"، كما شجع قادة العالم على تجنب تقسيم العالم بين الولايات المتحدة والصين.

وتبرز هنا أهمية القوى المتوسطة والإقليمية في النظام الدولي في رفض مناخ الاستقطاب والتوتر الذي ساد في الفترة الأخيرة نتيجة التنافس الأمريكي - الصيني. حيث بات المحللون يصفون النظام الدولي الحالي بعالم متعدد الأقطاب أو عالم بلا أقطاب نتيجة لصعود قوى دولية وإقليمية جديدة تلعب أدوارًا متزايدة في مجالي السياسة والاقتصاد العالميين، وكذلك نتيجة انتقال مركز الثقل السياسي والاقتصادي من الغرب إلى الشرق، ومن الدول المتقدمة إلى الدول الصاعدة. وفي هذا الشأن   يتحدث المتخصصون أيضًا عن دور دبلوماسية الدول المتوسطة في الدفع في اتجاه تقوية المؤسسات والأطر الدولية والقانون الدولي وآليات التعاون المتعددة الأطراف، خاصة مجموعة العشرين (G20) ، من أجل التخفيف من حدة التنافس الدولي الناجم عن الصعود الصيني.

ومن ثم تدفع حالة تراجع الهيمنة الأمريكية والاستقطاب الدولي، والجمود الاستراتيجي بين الولايات المتحدة، والصين القوى المتوسطة والإقليمية نحو انتهاج سياسات «التحوط الاستراتيجي» عن طريق تقليل الاعتماد على الولايات المتحدة أو التعاون مع القوى الصاعدة الأخرى أو التعاون مع بعضها البعض.  وأمثلة ذلك كثيرة منها تفكير الدول المصدرة للبترول في تحقيق الاستقلال الاستراتيجي عن طريق اتخاذ موقف مستقل من الحرب الأوكرانية، ورفض الانحياز لطرف ضد الطرف الآخر.

أضف إلى ما سبق، وفي إطار الرغبة في الحفاظ على الأطر التعاونية والمؤسسية الليبرالية من التفكير الصفري للتنافس الأمريكي الصيني، فقد قامت كل من فرنسا، وألمانيا في عام 2019 بإنشاء تحالف من أجل الأطر متعددة الأطراف، ويضم هذا التحالف غير الرسمي الدول التي تسعى إلى احترام القانون الدولي، وتقوية المنظمات، والأطر المتعددة الأطراف بغرض دعم الاستقرار والسلام العالمي. ويقوم هذا التحالف على مبدأ أن التعاون الدولي هو السبيل لمواجهة التحديات العالمية.

ويرى جيفري جاريت أنه يمكن الخروج من حالة الاستقطاب، والجمود الاستراتيجي التي أدت إلى عدم استقرار النظام الدولي، وعدم القدرة على التعامل مع الأزمات عن طريق إدماج العلاقات الأمريكية الصينية داخل الأطر متعددة الأطراف مثل مجموعة العشرين؛ حيث تلعب باقي دول المجموعة دورًا مهمًا في التخفيف من حدة التنافس، كما توفر مجموعة العشرين الإطار المناسب الذي يجعل الصين تلعب أدوارًا دولية متصاعدة في حل الأزمات الدولية دون أن تكون مصدر لتهديد الآخرين، خاصة الولايات المتحدة وحلفائها. وبالتالي فإنه يمكن القول إن التحولات الدولية الأخيرة أكدت على فعالية، واستقلالية الدول الصاعدة والمتوسطة في النظام الدولي، خاصة دول الجنوب التي ترفض مناخ الاستقطاب الدولي الحالي الذي يقف حائلًا أمام جهود بناء عالم مستدام وشامل. ومن أجل تجاوز مناخ الاستقطاب تقوم هذه الدول بمجموعة من الأدوار مثل بناء الجسور وتحقيق الاستقرار وتحديد الأجندة الدولية، وحماية القيم والمعايير الدولية عن طريق التشبيك والتعاون مع الدول ذات الفكر المشترك. وتقوم الدول المتوسطة بتحقيق هذه الأهداف مستغلة عدد من المقومات منها: الموقع الجغرافي، والموارد الطبيعية، وما تحظي به من قدرات تكنولوجية، وقيم ديمقراطية، فضلًا عن قدرتها على التشبيك مع دول تشبهها في القيم والأهداف.  ويساعدها في ذلك أيضًا انتشار القوة في إطار نظام ليبرالي عالمي يمكن الدول الصاعدة والمتوسطة والإقليمية -خاصة في الجنوب- من التأثير على أجندة القضايا في النظام الدولي خاصة في القضايا الكونية مثل تغير المناخ.

من مجمل ما سبق، يمكن القول إن نظام القطبية الأحادية قد انتهى، وهو غير قابل للعودة، وخاصة بسبب تغير السياق السياسي، والتكنولوجي، وعدم رضاء الدول عن غياب استقلالية الحركة، وعدم احترام خياراتها، بالإضافة إلى عدم الاستقرار المصاحب للتحديات العالمية الجديدة الذي فشل النظام الدولي في التعامل معها. ومن ثم فإن العالم بات في حاجة إلى نظام عالمي جديد لديه القدرة على التعامل مع المشكلات والأزمات غير التقليدية مثل الأوبئة وتغير المناخ. وفي ضوء ذلك فإن الدول سوف تلجأ إلى البحث عن بدائل من أجل الاستقرار وفقًا للقواعد والأطر الدولية في ظل بيئة استراتيجية متغيرة.  وهنا تأتي أهمية الدول المتوسطة والإقليمية التي تلعب دورًا مهمًا في إرساء أسس نظام عالمي جديد قائم على احترام القانون والأطر الدولية. فالنظام الدولي هو «من صنيعة الدول وتفاعلاتها» في ظل وجود سياق دولي مناسب ورغبة جماعية في تفعيل الأطر المؤسسية باستخدام الدبلوماسية الذكية من أجل إحداث التغيير الدولي المنشود. كذلك من الضروري أن يعمل النظام الجديد في ظل التحديدات المستجدة على تحقيق التوازن بين المفهوم التقليدي للأمن (الأمن الخشن)، والمفهوم الجديد للأمن (الناعم) القائم على الأمن الإنساني، وارتباطه بمفهوم الاستقرار مثل الأمن الصحي، ومكافحة الأوبئة، والأمن البيئي.