• اخر تحديث : 2024-04-19 15:15
news-details
قراءات

أبعاد الاستراتيجية النووية لكوريا الشمالية لعام 2023


شهدت الأيام الأولى من عام 2023 تزايد حدة السباق النووي بين الدول الكبرى؛ وذلك استكمالاً لعام 2022 الذي شهد تصاعد التوترات العسكرية، خاصةً في شبه الجزيرة الكورية بشكل حاد؛ حيث ظل التوتر مرتفعاً طوال هذا العام وسط اختبارات الأسلحة المستمرة لكوريا الشمالية بمعدل شهري تقريباً، بما في ذلك إطلاق صاروخ باليستي عابر للقارات، وهو الصاروخ الأكثر تقدماً على الإطلاق. واندلع التوتر مرة أخرى بعد أن عبرت خمس طائرات بدون طيار كورية شمالية، الحدود إلى كوريا الجنوبية، وهو ما حدا الأخيرة إلى التدافع على الطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر الهجومية ومحاولة إسقاطها.

وفي هذا السياق، كشف الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج أون، يوم 1 يناير الجاري، عن أهداف جديدة للجيش في البلاد لعام 2023، ملمحاً إلى عام آخر من اختبارات الأسلحة المكثفة ومن التوتر؛ حيث تعهد “كيم” بزيادة “هائلة” في ترسانة كوريا الشمالية النووية، بما في ذلك الإنتاج الضخم لأسلحة نووية تكتيكية، وتطوير صواريخ جديدة لضربات نووية مضادة. ومن جانبها، أوصت وكالة الأنباء المركزية الرسمية، في تقرير صدر في نهاية اجتماع رئيسي للحزب في بيونج يانج، بأنه يتعين على البلاد “تعزيز القوة العسكرية بأغلبية ساحقة” في عام 2023 رداً على ما وصفته بالعداء الأمريكي والكوري الجنوبي.

دوافع مُقلقة

في نهاية 2022، يمكن القول بأن تهديد الترسانة النووية لكوريا الشمالية، دخل مرحلة جديدة مثيرة للقلق؛ فبحلول منتصف نوفمبر الماضي فقط، يكون النظام الكوري الشمالي قد أطلق 63 صاروخاً باليستياً؛ أي أكثر من ضعف سجله السنوي السابق، كما تضمنت اختبارات العام إطلاقاً قياسياً لثمانية صواريخ باليستية عابرة للقارات (ICBM). ومع ذلك، فإن التطور الأكثر إثارةً للقلق في عام 2022، لا يتعلق بما يمكن أن تستخدمه كوريا الشمالية لإطلاق رأس حربي نووي، بل يتعلق بتوقيت وسبب التخطيط للقيام بذلك.

ففي الأشهر الأخيرة، صاغ قادة كوريا الشمالية استراتيجية جديدة لتوسيع ترسانتها النووية التكتيكية، على عكس صواريخها الاستراتيجية العابرة للقارات، التي ربما تكون الملاذ الأخير لمنع تغيير النظام؛ حيث ذكرت عائلة “كيم” أن أسلحتها التكتيكية يمكن استخدامها في بداية الصراع للقتال والفوز في حرب محدودة بشبه الجزيرة الكورية. ومن هنا برزت التساؤلات حول دوافع إصدار هذه الاستراتيجية، وهي الدوافع التي يتمثل أبرزها فيما يلي:

1.  حروب الاستراتيجيات والاستراتيجيات المضادة في المنطقة: هنا تجدر الإشارة إلى أن كوريا الشمالية لم تكن الوحيدة التي اتجهت لإصدار مثل هذه الاستراتيجية، بل إنها جاءت ضمن توجه عدد من الدول بالمنطقة لإصدار استراتيجيات نووية ودفاعية، مثل الاستراتيجية اليابانية الجديدة، بالإضافة إلى التعاون الاستخباري الجديد بين اليابان وكوريا الجنوبية بدعم أمريكي لمراقبة الصواريخ الباليستية لبيونج يانج.

إذ نشرت قيادة القوات الجوية الأمريكية، في أواخر أكتوبر الماضي، سرباً من طائرات “إم كيو–9 ريبر” المسيرة في جنوب جزيرة كيوشو اليابانية، لمهمات الاستطلاع، وستكون قادرة على جمع معلومات حول نشاط الصين وكوريا الشمالية في المنطقة؛ وذلك من أجل تعزيز النشاط الاستخباراتي الأمريكي–الياباني المشترك. وتتمركز هذه الطائرات في قاعدة “كانويا” الجوية التابعة لقوات الدفاع اليابانية. ويمكن لهذه الطائرات أن تنفذ غارات جوية، لكنها لن تكون مجهزة بالأسلحة.

2. التهديدات الأمريكية–الكورية الجنوبية: في الاجتماع الاستشاري الأمني رقم 54 في 3 نوفمبر الماضي، وافق وزير الدفاع الكوري الجنوبي “لي جونج سوب” ووزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” على زيادة تعزيز قدرات كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، في تحالف يشمل "تبادل المعلومات، وعملية التشاور، بالإضافة إلى التخطيط والتنفيذ المشتركين، لردع التهديدات النووية والصاروخية المقدمة من كوريا الشمالية والرد عليها".

كذلك وسط طموح كوريا الشمالية لتوسيع ترسانتها النووية، صرَّح الجيش الكوري الجنوبي بوضوح بأن نظام “كيم” لن ينجو إذا استخدمت بيونج يانج الأسلحة النووية بشكل استباقي ضد الجنوب. وأظهرت الولايات المتحدة أيضاً موقفاً حازماً بشأن الاستخدام الاستباقي المحتمل لكوريا الشمالية للأسلحة النووية من خلال استراتيجية الدفاع الوطني 2022 الصادرة في أكتوبر.

لذلك استخدم “كيم” التحذيرات الدولية له للترويج لحاجة بلاده الضرورية إلى استراتيجية نووية ودفاعية، مؤكداً أن نسخة 2023 من الاستراتيجية ستركز على الإنتاج الضخم للأسلحة النووية التكتيكية وليس ذلك فقط، بل أيضاً على تطوير نظام آخر للصواريخ الباليستية العابرة للقارات (ICBM) مهمته الرئيسية هي تنفيذ ضربة نووية مضادة سريعة، زاعماً أن ذلك للرد على جهود واشنطن وسيول لـ”عزل وخنق” بلاده.

3. تذبذب العلاقات بين الصين وكوريا الشمالية: على الرغم من كونهم حلفاء من الناحية الظاهرية، فإن العلاقات بين الجارتين تدهورت مع تسريع كوريا الشمالية تطويرها النووي والصواريخ الباليستية في عهد “كيم جونج أون”؛ فعلى مدار العام الماضي، عمد “كيم” إلى توقيت اختباراته النووية والصاروخية الباليستية لتتزامن مع الأحداث الصينية الرفيعة المستوى، مثل قمة بريكس في شيامن، ومنتدى الحزام والطريق في بكين.

ومع ذلك، تعتمد كوريا الشمالية اقتصادياً على الصين التي تمثل حالياً أكثر من 90% من إجمالي حجم تجارتها، ومعظم واردات الغذاء والطاقة؛ لذلك على الرغم من أن بكين شددت العقوبات على كوريا الشمالية، فإن الصين تظل شريان حياة اقتصادياً، وقاومت ممارسة ضغوط تهدد النظام على بيونج يانج.

4. الاستفادة من انعكاسات الحرب الأوكرانية: يعكس توقيت الإعلان عن توجهات الاستراتيجية النووية الجديدة لكوريا الشمالية، محاولات الزعيم الكوري الشمالي “كيم جونج أون” للاستفادة من السياق الدولي الراهن وانعكاسات الحرب الأوكرانية؛ إذ يبدو أن الحرب تُفضِي إلى بعض التحولات في النظام الدولي، وهي التحولات التي تطمح كوريا الشمالية إلى استغلالها وتأكيد استمرار سياساتها، وعدم إمكانية تقديم أي تنازلات، مع إثبات استمرار مواقفها وطمأنة حلفائها في الوقت ذاته، وخصوصاً روسيا في اللحظة الراهنة، بأنه ستظل داعماً لهم في مواجهة الغرب.

تداعيات متوقعة

لا شك أن توجه كوريا الشمالية لإصدار استراتيجية نووية ودفاعية يشير إلى تحول تكتيكي للضغط بشكل غير مباشر على الولايات المتحدة من خلال الضغط على كوريا الجنوبية وتصعيد التوترات في شبه الجزيرة الكورية، وهو الأمر الذي يثير قلق العديد من الخبراء في هذا الشأن نظراً لتداعياته الحيوية التي يمكن تناول أبرزها فيما يلي:

1. تصاعد منحى الصراع بين الكوريتين: دعا الرئيس الكوري الجنوبي “يون سوك–يول”، يوم 4 يناير الجاري، إلى إنتاج واسع النطاق لمسيَّرات صغيرة الحجم يصعب رصدها بحلول نهاية العام الحالي، وتأسيس وحدة للمسيَّرات المتعددة الاستخدامات من أجل إمكانيات هائلة لشن هجمات مضادة.

كما هدد “يون” أنه في حال انتهاك بيونج يانج أراضي بلاده، سيُعلِّق العمل باتفاق أبرم عام 2018 أقيمت بموجبه مناطق بحرية عازلة مع الشطر الشمالي واستهدف خفض التوتر العسكري على طول الحدود عالية التحصين. واتفق الطرفان حينذاك على وقف المناورات العسكرية المختلفة التي يستهدف كل طرف من خلالها الطرف الآخَر على طول خط ترسيم الحدود العسكرية، لكن بيونج يانج بدأت تخرق الاتفاق بشكل متكرر منذ العام الماضي؛ إذ أثارت الانتهاكات دعوات متزايدة من نواب الحزب الحاكم لإدارة “يون” من أجل إلغاء الاتفاق الذي أُبرم قبل أربع سنوات في عهد الرئيس “مون جاي–إن” آنذاك.

وتصاعدت حدة التوترات بين الطرفين مع إعلان جيش كوريا الجنوبية، يوم 5 يناير الجاري، أن طائرة مسيرة كورية شمالية اخترقت منطقة حظر الطيران حول المكتب الرئاسي، في 26 ديسمبر الماضي. ووصفت سيول التوغل بأنه “انتهاك” لأراضيها، كما هدَّد الرئيس الكوري الجنوبي بفسخ اتفاق عسكري بين الكوريتين تم التوصل إليه في عام 2018 في حال حدوث “استفزازات جديدة” من بيونج يانج.

2. تعميق التعاون بين واشنطن وسيول: جددت الولايات المتحدة تأكيد التزامها الأمني تجاه كوريا الجنوبية وسط التهديدات والاستفزازات المتزايدة من قبل كوريا الشمالية. ومن جانبه، أعرب المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس، عن أسفه لقيام كوريا الشمالية بارتكاب استفزازات بدلاً من الحوار والدبلوماسية، واصفاً استفزازات كوريا الشمالية بـ”غير المناسبة وغير الحكيمة”، كما أكد برايس استعداد بلاده للدخول في حوار بنَّاء من أجل تحقيق هدف نزع السلاح النووي بالكامل من شبه الجزيرة الكورية، موضحاً رفض كوريا الشمالية الحوار مراراً وتكراراً. ومع ذلك فإنه نظراً إلى أن كوريا الجنوبية دولة غير حائزة للأسلحة النووية، فإن تجسيد الردع الأمريكي الممتد من خلال التنسيق الوثيق بين البلدين أمر حيوي.

ومن ثم، فإنه بالنسبة إلى الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، فإن التدريبات لا تعمل على تعزيز الاستعداد وردع السلوك العدواني لكوريا الشمالية فحسب، بل إنها أيضاً وسيلة لطمأنة كوريا الجنوبية بالتزام الولايات المتحدة بالدفاع عنها. ومن الواضح أن الردع المحدد بالمعيار الضيق لمنع كوريا الشمالية من مهاجمة الجنوب يعمل بشكل واضح، لكن التحالف غير قادر على ردع كوريا الشمالية عن القيام باستفزازات دون عتبة الصراع الفعلي.

لذلك من الآن فصاعداً، تهدف “الاستفزازات” الكورية الشمالية إلى التحريض على الانفصال بين واشنطن وسيول، وإثارة الشكوك حول الردع الأمريكي الموسع؛ ما يُظهر أن تقويض الضمانات هدف استراتيجي مهم لكوريا الشمالية، كما أن تلبية الطلب المتزايد على الضمانات بوسائل ردع نووية أكثر وضوحاً لن يؤدي فقط إلى تهدئة مخاوف حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بشأن التحديات النووية غير المقيدة لكوريا الشمالية، بل سيثبت أيضاً لبيونج يانج أن استفزازاتها الباهظة الثمن عديمة الجدوى في النهاية، وربما يؤدي إلى إعادة تقييم القيمة الاستراتيجية التي يوليها النظام للأسلحة النووية.

3. احتمالية تكرار السيناريو الأوكراني: ذكر العديد من الخبراء أنه إذا استمر الوضع على ما هو عليه من حيث إدارة العلاقات بين الكوريتين وفق نظرية المباراة الصفرية، فإن السيناريو الأوكراني ليس بالبعيد؛ حيث إن البيان الأخير لكوريا الشمالية يشير إلى استعدادها لاحتمال اندلاع حرب فعلية تتجاوز انهيار العلاقات بين الكوريتين؛ وذلك من خلال تكثيف التعاون العسكري بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية؛ ما سيؤدي إلى وصول التوترات بين الكوريتين إلى مستويات غير مسبوقة في عام 2023.

4. تعقيد خيارات الصين: لا يمكن إغفال أن التصعيد المستمر من جانب كوريا الشمالية يُضفِي المزيد من التعقيدات على الخيارات الصينية. صحيح أن بكين تربطها علاقات جيدة ببيونج يانج، بيد أن الصين لا تنظر بعين الارتياح إلى استمرار التجارب النووية لكوريا الشمالية؛ لأنها قد تؤدي إلى تفجر الأوضاع في المنطقة، وهو أمر قد لا يكون في صالح بكين في اللحظة الراهنة، وخصوصاً مع التداعيات الاقتصادية السلبية الناجمة عن فيروس كورونا التي لا تزال قائمة، وتترك آثاراً عميقةً على بكين وتؤدي إلى تفاقم الأزمات الداخلية في الدولة.

وإجمالاً لما سبق، فإنه على الرغم من تعهد الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان بعقوبات صارمة ومنسقة إذا اختبر كيم سلاحاً نووياً، لكنه بعد سنوات من العقوبات والعزلة فشلت في إقناع “كيم” بتغيير مساره، من ثم لا توجد الآن فرصة تقريباً لروسيا أو الصين اللتين تتمتعان بحق النقض في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لدعم أي إجراءات جديدة ضد كوريا الشمالية كما فعلتا في عام 2017 خلال سلسلة من الاختبارات التي أثارت قلقاً عالمياً.