• اخر تحديث : 2024-04-26 02:51
news-details
قراءات

هل يتحول البلقان إلى ساحة جديدة للصراع بين روسيا والغرب؟


منذ اللحظات الأولى للعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، انطلقت أنظار أوروبا إلى منطقة البلقان، تحسباً لاندلاع حرب جديدة في المنطقة المضطربة بالفعل؛ فقد جرت العادة أن تمهد التوترات القائمة في البلقان الطريق أمام اندلاع حروب واسعة النطاق في القارة الأوروبية؛ وذلك على غرار الحرب العالمية الأولى.  وعلى الرغم من ذلك، هيمنت على المنطقة حالة من التوازن بين القوى المتنافسة، ولم تسارع موسكو إلى استغلال نفوذها لدى عدد من دول المنطقة – وعلى رأسها صربيا – لإشعال فتيل الحرب في البلقان، إلا أن حالة السلام الظاهري التي تتعايش معها المنطقة حالياً، يبدو أنها في طريقها للانتهاء، خاصة مع تصاعد حدة الأزمة السياسية بين صربيا وكوسوفو، وقبول طلب البوسنة للترشح لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي؛ الأمر الذي قد يمهد لتحول البلقان إلى ساحة جديدة من ساحات المنافسة الجيوسياسية بين موسكو وبروكسيل، وهو السيناريو الذي حاول الاتحاد الأوروبي جاهداً تجنبه منذ اللحظة الأولى للعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا.

مؤشرات التوتر

برزت على الساحة البلقانية مؤخراً عدد من التطورات قد تساهم في إشعال الحرب بين دول غرب البلقان. وقد تمثلت أبرز هذه التطورات في الآتي:

1- التصعيد الأمني والسياسي بين صربيا وكوسوفو: عادت العلاقة بين صربيا وكوسوفو إلى التوتر؛ وذلك في أعقاب إعلان الحكومة الصربية، يوم 26 ديسمبر 2022، وضع قواتها العسكرية القائمة على الحدود بين البلدين في حالة تأهب واستعداد للهجوم. وجاء هذا الإعلان الصربي على خلفية قيام حكومة كوسوفو بإلقاء القبض على ضابط سابق في الشرطة الكوسوفية من أصول صربية، واتهامه بالاعتداء على ضباط في الأمن الوطني، مع العلم بأنه قد بادر في وقت لاحق بتقديم استقالته من الخدمة في أوساط الشرطة الكوسوفية، بجانب 600 ضابط آخرين، للتعبير عن رفضه خطط الحكومة الكوسوفية الرامية إلى إلغاء العمل بلوحات السيارات الصربية داخل البلاد.

وقد أثار هذا الأمر حالة من الغضب في أوساط الأقلية الصربية المقيمة في كوسوفو، واعتبروا الخطوة بمنزلة جزء من الأعمال الانتقامية والقمعية التي تمارسها الحكومة الكوسوفية ضد مواطني الأقلية الصربية. وقد جاء رد الأقلية عنيفاً؛ حيث بادروا بتنظيم عدد من التظاهرات، مع قطع بعضهم الطرق الرئيسية الواصلة بين عدد من المدن في المناطق الشمالية من البلاد، ووضع حواجز عبر الحدود، لتشل الحركة في هذه المناطق بصورة شبه كاملة، كما تم وقف العمل بعدد من المدارس القائمة هناك. وحاولت الحكومة الكوسوفية الرد على هذه الأعمال التي وصفتها بالشغب، عبر زيادة أعداد الشرطة والقوات الدولية الموجودة على الخط الحدودي الواصل بين كوسوفو وصربيا منذ إعلان استقلال بريشتينا عن بلغراد في عام 2008، إلا أن مواطني الأقلية الصربية في كوسوفو قد بادروا بالهجوم على بعض الوحدات التابعة للقوات الدولية التي يقودها الناتو، وهو ما دفع الحكومة إلى التهديد بالتصعيد وإلقاء القبض على المخربين المتورطين في هذه الأعمال، لتعلن الحكومة الصربية عقب ذلك عن وضع قواتها العسكرية على الحدود مع كوسوفو في حالة تأهب واستعداد للهجوم، لترد كوسوفو على هذه الخطوة بإعلان إغلاق الحدود بصورة رسمية بينها وبين صربيا.

2- محاولة صربيا الزج باسم الناتو والولايات المتحدة في الأزمة: ساهمت تصريحات رئيس صربيا ألكسندر فوتشيتش في إشعال لهيب الأزمة بين بلغراد وبريشتينا، وقد حرص في التصريحات التي ألقاها عقب عقده اجتماعاً مع مجلس الأمن القومي، يوم 11 ديسمبر 2022، على تأكيد أن كوسوفو، بدعم من واشنطن، لم تحترم الاتفاقيات الدولية، في إشارة إلى الاتفاق الذي تم عقده بوساطة أمريكية في أعقاب انفصال بريشتينا عن بلغراد، والذي ينص على احترام حقوق الأقلية الصربية المقيمين في كنف كوسوفو.

كما اتهم جزءاً من المجتمع الدولي وقوات الناتو بـالمشاركة في مخطط سلطات كوسوفو لانتزاع عدد من الحقوق المدنية التي يتمتع بها مواطنو كوسوفو من أصول صربية، مؤكداً أن بلجراد تتعرض لمؤامرة وضغوط من أطراف دولية ترغب في استغلال نفوذها لدى بريشتينا لتحقيق مكاسب سياسية على حساب صربيا.

3- الانخراط الروسي في التوترات بين صربيا وكوسوفو: تداخلت موسكو في سياق الأزمة القائمة بين صربيا وكوسوفو؛ إذ ذكر المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، يوم 28 ديسمبر 2022، أن “روسيا تدعم ما تقوم به صربيا بهدف وضع حد للتوترات في كوسوفو”، وأضاف: “لدينا علاقات وثيقة جداً كحليفين: (علاقات) تاريخية وروحية مع صربيا”، وصرح بأن "من الطبيعي أن تدافع صربيا عن حقوق الصرب الذين يعيشون في الجوار وسط ظروف بالغة الصعوبة، وأن ترد بشكل حازم حين يتم انتهاك حقوقها".

4- ترقب رد فعل موسكو تجاه سياسات التقارب الأوروبي مع دول البلقان: يصف الكثير من المراقبين للعلاقات البلقانية الأوروبية قمة تيرانا، يوم 6 ديسمبر الفائت، بأكثر قمم الاتحاد الأوروبي نجاحاً مع دول غرب البلقان؛ فبجانب مشاركة جميع رؤساء وممثلي المستويات العليا من السلطة بهذه الدول في القمة، بما في ذلك صربيا؛ أسفرت القمة عن الإعلان عن تقديم الاتحاد الأوروبي حزمة مساعدات للمنطقة بقيمة مليار يورو، لمساعدة الأسر والشركات على تحمل ارتفاع تكاليف الطاقة، بالإضافة إلى دعم الاستثمار في البنى التحتية للطاقة المتجددة وتوليد الكهرباء.

كما سبق أن أطلق الاتحاد الأوروبي خطة اقتصادية واستثمارية للمنطقة بقيمة 30 مليار يورو، تهدف إلى تعزيز التحول الأخضر والرقمي، وتم الإعلان أيضاً عن اتفاق لبدء خفض تكاليف السفر عبر دول غرب البلقان والاتحاد الأوروبي بدءاً من العام المقبل، ومواصلة القيام بذلك تدريجياً حتى عام 2027، بالإضافة إلى الالتزام بدمج جامعات غرب البلقان في برنامج الشراكة الأوروبية للتعليم “Erasmus”.

أخيراً، كشفت بعض المصادر المطلعة أن بعض العوائق التي كانت تمنع نجاح دول المنطقة من الفوز بعضوية الاتحاد الأوروبي قد تم تذليلها، وهو ما ترجم على أرض الواقع في أعقاب الموافقة على ترشح البوسنة لعضوية الاتحاد الأوروبي. تمثل جميع هذه التطورات دليلاً حياً على رغبة الاتحاد الأوروبي في تعميق شراكته الاستراتيجية مع دول غرب البلقان، وهو الأمر الذي لا يرضي روسيا بالطبع، ويرجح البعض أن يأتي الرد الروسي على مثل هذه التطورات في صورة إشعال التوترات بين دول المنطقة.

طرح معاكس

على الرغم من تصاعد التوترات بين دول المنطقة بصورة مقلقة خلال شهر ديسمبر 2022، توجد العديد من المؤشرات الداعمة على أن الموقف الحالي ما هو إلا جزء من المناكفات المعتادة بين الغرماء التقليديين في هذه المنطقة، ولكن هذا لا يعني بأي حال من الأحوال اندلاع حرب جديدة في البلقان. وتوجد العديد من المؤشرات التي تدعم هذا الطرح:

1- إظهار كوسوفو وصربيا رغبة أولية في تهدئة الموقف: صحيح أن اللحظة الراهنة تكشف عن درجة هائلة من التصعيد والتوتر بين الطرفين، فإن بعض الإجراءات والتصريحات الصادرة عن الطرفين تعكس رغبة ما في تهدئة الموقف؛ فعلى سبيل المثال، بادرت الحكومة الكوسوفية بإطلاق صراح ضابط الشرطة الذي مثل اعتقاله الشرارة الأولى للتصعيد الأخير بينها وبين بلجراد، وقد رحبت صربيا بهذه الخطوة، كما صرح وزير الدفاع الصربي ميلوس فوسيفيتش، في تصريحات تلفزيونية يوم 28 ديسمبر 2022، بأن بلغراد “مستعدة للتوصل إلى اتفاق”، وأضاف أن بلغراد لديها “خط اتصال مفتوح” مع الدبلوماسيين الغربيين لحل القضية، وقال: “نشعر جميعاً بالقلق إزاء الوضع وإلى أين يتجه كل هذا… صربيا مستعدة للتوصل إلى اتفاق”، كما تم الإعلان يوم 29 ديسمبر 2022 عن إعادة فتح المعبر الرئيسي بين كوسوفو وصربيا.

2- عمل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على تحجيم الأزمة: على الرغم من مساندة واشنطن وبروكسيل بريشتينا في مطالبها للاستقلال عن بلغراد، واتخاذ موقف متعاطف معها خلال الأزمة الحالية، فإنهما رفضتا تصعيد التوترات الحالية فيما بين البلدين. وقد أصدرت وزارة الخارجية الأمريكية، بالتعاون مع مسؤولي الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بياناً مشتركاً في 28 ديسمبر الماضي، دعتا فيه القيادة السياسية في البلدين إلى تهدئة الموقف، والتوصل إلى حل يرضيهما.

كما أكدتا دعمهما إجراء تحقيق عادل في جميع الأحداث التي شهدتها كوسوفو مؤخراً، مع التشديد على ضرورة احترام مبادئ حقوق الإنسان، خاصة المعاملة العادلة والمتساوية لجميع المواطنين، أقلية كانوا أم أغلبية. وفي أعقاب الإعلان عن إطلاق صراح الضابط الكوسوفي من الأقلية الصربية، رحبت واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي بهذا الخبر، ودعتا إلى مزيد من التهدئة بين الطرفين.  ويسعى الاتحاد الأوروبي أيضاً إلى تهدئة الأوضاع في البلقان وتقليل النفوذ الروسي والصيني في هذه المنطقة التي تمثل عمقاً استراتيجياً هاماً، ومصدراً للطاقة، حتى إن كان ذلك يعني منح دول المنطقة عضوية في الاتحاد الأوروبي، عقب سنوات من الرفض والمماطلة.

3- تعامل روسي حذر مع التطورات في المنطقة: على الرغم من اتخاذ روسيا موقفاً مؤيداً لصربيا، وتأكيدها ضرورة احترام كوسوفو حقوق الأقليات الصربية، لم تبادر بتهديد ومطالبة كوسوفو بالخضوع لشروط صربيا كما جرت العادة في صراعات مشابهة. وعلى صعيد آخر، تدرك روسيا جيداً أن قادة دول البلقان المناصرين لها، لديهم رغبة في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي للاستفادة من المكاسب الاقتصادية التي سيوفرها لهم الاتحاد.

كما أن دعمهم السلطة السياسية في موسكو لا يمكن أن يأتي على حساب خسارتهم سلطتهم وقدرتهم على بسط النفوذ في الداخل. ويمكن أن تتآكل هذه السلطة في حالة الدخول في حروب مكلفة اقتصادياً وسياسياً، ناهيك عن الخسارة المدوية التي ستمنى بها على الصعيد الدولي، في حالة خسارة حلفائها في هذه الحروب، أو اضطرارهم إلى التخلي عن دعم موسكو للوصول إلى تسوية مع الدول الأخرى في المنطقة التي ستحظى بكل تأكيد بدعم ومساندة الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. ولعل إحجام موسكو عن إبداء أي رد فعل حاسم تجاه الإعلان عن قبول طلب ترشح البوسنة المبدئي لعضوية الاتحاد الأوروبي في شهر ديسمبر الماضي، يؤكد رفض القيادة في روسيا فتح جبهة جديدة للصراع مع الاتحاد الأوروبي في البلقان.

4- تأثير الأزمة الاقتصادية وحاجة دول البلقان إلى الدعم الأوروبي: أظهرت صربيا دعماً كبيراً لموسكو منذ اللحظات الأولى لعمليتها العسكرية في أوكرانيا، كما أنها قد رفضت فرض عقوبات على روسيا بفعل الحرب في أوكرانيا، على خلاف دول الاتحاد الأوروبي، إلا أنها في الوقت نفسه أدانت وبشدة جميع الاتهامات التي وصفتها بالدمية التي تحركها روسيا، وأظهرت نوعاً من الانفتاح على الاتحاد الأوروبي، بحضورها قمة تيرانا التي جمعت دول البلقان مع الاتحاد الأوروبي في ديسمبر الماضي.

وقد شاركت صربيا في أغلب المداولات التي تضمنت الحديث عن آليات انضمام دول البلقان إلى الاتحاد الأوروبي، والتعاون بين الاتحاد ودول المنطقة في مجال الطاقة، وصولاً إلى عدم اعتراضها بصورة أو بأخرى على البيان الختامي للقمة الذي أدان “الغزو الروسي لأوكرانيا”. وعلى الرغم من أن البيان قد حمل توقيع الدول الأوروبية فقط المشاركة في القمة، فإنه أكد التشاور مع دول البلقان للوصول إلى هذه الصياغة النهائية، وهو ما يؤكد مجدداً أن بلجراد قد حصلت على وعود يرجح أن تكون اقتصادية الطابع ومرتبطة بعضويتها في الاتحاد الأوروبي لتسهيل حصول الاتحاد الأوروبي على هذا الانتصار الرمزي على حساب روسيا.

وفي النهاية، يمكن القول إن الوضع في البلقان يتأرجح دائماً منذ القرنين التاسع عشر والعشرين بين التصعيد والتهدئة، إلا أن التخوف الحقيقي يكمن في إمكانية تعرض المنطقة لذات التطورات التي ساهمت بصورة أساسية في إشعال الحرب العالمية الأولى عام 1914، في أعقاب اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند، وما تبع ذلك من إعلان النمسا الحرب على صربيا.