• اخر تحديث : 2024-04-26 02:51
news-details
قراءات

كيف دفعت حرب أوكرانيا نحو مراجعة الأفكار الليبرالية في الغرب؟


لم تكن مراجعة المبادئ الليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي قرينة الحرب الأوكرانية فحسب، بل برزت النقاشات حول مدى جدواها، وهل هي النموذج المثالي والأوحد للقوى الدولية الرائدة، منذ بداية صعود روسيا والصين، كقوتين دوليتين لا يستهان بهما في أوائل الألفينيات؛ إذ حينها بدأ التشكيك في الليبرالية ومقدار صلاحيتها كنموذج عالمي؛ خاصة عندما تعرض الغرب لانهيارات اقتصادية في عامي 2008 و2010، وقد عزز ذلك الجدل صعود الشعبوية واليمين المتطرف، الذي حمل على عاتقه مسؤولية معاداة الليبرالية الغربية ومبادئها، حتى باتت الليبرالية هشة في نظر الكثيرين.

وقد أججت الحرب الأوكرانية، واستمرار روسيا في حربها رغم العقوبات، وما فرضته الحرب من أوضاع اقتصادية عالمية هشة، بما في ذلك الغرب الليبرالي، النقاشات مجددًا حول القيم الليبرالية؛ ما أحدث مراجعات في الأفكار الليبرالية بشقيها، وهو ما لم ينعكس على رؤى المحللين أو المناهضين للفكر الليبرالي فقط، بل على سياسات صانعي القرار الغربي إزاء الأزمات الاقتصادية التي أفرزتها الحرب الروسية.

مؤشرات التراجع

منذ انهيار حائط برلين في عام 1989، ساد العالم اعتقاد بأن الليبرالية قد انتصرت، وأن شتى صور الأنظمة السياسية الأخرى قد اندثرت، على اعتبار أن الفكر الليبرالي هو النموذج المثالي والأصلح للعالم، وهي الأفكار التي اتضحت بصورة رئيسية في مقال العالِم والفيلسوف السياسي الأمريكي فرانسيس فوكوياما تحت عنوان “نهاية التاريخ” في عام 1989، التي من شدة ما لاقت من ترحيب، طورها فوكوياما في عام 1992، إلى كتاب بعنوان “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”. وهو الكتاب الذي جادل خلاله بأن كافة الأيديولوجيات السياسية الأخرى، بما في ذلك الشيوعية والفاشية والقومية، في طريقها إلى الزوال.

غير أن الليبرالية الغربية واجهت العديد من التحديات في ظل المجريات السياسية والاقتصادية العالمية المختلفة، التي دفعت لإثارة الجدل حول مدى قدرة النموذج الليبرالي الغربي على تحمل تلك الأزمات والتمسك بمبادئه وأفكاره. وفيما يأتي يمكن إلقاء النظرة على مؤشرات تراجع الثقة بالأفكار الليبرالية داخل الغرب ذاته، التي يتمثل أهمها فيما يلي:

1- منح الاعتبارات الأمنية الأولوية على مصالح السوق: منذ مطلع التسعينيات، حاول الغرب الحفاظ على مبدأ التعاون الدولي، واحتواء القوى الدولية الصاعدة، وعلى رأسها روسيا والصين، والسعي نحو تحقيق التكامل الاقتصادي عالمياً، بما يضمن بيئة دولية خالية نسبياً من التوترات الجيوسياسية، التي من شأنها أن تؤثر على تدفق رأس المال، فتنال من استقرار النظام الاقتصادي العالمي.

غير أن مبادئ الليبرالية وضعت في اختبار حقيقي حين اصطدمت بأحداث سياسية فارقة. بدا ذلك عندما منح الغرب الأولوية للاعتبارات الأمنية، على مصالح السوق، حين تدخلت روسيا في شبه جزيرة القرم في عام 2014؛ حين اتجه الغرب إلى عزل روسيا اقتصادياً، ومن ثم، تعريض المصالح الاقتصادية المرتبطة بروسيا للخطر، خاصة في ظل اعتماد أوروبا بشكل كبير على الطاقة الروسية، وهو الاختبار الذي تسببت فيه الحرب الروسية على أوكرانيا في فبراير 2022.

فبعد أيام قليلة من التدخل الروسي، خرج مئات الآلاف من الأوروبيين إلى الشوارع للاحتجاج على العمل العسكري الروسي على الأراضي الأوكرانية، ووجد السكان الألمان أنفسهم يدعمون إجراءات صارمة ضد روسيا، على الرغم من إدراكهم الكامل ما في ذلك من تأثير اقتصادي سلبي على أوطانهم. وهو ما أثبت أولوية قضايا الأمن القومي على المصالح الاقتصادية.

2- صعود قيم مناهضة للقيم الليبرالية: مثَّل الصعود الملحوظ للصين منذ مطلع الألفينيات، تحدياً رئيسياً للنظام الليبرالي الذي يرى نفسه النموذج المثالي للنظام الدولي. وقد ساعد في ذلك ظهور استراتيجية بكين المرنة اقتصادياً، في التوقيت الذي لاقى فيه الغرب انهيارات اقتصادية عديدة مثل انهيار النظام المصرفي والأزمة المالية العالمية في عام 2008، وأزمة منطقة اليورو في عام 2010.

حينها اضطر الغرب إلى الاستعانة بمصادر خارجية لسلاسل التوريد، وكانت الصين على رأسها، وقد استغلت الصين في وقتها تلك الأحداث، في توسيع نفوذها الاقتصادي، عبر زيادة نشاط المؤسسات والشركات الصينية، في شراء أسهم مؤسسات اقتصادية عملاقة في روسيا وإيران والبرازيل، وفنزويلا، وأستراليا، وفرنسا.

حينها نشب صراع فكري في الغرب بين القيم والمصالح؛ فالصين رغم أهميتها في تحقيق التكامل الاقتصادي المنشود، جاءت محملة بالعديد من القيم والأفكار المناهضة للأفكار الليبرالية الغربية. وهي الأفكار التي تتعلق بتخلي الصين عن اتفاقية القانون الأساسي بعد عام 1997 مع بريطانيا بشأن وضع وحريات هونج كونج، وما يتعلق أيضاً بمطالبات الصين المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، وكذلك المتعلقة بمعاملة أقلية الإيجور.

3- ارتفاع حدة خطاب النقد الذاتي للنظام الدولي الليبرالي في الغرب: تجلى التحول في النموذج الغربي في صعود نبرة خطاب النقد الذاتي، حول نقاط القوة والضعف النسبي للنظام الدولي الليبرالي؛ فبينما ركزت الأرثوذكسية الجديدة، في نقاشاتها على الضعف النظري للنظام الليبرالي، على أساس أن الحلم بفرض معايير وقيم غربية عالمية على العالم بأسره، أمر محكوم عليه بالفشل، فإن الشعبوية المناهضة لليبرالية ومبادئها قد تزايد حضورها في جميع أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية خلال السنوات القليلة الماضية. بدا ذلك في الدعم المضاعف الذي حظيت به الجبهة الوطنية الفرنسية في فرنسا، وصعود حركة الخمس نجوم المناهضة للمؤسسات في إيطاليا، وكذلك مكاسب القوى اليمينية في الانتخابات التشريعية بالسويد في سبتمبر 2022، ودخول حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف إلى البرلمان الألماني “البوندستاج”، فضلاً عن تحركات الأحزاب التقليدية ذات الميول اليمينية تجاه سياسات اليمين المتطرف من أجل ضمان الانتصار في الانتخابات البرلمانية النمساوية في مارس 2017 وأكتوبر 2017.

وهو الأمر الذي بدا في صورة تهديد لاستقرار الديمقراطية الليبرالية المترسخة منذ التسعينيات التي لا تزال توجه السياسيين وصانعي السياسات من يسار الوسط ويمين الوسط في الغرب؛ حيث يسعى الشعبويون إلى التشكيك في جدوى الليبرالية، والزعم بأن السياسات الليبرالية تضعف الديمقراطية، وتضر الشعوب، وأنه من الواجب تنحية المؤسسات الليبرالية، التي تمنع الناس من التصرف بشكل ديمقراطي لمصلحتهم الخاصة.

4- تراجع الثقة بجدوى الديموقراطية: أظهر استطلاع للرأي صادر عن مركز بيو للأبحاث، في عام 2021، أن نسبة كبيرة من المواطنين في 17 اقتصاداً متقدماً شملهم الاستطلاع، بما في ذلك إيطاليا وإسبانيا والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليونان، وفرنسا وبلجيكا واليابان، غير راضين عن الطريقة التي تعمل بها ديمقراطيتهم، بل يرون أن نظامهم السياسي بحاجة إلى تغييرات كبيرة أو إصلاحات شاملة.

فيما كشفت العديد من استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة، تراجع الاهتمام بالشؤون الدولية بين الأمريكيين، وتراجع الإيمان بقدرة الديمقراطية على حل الأزمات الدولية، ورأب صدع الانقسامات السياسية التي بلغت مداها، بما يعوق أي فرص لتحقيق السلم والاستقرار بواسطة الحل الليبرالي الديمقراطي.

تداعيات الحرب

أثبتت الحرب الأوكرانية عزم موسكو على تغيير شكل النظام العالمي الحالي، وفي المقابل، بات القادة في أوروبا والمسؤولون الأمريكيون الحاليون والسابقون ينظرون إلى أوكرانيا على أنها اختبار لبقاء فكرة عمرها 75 عاماً، مفادها أن الديمقراطية الليبرالية والقوة العسكرية الأمريكية والتجارة الحرة يمكن أن تهيئ الظروف المناسبة للسلام والازدهار العالمي. وفيما يأتي يمكن تناول دور الحرب الأوكرانية في مراجعة الأفكار الليبرالية في الغرب:

1- تبني إجراءات تأميم اقتصادي في أوروبا: لعل السياسات الاقتصادية التي تم تبنيها في الغرب للتعامل مع الأزمات الاقتصادية الناجمة عن الحرب، وعلى رأسها أزمة الطاقة الأوروبية، أظهرت مدى الاستعداد الغربي للتخلي عن بعض مبادئ الليبرالية، مقابل الحفاظ على بعض الاستقرار الاقتصادي ومن ثم الاستقرار السياسي لحكوماتها.

ففي ذلك الإطار، اتجهت الحكومة الألمانية، في 14 نوفمبر الماضي، إلى خيار تأميم شركة تابعة لشركة غازبروم الروسية المملوكة للدولة. وفي المقابل، أسست الحكومة الألمانية شركة قابضة للقيام بزيادة رأس المال؛ حيث تجلب الشركة تدريجياً رأس مال جديداً يبلغ 225.6 مليون يورو (233 مليون دولار)، وقد بررت الحكومة ذلك بأن الشركة كانت على وشك الإفلاس، فأرادت الحكومة أن تتدخل بالتأميم لإنقاذ الوضع. وقد أعلنت فرنسا هي الأخرى، في شهر أكتوبر الماضي، البدء في تأميم شركة الكهرباء، وتم تبرير القرار بتصاعد ديون الشركة التي وصلت إلى نحو 60 مليار يورو.

2- انتهاج خطط تستهدف زيادة تدخل الدولة: حاولت الدول الأوروبية، على خلفية أزمة الطاقة بها، تنفيذ خطط دعم السيولة الحكومية، من أجل زيادة الاستقرار في أسعار الطاقة. وفي إطار ذلك، خصصت ألمانيا ميزانية قدرها 68 مليار يورو متاحة لقطاع المرافق وحده، الذي يحتاج إلى سيولة إضافية لتلبية متطلباته من الطاقة، فيما أعلنت المملكة المتحدة عن استعدادها لتخصيص 46 مليار يورو، والسويد 23 مليار يورو، فيما قامت كل من فنلندا وفرنسا بتقييم احتياجات السيولة للقطاع بنحو 10 مليارات يورو.

وفي سياق منفصل، اتفق الوزراء الأوروبيون في يوم 19 ديسمبر 2022، على تحديد حد أقصى لسعر الغاز، إذا تجاوزت الأسعار 180 يورو/ميجاواط ساعة لمدة ثلاثة أيام. وقد جاء ذلك القرار بعد أسابيع من المحادثات بشأن ذلك الإجراء الطارئ الذي أحدث انقساماً في الآراء بين دول الاتحاد الأوروبي، في الوقت الذي تستمر فيه المحاولات الأوروبية في ترويض أزمة الطاقة، بعد إيقاف روسيا معظم شحنات الغاز إلى أوروبا. وهي جميعها تحركات رسمية تثبت تراجع قدرة المبادئ الليبرالية على حل الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية؛ إذ إن جميعها جاء ليصب في صالح تدخل الدول في حالات اختلالات الأسواق.

3- مطالب بفرض ضرائب على الأغنياء: لطالما أظهرت استطلاعات الرأي تفضيل الأمريكيين فرض ضريبة الثروة على الفاحش ثراؤهم، وفي مارس 2022، اعتزم الرئيس الأمريكي جو بايدن اقتراح زيادة ضريبية على الفئات الأكثر ثراء في أمريكا، وهو ما استهدف من خلاله زيادة معدل الضريبة الهامشية، وزيادة الضرائب على أرباح المستثمرين الأغنياء. وحينها، تم الإشارة إلى أن العائد من زيادة الضريبة سيقدم لصالح دعم قطاع رعاية الأطفال والتعليم، وليس للرعاية الصحية.

وفي سبتمبر عام 2022، أجبرت الظروف الاقتصادية المعقدة وارتفاع مستوى التضخم في إسبانيا، الحكومة الإسبانية على فرض ضريبة مؤقتة على الأغنياء في إطار رغبتها الملحة في تخفيف عبء التضخم المرتفع على قطاعات واسعة من الشعب الإسباني.

4- تنامي الجدل حول مدى قدرة الليبرالية على إنقاذ أوكرانيا من الحرب: رغم الدعم الكبير الذي أبداه الغرب لأوكرانيا في بداية الغزو الروسي، والجهود الجماعية التي استهدف من خلالها الغرب عزل روسيا اقتصادياً، لثنيها عن الاستمرار في حربها ضد أوكرانيا، فإن الحرب الروسية لا تزال مستمرة وتقترب من شهرها الحادي عشر، دون تحركات حاسمة لإنهاء التدخل الروسي في أوكرانيا.

ليثير ذلك الجدل حول عدم قدرة الليبرالية على تحقيق السلام في أوكرانيا، وعدم كفاءة الحلول الجماعية والقرارات الاقتصادية الرامية إلى حصار روسيا، خاصة أن الأخيرة نجحت في خلق البدائل لنفسها، بغية تقليل الضغط الاقتصادي الناجم عن العقوبات الغربية، عبر تحقيق الاعتماد المتبادل مع قوى دولية صاعدة، وعلى رأسها الصين. وفي المقابل، كان الغرب المتضرر الأكبر من معاداة روسيا، نظراً لاعتماد أوروبا بدرجة كبيرة على الغاز الروسي؛ ما تسبب حرمانها منه في تفاقم أزمة الطاقة بها.

مأزق الليبرالية

إجمالاً، أظهرت الحرب الروسية نقاط ضعف الليبرالية الغربية، وجددت الجدل حول مدى جدوى مبادئها في أوقات الأزمات الجيوسياسية؛ إذ أثبتت الحرب في أوكرانيا مقدار القوة التي تتمتع بها القوى الدولية الصاعدة، وعلى رأسها، الصين وروسيا، ومدى المرونة التي تتفاعلان بها، والتي جعلت روسيا تتماسك اقتصادياً، رغم العقوبات الغربية المفروضة ضدها، كما أظهرت الحرب كم التناقض في الأفكار الليبرالية الغربية؛ فبينما أبدى الغرب في بداية الحرب أولوية للاعتبارات الأمنية على المصالح الاقتصادية، من خلال فرضها عقوبات ضد روسيا التي ترتبط معها بمصالح اقتصادية، وعلى رأسها كون روسيا مصدراً رئيسياً للطاقة إلى أوروبا، إلا أن الغرب مع طول أمد الحرب، هدأ حدة التدابير القصوى الموجهة ضد روسيا، ولم يتم التصعيد مع روسيا رغم طول أمد الحرب.

وفي السياق ذاته، ساهمت الحرب في التنازل الجزئي عن بعض مبادئ الليبرالية الغربية، وانتهاج سياسات قريبة من الأفكار الاشتراكية، وهي الأفكار التي تتمثل في تدخل الدولة في أوقات الاضطرابات الاقتصادية والتدخل لضبط الأسعار، أضف إلى ذلك، ظهور اتجاهات مؤيدة لزيادة الضريبة المفروضة على الأغنياء والفاحش ثراؤهم، فضلاً عن التوسع في برامج دعم وإغاثة الأسر المتضررة من الظروف الاقتصادية المتردية، ونشاط خطط دعم السيولة الحكومية لدعم قطاعات بعينها، تضررت بدرجة كبيرة من جراء ارتفاع أسعار الطاقة والتضخم المتفشي وتداعياته الاقتصادية عامةً.

وهي جميعها توجهات تفرض تساؤلاً رئيسياً: هل نحن بصدد تغيير في شكل النظام الدولي؟ وهل تتراجع الليبرالية الغربية لصالح أيديولوجيات القوى الدولية الصاعدة الممثلة في الصين وروسيا؟