• اخر تحديث : 2024-04-19 15:15
news-details
دراسات

الحياة الدينية، وحالاتها المتغيرة في مصر والمنطقة العربية، تلعب أدوارا مهمة في مسارات تطور الوعي الاجتماعي والسياسي، وتؤثر على إمكانات التطور في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية التي تُعد جزءًا مهمًا منها. وفى عديد الأحيان والمراحل التاريخية، تساهم الحياة الدينية أيضا في تديين بعض من القوانين والقيم، والأعراف، والتقاليد الموروثة والمتغيرة، ومن ثم التأثير في العلاقات الاجتماعية، بل وتديين لغة الحياة اليومية في الريف، والمدن، خاصة في ظل ظواهر ترييف المدن وثقافتها، كنتاج للهجرات من الأرياف إلى المدن الحديثة، التي تغيرت ثقافتها، وبعض أنماط السلوك الاجتماعي داخلها. الحياة الدينية، هي جزء بالغ الأهمية من الحياة الاجتماعية، ويمكن لنا أن نُعَرِفها بأنها الجزء المخصص من حياة "الفرد" للتفكير في مفاهيم الأُلوهية، والنبوة، وصحبهم، والقديسين وأولياء الله الصالحين، وكبار المتصوفة وجماعتهم وتابعيهم، والقديسين في المسيحية، وكبار الفقهاء والمفسرين، وكاتبي السير، وسردياتهم التاريخية في الإسلام ومذاهبه المختلفة (السنة والشيعة والاباضية) الأمر يمس كافة الأديان ومذاهبها في الجغرافيا الدينية في المنطقة العربية، والاسلامية. الحياة الدينية الفردية والجماعية، تشمل غالب المؤمنين آيا كانت أديانهم، ومستوياتهم الاجتماعية والتعليمية. هي أيضا العمليات الذهنية والروحية للمؤمن حول العقائد، والطقوس، والتقاليد، والعادات والأعراف، والبحث عن المعنى فى الحياة، والوجود، والموت، والعدم، عبر النظام الديني، وموروثاته، وتأويلاته السائدة في مرحلة تاريخية واجتماعية وسياسية ما. هي كذلك الإجابات السائدة عن أسئلة الفرد، والجماعة، والمجتمع في كل مرحلة من مراحل تطوره، تستلهم الدين، ونصوصه المقدسة، وسردياته التاريخية، خاصة من خلال أنماط التدين الوضعي الشعبي السائد، ومحمولاته من الثقافة الدينية، وبما تنطوي عليه من نزعات، وتصورات قدرية، أو جبرية، وفى العلاقة بين الوضعي، والتصورات والإدراكات القدرية، أو الجبرية، وفى العلاقة بين الوضعي، والميتاوضعي، والمرويات الدينية الشعبية، والمتداخلة مع سرديات التصوف، وشخصيات أولياء الله الصالحين، وبعض أعمالهم الخارقة، وأدوارهم الخيرية.. إلخ. الحياة الدينية تتشكل من سرود رجال الدين، وخطاباتهم الدعوية، والتبشيرية، وعلاقاتهم بالسلطة آيا كانت، أو خلافات بعضهم معها، وتداخل ذلك مع انساق القيم السائدة فى المدن والحواضر والبوادى والصحراء.. إلخ!

أولا: جدل التغيرات والثوابت الدينية... بين الوضعي والمقدس

الحياة الدينية متغيرة –رغم بعض الثوابت الدينية وتأويلاتها- ومختلفة من دين لآخر، ومن مذهب لآخر داخل الدين نفسه، سواء في الأديان السماوية الكبرى، أو بعض الأديان الوضعية. الحياة الدينية هي في أبرز محاورها شخصية بامتياز، لأنها تخص علاقة الفرد بالله عز وجل، وبالأنبياء، والنبي المرسل برسالة السماء كما هو الأمر الاعتقادي في الدين الإسلامي الحنيف، ولأن التدين الفردي هو المعبر عن هذا الإيمان. الحياة الدينية جماعية أيضا، لأنها تمثل إيمان وعقائد الجماعات المؤمنة بالله، وهذا الدين أو المذهب داخله، كما فى الإسلام على سبيل المثال –الشيعة والسنة والاباضية- وداخل كل مذهب مدارسه الأساسية الكبرى كما فى المذهب السني -الحنفية، والشافعية، والمالكية، والحنبلية- وفى المسيحية حيث المذاهب الثلاثة الكبرى (الأرثوذكسية، والكاثوليكية، والبروتستانية)، ولاهوت كل مذهب والجماعات المتفرعة داخله.

الحياة الدينية تمتد إلى الأديان الوضعية الأخرى، التي تشمل الخرائط الجيو-دينية، والسياسية فى عالمنا. الحياة الدينية، وأبرزها أنماط التدين الوضعية والشعبية السائدة في كل مجتمع حول كل دين أو مذهب، بها مستويات للتغير، منذ تاريخ نشؤها، والإيمان بها وفق عديد من المتغيرات الاجتماعية، والسياسية والحضارية والتقنية والعلمية أيا كانت مستويات تطورها التاريخي، من الانفتاح، والتجديد إلى الانغلاق والتزمت، والتشدد الديني. ويرجع ذلك إلى أن أنماط التدين الشعبي هي منظومات الأفكار الشائعة لدى الأفراد والجماعات، والفئات والشرائح الاجتماعية حول الدين والمذهب –أيا كان هذا الدين ومذاهبه- ومعها الممارسات الدينية، والطقوسية، والأدعية، والقصص والمرويات الشعبية، والتي يتم اسنادها إلى المقدس وتأويلاته وتفسيراته وشروحه، وسردياته المختلفة. هذا التدين هو الوضعي، والبشري حول الأديان، ومذاهبها المختلفة، في مجتمع معين، وحياة اجتماعية في مراحل تاريخية متغيرة.

من ثم، تتأثر الحياة الدينية الفردية، بالحياة الدينية الجماعية والحياة الاجتماعية، ومحمولاتهم من الموروثات الشعبية والرأسمال الديني والعادات والتقاليد وأنماط الحياة، والصراعات الاجتماعية والسياسية، وأبنية القوة السائدة في هذه المرحلة التاريخية أو تلك. من هنا نحن إزاء عمليات سوسيو-سياسية، وسوسيو- ثقافية، وسوسيو- دينية، في حالة تجمع بين بعض الموروثات السائدة حول الدين أو المذهب، وبعض التحولات في الحالة الدينية الوضعية المتغيرة داخل كل المجتمعات، وتغيراتها، من حيث انطلاق المجتمع، وانفتاحه، والعلاقات البينية بين الأديان والمذاهب بعضها بعضًا أو التوترات، والنزاعات بين اتباع هذه الأديان والمذهب، أو العنف الذي يستند إلى مشكلات اجتماعية وغيرها. الحياة الدينية، والحياة الاجتماعية يتأثر كل منها بالانفتاح على الآخر المختلف فى داخل المجتمع، وفئاته وشرائحه الاجتماعية، أو على المجتمعات والثقافات والأديان الأخرى، والحوار معها، والقبول بالتعايش معها في احترام متبادل، أو نزاعات أو توترات تستند إلى مسوغات، وتبريرات دينية وتأويلية!

من هنا، فإننا لسنا إزاء حياة دينية ساكنة تاريخيًا تتسم بالجمود في الفكر الديني الوضعي، وخطاباته المتعددة، أو التطرف والعنف، أو التجديد في الفكر الديني والثقافة الدينية، وإنما نحن إزاء حالات متعددة، ومتراكمة حينا، ومتقطعة حينا آخر للحياة الدينية الفردية. في بعض المراحل التاريخية نكون إزاء تدين اعتدالي ووسطى، يسوده التجدد الروحي الفردي والوئام الاجتماعي والديني بين الأديان والمذاهب، والحوار فيما بين بعضهم بعضًا، والتعايش المشترك.. إلخ. في بعض الأحيان، ولأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية، وتأويلات دينية متطرفة أو متشددة أو محافظة، يسود العنف وثقافة التطرف وكراهية الآخر الديني والمذهبي داخل ذات المجتمع أو خارجة إزاء الأديان الأخرى ومذاهبها المختلفة في الثقافات الأخرى أيا كانت مواقعها الجيو-سياسية، والجيو-دينية.

من ثم، تُعد أنماط التدين الشعبي، ولدى تكوين رجال الدين أو نساءهم –كما في البروتستانتية، ومدارسها على سبيل المثال- تتسم بالاستمرارية للموروث الديني، والتغير السوسيو-دينى والسوسيو-ثقافي، والسوسيو-اقتصادي، والسوسيو-تكنولوجي.

ثانيا: التغير في التدين الوضعي في المجتمعات الأكثر تطورا

في بعض الأديان فى المجتمعات الأكثر تطورًا في الغرب (على خصوصياته، والتعدد الثقافي داخل دوله ومجتماعاته) تتطور الدراسات حول الدين والمذهب كنتاج للتطور في المناهج التاريخية، والأركيولوجية، واللغوية/اللسانية، ونظريات التأويل، والتفسير، والفكر الفلسفي، والدراسات السوسيولوجية النظرية، وتطبيقاتها، ودراسات الأديان والمذاهب المقارنة، وتشكيل وتكوين بعض رجال اللاهوت المسيحي، والباحثين في المجال الديني. من ثم، تتطور معهم المعرفة الدينية، والتفسيرات والشروح الدينية. كذلك، تأثرت الحياة الدينية في الدول والمجتمعات الغربية فائقة التطور بالتطور الرأسمالي، وحركة القوميات، وتأسيس النظم الديمقراطية التمثيلية الغربية، والحريات العامة والشخصية، والفردانية وميلاد الفرد كفاعل اجتماعي، وتطوره، وبقوة وهيمنة الإعلام المكتوب والمسموع، والمرئي، ثم الثورة الرقمية ومعها الذكاء الصناعي. الخ. لا شك أن هذه التطورات التاريخية –السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية- من الحداثة إلى ما بعدها، وما بعد بعدها، والثورات الصناعية من الأولى إلى الرابعة- ساهمت فى تكريس التمايز بين الوضعي، وما وراءه في ظل النماذج العلمانية المختلفة بين تاريخية وتقاليد الجمهورية الفرنسية، إلى النماذج البريطانية، والأمريكية، والألمانية على سبيل المثال.

التمايز والانفصال بين الديني، والسياسي، والاجتماعي الوضعي، وتشكل وتطور الثقافة في كل مجتمع ونظام علماني، أدت إلى انعكاسات كبرى على بعض أنماط التدين السائد في كل بلد غربي فائق التطور، وفى العلاقة بين التدين الفردي وبين المقدس داخل المسيحية الكاثوليكية والبروتستاننية. الأهم أن هذا الانفصال بين الوضعي الحي، والمتطور سوسيو- ثقافيا وسياسيا وتكنولوجيا، وبين الميتاوضعي، بات جزءاً من الحرية الدينية، وحرية الضمير، والتدين واللاتدين، والإيمان وعدم الإيمان، والحق الإنساني في التحول الديني والمذهبي، وتكرس ذلك كجزء من حركة حقوق الإنسان، والأهم كحق فى إطار الثقافة القانونية والسياسية فى هذه الدول ومجتمعاتها، من خلال التدين الفردي.

ثالثا: الدين والتطور الاجتماعي... في نقد النظرات البسيطة

هناك نظرة نمطية وبسيطة سائدة لدى البعض حول الفكر الديني الإسلامي السني، ترى أنه يشكل عقبة بنائية ضد التطور الاجتماعي والسياسي والثقافي، نظراً لجمود هذا الفكر وسكونه، وبروز خطابات محافظة، ومتشددة من بعض رجال الدين –وبعض الداعيات من النساء في العقود الأخيرة- ومن خطابات العنف والإرهاب، بجانب الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، والسلفيات الجهادية وممارستها للعمليات الإرهابية، وخطابات التكفير الديني إزاء مخالفيها، أو إزاء الآخر الديني.

هذه النظرة تحاول في خطابها الهش والسطحي إقامة تناقض بين الإسلام والحداثة وتطورات عصرنا، وبين الإسلام والدين وعوائق التنمية الشاملة، بالنظر إلى القيم التقليدية واللاتاريخية، والماضوية، التي يطرحها الفكر الديني الوضعي، وخطاباته، وجماعاته السياسية الإسلامية، وبعض رجال السلطة الدينية الرسمية والجماعات السلفية.

هذه النظرة الأحادية المستمدة من الحالات الدينية العربية المتغيرة، سادت فى مرحلة تمتد من هزيمة يونيو 1967 إلى المرحلة الراهنة، في العقد الثالث من الألفية الراهنة. بعض هذه الوجهة من النظر تتغافل عن الدور الذي لعبه الفكر الديني المصري الاجتهادي في الحركة الوطنية المعادية للاستعمار البريطاني، ودور الدين الوظيفي في التنمية في نظام يوليو الناصري حتى هزيمة يونيو 1967. ثمة إغفال أن الفكر الديني الوضعي يتأثر بالبنية الاجتماعية، والحياة الدينية السائدة رغم مشاركته فيها، إلا أنه يتأثر بها، وبالأوضاع السياسية، وعلاقة الدين بالسلطة، وتوظيفاتها للدين في العمليات السياسية وفى نظام الشرعية السياسية، لأن النظام الديمقراطي التمثيلي، والحريات العامة والفردية، تؤثر على الفكر عموما، والفكر الديني على وجه الخصوص، وحماية النظام للحقوق الدستورية –في ظل الصراع والتوازن والرقابات المتبادلة بين السلطات، ومعها رقابة الصحافة والإعلام المدني والمسرح والمكتوب على الأداء السلطوي عموما، ومعه الرأي العام- وعلى رأسها حريات الرأي والبحث والتعبير بكافة أشكاله، وحرية التدين والاعتقاد المطلقة. من هنا، فإن الفكر الديني لا يتأثر في عملياته الذهنية، وإنتاجه وإجاباته على أسئلة عصره، بالموروث فقط، وإنما يتأثر كثيراً بالحياة الاجتماعية والسياسية ومستويات الوعي الاجتماعي والسياسي السائد في مرحلة تاريخية محددة. من ثم، فإن الفكر الديني التسلطي هو إنتاج للفكر السياسي التسلطي، الذي أدى إلى إنتاج التسلطية السياسية والتسلطية الدينية.

تتأثر الحياة الدينية الفردية والجماعية بالأوضاع الاقتصادية السياسية من حيث يسر أو عسر الحياة، وتأثيرات ذلك على التدين السائد، لأن ارتفاع معدلات البطالة، وانتشار الفقر واتساع قاعدته الاجتماعية فى الأرياف والمدن الحضرية المريفة يبدو مؤثرا على الإدراك والوعي الاجتماعي والديني الذي يميل للمحافظة. بعض اليسر الاقتصادي يؤدي إلى انفتاح التدين الفردي والجماعي على الحياة، كنتاج لنموذج التنمية السائد ومدى كفاءته وملاءمته لظروف المجتمع والعصر، ومن ثم تؤثر عدالة توزيع الدخل القومي بين الفئات والشرائح الاجتماعية المختلفة في التدين الشعبي نسبيا. ففي حالة العسر والأزمات الاقتصادية الهيكلية، وإعاقات الحراك الاجتماعي لأعلى، وانتشار الفقر، تشيع في الحياة الاجتماعية القيم القدرية، وتوظيف التدين الوضعي كأداة للتماسك الاجتماعي إزاء الأزمات الاقتصادية الكبرى، وانعكاساتها على حياة الأغلبية الشعبية التي تحاول تحقيق التوازن النسبي بالغ الصعوبة عند الحافة من خلال التدين المحافظ. أما في ظل اليسر الاقتصادي النسبي، وبعض الحريات العامة، والشخصية/ الفردية، والتعليم المتطور، يولد الأمل في المستقبل، في ظل الفرص المتاحة في التعليم والعمل، والحراك الاجتماعي، ودور المرأة في العمليات الإنتاجية، وتطور الصناعة، والتصنيع، مع التكنولوجيات الجديدة المتطورة. فى ظل هذه الأوضاع الاقتصادية، والصناعية، والتعليمية يتطور الوعي الاجتماعي والديني والسياسي، الأمر الذي يسمح بطرح أسئلة جديدة، وإجابات دينية وفكرية تجديدية مختلفة عن الخطابات الدينية النقلية الموروثة حول الأسئلة الماضوية، وإجاباتها الموروثة التي يُعاد إنتاجها دونما فحص أو نقد أو دحض لها على نحو ما هو شائع منذ عقود طويلة، منذ هزيمة يونيو 1967، إلى مرحلة المد الديني الإسلامي، وجماعاته الدينية الراديكالية والسلفية.

أن يكون الدين عائقا للتقدم والتطور، ومواكبة أسئلة العصر هذا مرجعه أثر الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتكنولوجية السائدة على الفكر الديني السائد ومؤسساته وسلطاته، من حيث المعرفة وسوق الأفكار والحريات، والتفاعل الثقافي السياسي والفلسفي والقانوني مع تطورات المعرفة في العلوم الاجتماعية والتكنولوجيا وثوراتها المتعاقبة، وفى العلوم الطبيعية. في المرحلة شبه الليبرالية في مصر (1923-1952)، وبعض فوائضها فى ظل الناصرية، كانت هناك اجتهادات من جانب بعض رجال الدين المجددين من أبناء الإمام محمد عبده، ومصطفى المراغي، ومحمود شلتوت، وعبد المتعال الصعيدي، وعلى عبد الرازق، ومصطفى عبد الرازق، ومحمد عبد الله دراز وآخرين، الذين شاركوا في الحياة الفكرية، وواكبوا التطور السياسي، والاجتماعي، والفكري في زمانهم، واستلهموا أسئلة هذه المرحلة، وحاولوا نسبيا الإجابة عليها من خلال النظرات المتجددة والاجتهادية من داخل البنى الفقهية والكلامية التأسيسية في تاريخ سرديات الفكر الديني الإسلامي الوضعي حول المقدس والسنة النبوية المشرفة. لقد انكسر هذا الاتجاه مع التسلطية السياسية، والقمع إزاء الفكر الحر، وحريات التعبير والبحث الحر، والتدين والاعتقاد الحر. ومرجع ذلك رهاب الخوف السلطوي من العقل الحر، والدور الوظيفي السلطوي الديني فى المجالين العام والديني المغلق نسبياً.

لا شك أن ذلك أنتج عقلاً دينياً ساكناً، في سباته التاريخي الماضوي حول السرديات الدينية التأسيسية الوضعية حول الإسلام –وأيضا في الأرثوذكسية القبطية المصرية- ومن ثم بات عقلا دينياً تابعاً للسلطان السياسي المتغلب في الفقه السني -في لحظات سباته التاريخي- وتابعا للنقل القديم، ومفارقا للعصور المتغيرة سياسياً وثقافيا واجتماعياً، وظلت إجاباته ماضوية على أسئلة الواقع المتغير. من ناحية أخرى، وظفت الأرثوذكسية القبطية التطرف الديني لبعض الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفيين، في فرض سلطتها الدينية، وأفكار الإكليروس، وتعاليمهم على المصريين الأقباط، على نحو ماضوي وتقليدي، باسم المسيحية المستقيمة، والحقيقية، ومزيد من انغلاق رجال الدين على الموروث اللاهوتي، والتدين الشائع في الأوساط الاجتماعية القبطية الريفية، وفى المدن المريفة.

من ثم، نحن إزاء حياة دينية، وأنماط التدين الوضعي داخلها تدور بين محوري الثبات والسّبات الفقهي، واللاهوتي الماضوي، وبين التغير والتحول في الفكر الديني، والتدين الشعبي والشعوبي، في بعض الأحيان. ولابد هنا من التمييز بين الدين –أيا كان- ومذاهبه في أصوله المقدسة، وسردياته الوضعية، وبين أنماط التدين الشعبي السائدة في مرحلة من المراحل التاريخية، وذلك في فهم هذه الأنماط التدينية الاجتماعية والسلوكية الفردية والجماعية، والفكر الديني السائد حولها.

إن السرديات الدينية الوضعية لرجال الدين، والسلطات الدينية الرسمية، هي بشرية ومتغيرة، وقابلة للتمثل والتوظيف والمراجعة، أو الاستبعاد لبعضها لأسباب تتصل بتاريخية هذه السردية وظروفها وسياقاتها، والفكر السائد في زمنها، أو عدم دقة نقلها، أو لارتباطها بأسئلة عصرها وبجماعات المؤمنين وقت طرحها، أو عدم ملاءمتها لحياة المؤمنين بهذا الدين، أو ذاك في عصور متغيرة، سواء في عالمنا أو تحولاته المستقبلية العاصفة فيما يبدو من مؤشرات.

رابعا: الدين وتوظيفاته السياسية

الحياة الدينية في مصر والعالم العربي لا تقتصر على أنماط التدين الشعبي، الشعوبي في بعض الأحيان، وإنما تتماس وتتداخل مع التوظيف السياسي للدين، في ظل ظاهرة موت السياسة في نظام يوليو 1952، وخاصة في ظل عهد السادات، واستخدامه للدين وتأويلاته المحافظة في مواجهة اليسار والناصريين والليبراليين المستقلين والفكر الحر، وإقصائهم من المشهد السياسي، والثقافي، وهو ما استمر في عهد مبارك مع بعض التغير النسبي. تداخل التدين بالسياسة أنفجر بعد 25 يناير 2011، وما بعد، ومن خلال التوظيف السياسي للإسلام من الإخوان والسلفيين للإيديولوجيا الإسلامية السياسية والسلفية ومعهم ذوي التوجهات الإسلامية عموماً ومحاولة فرض هندسة دينية ماضوية على الأفراد والمجتمع. هذا المنحى ساهم في الاضطراب السياسي والديني واسع النطاق، وتحليق الخوف شبه الجمعي من التحويل القسري لنمط حياتهم الحديث إلى الاعتقال في السياجات والأوامر السياسية للإسلاميين فى السلطة، وأدى، ضمن أسباب وفواعل أخرى، إلى ثورة 30 يونيو 2013.

من أبرز توظيفات الدين وتأويلاته الوضعية والسلطوية في السياسة ذلك التداخل العمدي بين القوانين الوضعية –التي تنظم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية- وبين التأويل الديني السلطوي. وهذا ما ظهر في الدساتير المصرية. النصوص الدستورية العامة حول الإسلام دين الدولة وردت بعديد المواد من الدستور الحالي- على سبيل المثال- وعلى رأسها المادة الثانية التي نصت على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". والمادة الثالثة التي تنص على أن "مبادئ شرائع المصريين من المسيحيين واليهود المصدر الرئيسي للتشريعات المنظمة لأحوالهم الشخصية، وشئونهم الدينية، واختيار قيادتهم الروحية". والمادة السابعة التي تنص على أن "الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كافة شئونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية، والشئون الإسلامية، ويتولى مسئولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم. وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية لتحقيق أغراضه. وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء. وأيضا المادة (64) التي تنص على أن "حرية الاعتقاد مطلقة وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأصحاب الأديان السماوية حق ينظمه القانون".

تشكل هذه النصوص الدستورية العامة الإطار الذي تتحرك فيه السلطتان التشريعية والتنفيذية فى توظيف القوانين في ضبط حدود هذه الحقوق الدستورية، أو الانحراف التشريعي بها في بعض الأحيان، ووضع الضوابط القانونية عليها، وفى فرض القيود على الحرية الدينية -وفق نص المادة 64 التي وصفها بأنها مطلقة، ولكن يتم ضبطها في الأطر التشريعية التي قد تعصف بها، خاصة أن حرية الاعتقاد تمس الإيمان الداخلي للمواطن، لكن حرية ممارسة هذا الإيمان تتم من خلال الشعائر ودور العبادة الدينية التي ينظمها القانون، ويضبط حدودها.

من ناحية أخرى، تقتصر الحرية الدينية وممارسة شعائرها على الأديان الثلاثة: الإسلام، والمسيحية، واليهودية. من ثم، لا يعترف المشرع الدستوري بالأديان الأخرى. ثمة أدوار أخرى للدولة في الحياة الدينية لأفرادها ومجتمعها من خلال مواقف بعض أو غالب الأجهزة البيروقراطية وتحيزاتها إزاء ومع بعض أو غالب أنماط التدين السائدة. يختلف موقف هذه البيروقراطية من الأديان الأخرى، وإزاء بعض المذاهب الإسلامية كالشيعة كما حدث في آخر سنوات حكم الرئيس الأسبق مبارك تحت دعوى مخاطر التمدد الإيراني في الإقليم العربي ورهاب الهلال الشيعي، ومواقف السعودية ودول الخليج حول تمدد الدور الإيراني في المنطقة. يختلف تأثير غالب الأجهزة البيروقراطية أو بعضها على الحرية الدينية بين حيادها أمام جميع المخاطبين بأحكام الدستور والقانون، أو تحيز بعضها من خلال بعض الموظفين العموميين إزاء المغايرين دينيا ومذهبيا في آداءهم لوظائفهم وتقديمهم للخدمات العامة أيا كانت.

ثمة أيضا تأثير العادات السائدة، وعلاقاتها بالسرديات الدينية الوضعية النقلية، ومعها التقاليد الدينية الشائعة ضمن أنماط التدين الشعبي، وتداخلها مع القيم، والأخلاقيات السائدة -أيا كانت- ومعها اللغة الدينية السائدة في الخطاب اليومي الشفاهي، والشعارات، والنصوص الدينية، داخل الجهاز البيروقراطي للدولة، أو المركبات العامة والخاصة، وفى مناهج التعليم المقررة، وفى تعليم اللغة العربية، وتركيزها على النصوص الدينية المقدسة أو البلاغة الدينية.

كل هذه عناصر رئيسة -ضمن أخرى- فى تشكيل الحياة الدينية للفرد، أو شرائح المجتمع على اختلافها. إن التجربة الدينية الفردية محدودة نسبيا، لأن التدين بالميلاد هو السمت الأعم والغالب على نحو ساحق فى بعض التدين الشعبي السائد مصريا وعربياً. ومن ثم، فإن التدين الفردي الناتج عن التجربة الدينية الفردية يبدو استثناءاً في الحياة الدينية السائدة والمتغيرة فى ظل بعض مكوناتها المستمرة. التدين الفردي الذي يتأسس على الاختيار الحر الديني يمثل الاستثناء، وهو ما يظهر لدى بعض من ولدوا ومعهم دين أبائهم، ثم استقر هذا الإيمان لديهم بالمعرفة بالأصول الدينية وسردياتها، واطمئن إيمانهم على هذا الدين أو المذهب داخله، وتأسس وعيه الديني على هذه المعرفة واستقر، وهؤلاء في الغالب من المتعلمين أو المثقفين. بعض التدين الفردي يكون ناتجاً عن التعليم والوعي والقلق والأسئلة التي قد تؤدى إلى تغيير المذهب داخل الدين، أو الانتقال والتحول إلى دين آخر، وغالبا ما يتم ذلك فى السر، ودونما إعلان إلا قليلاً، نظراً للضغوط الاجتماعية والدينية، وبعض القيود الأخرى التي تحول دون ذلك، وهي حالات لا يمكن اعتبارها ظاهرة عامة. بعض التدين للجموع الغفيرة، وخاصة من الأميين، غالبا ما يكون اتباعا للتدين بالميلاد عن طريق الأباء والأمهات أو الجددود والجدات، ومن ثم يغلب عليه التدين الشعبي بكل مكوناته وعناصره وسياقاته وضغوطه. ثمة أدوار يلعبها رجال الدين في الريف والمدن المريفة في إضافة تأويلاتهم الوضعية الشعبية من خلال رفد التدين الشعبي بمواد وسرديات شعبية وتوظيفها في خطاباتهم الدينية في المساجد أو الاجتماعات أو إلى سرادقات وجلسات الوعظ في العزاء..الخ. من ناحية أخرى، هناك أدوار تلعبها الجماعات الصوفية وبعض شطحاتها وسردياتها في مد التدين الشعبي بموارد جديدة من الحكي. ثمة أيضا بعض التحول الديني الذي لا يمت إلى الحرية الدينية في عمقها الناتج عن القلق ومساءلة الذات عن إيمانها بديانة الميلاد والأباء والجدود، ولكن يكون التحول محض حلا شكليا وقانونيا لمشكلة داخل نظام الأسرة، ومن ذلك السعي إلى فصم العلاقة الزوجية لاستحالة العشرة بين الزوجين لأسباب مختلفة، وذلك لبعض القيود الكنسية على طلاق المسيحيين الأقباط الأرثوذكس، على نحو أدى إلى تحول بعض الأقباط إلى الدين الإسلامي لإيقاع الطلاق وفق الشريعة الإسلامية. قد يبدو هذا التحول الديني جزءاً من الحرية الدينية، إلا أن إمعان النظر يشير إلى أن ذلك السلوك فى التحول الديني هو ممارسة شكلية، لأن هدفه ليس الإيمان العميق بناءاً على التجربة الدينية الفردية التي دفعته للتحول، وإنما لإعاقة التطليق فى الكنيسة الأرثوذكسية، بقطع النظر عن مدى ممارسة المتحول للإسلام؛ العقيدة والقيم والطقوس الدينية فى الدين الإسلامي، سلوكا واعتقاداً.

خامسا: بعض سمات الحياة الدينية النسبية السائدة واحتمالات تغيرها مع الثورة الرقمية

هناك أيضا عديد من السمات العامة النسبية في الحياة الدينية السائدة، والتي قد تتغير مستقبلا في ظل مواضعات أخرى تؤدي إلى هذا التغيير، ونطرح بعضها فيما يلي:

1- التدين الجماعي، وسيادة مفهوم الإجماع، وهيمنة إيمان الجموع الفعلية -والرقمية- الغفيرة، في تحديد بعض من سمات التدين الفردي من خلال الرقابات غير المباشرة المتبادلة، بين المتدينين بعضهم بعضا، وعلى الجمهور.

2- تسيس التدين، من خلال بعض رجال الدين الرسميين، والجماعات الإسلامية السياسية، والسلفية، والأشكال المختلفة للربط بين الدين والسياسة.

3- الربط بين الدين، وأنماط التدين، وبين الهوية -وعناصرها التكوينية المستمرة والمتحولة- وأن الهوية تم إنتاجها في الدين منذ نشأته، ومن ثم هوية المجتمع، هي هوية دينية بامتياز للأغلبية الدينية، وليست مركبة، وبها تحولات، من بينها المكون الديني.

4 - "التدين المراوغ"، الذي ينطوي على الشكل الطقوسي للتدين الاستعراضي، بينما السلوك الفعلي اليومي ينطوي على تناقص بين الشكل الطقوسي والإيمان العميق، وبين نظام الزي المتدين واللغة الدينية الشعارية والأفعال اليومية التي تتناقض معها، وبين الخطاب الديني وتديين اللغة، والتناقض بين الظاهر اللغوي والطقسي وفى الزي وفى السلوك واللغة الدينية، وبين السلوك الاجتماعي اليومي الفعلي إزاء الآخرين في العمل والجيرة والصداقة وجماعة الرفاق وفى الأسرة. هذا التباين مرجعه أن الدين تحول من عقيدة وعبادة وقيم وسلوك، إلى وظيفة اجتماعية وقناعية تستر السلوك الفعلي من خلال الأقنعة، إنه تدين الأقنعة الكاذبة في عديد الأحيان.

5 - "التدين القدري"، والذي يدرك الدين، والسلوك الاجتماعي، والمشاكل، والمسئولية الفردية، وكأنها رهينة الماورائيات، والأقدار، وهي نزعة جبرية أشاعها الخطاب الديني النقلي، وأيضا الثقافة الشعبية الريفية، وهذا الإدراك للأفعال الاجتماعية الفردية وكأنها لا تعبر عن مسئولية الفرد المؤمن واختياراته، وإنما يتم نفيها عن الفرد وإحالتها للأقدار، وكأن حياة الفرد مرسومة وتم هندستها سلفاً! هذا النمط من التدين القدري مصدره التدين الشعبي السائد في الأرياف، والذى تمدد إلى سكان المدن التي تريفت من نهاياته الحربين العالميتين الأولى والثانية، لاسيما في مرحلتي السادات ومبارك، ولا يزال مستمراً نظراً للأزمات الاقتصادية والاجتماعية واحتقاناتها، على نحو يعطى الفكر الديني النقلي والسلفي الفرص الملائمة لإعادة التمدد الاجتماعي وسط الفئات الشعبية في الريف والحضر المريف والمتفجر سكانياً، مع ارتفاع معدلات البطالة، وتهتك الأنسجة القيمية، لصالح قيم جديدة مختلفة تماماً تعتمد على العنف والأثرة وتراجع التماسك الأسري، وارتفاع معدلات الطلاق، ومن ثم تصدع الأسر والعنف داخلها.

6- الطابع التعبوي الجمعي للتدين السائد، وسيطرته على الجموع الغفيرة الرقمية، والفعلية، من خلال الآليات الطقسية فى أداء الفرائض الدينية، لاسيما الصلاة، وأيضاً من خلال بعض رجال الدين الرسميين، ودعاة الطرق، وسعي بعض الأفراد لبناء مكانة اجتماعية من خلال الإرشاد، والدعوة، والرقابة الدينية على الآخرين بقطع النظر عن مدى معرفتهم بالعلوم الدينية وتاريخها وتطوراتها.

7- التدين الذي يميل إلى التعبئة الدينية في مواجهة الآخر الديني، وإبراز أفضلية دين على آخر، ومذهب على الآخر، وهي نزعة تقوم على توظيف التباين والضدية الدينية والمذهبية كآلية مستمرة للتعبئة والتعاضد الديني والهيمنة الرمزية على الجموع الغفيرة.

8- التدين خارج سيطرة المؤسسة الدينية الرسمية، حيث تلعب فواعل دينية أخرى دوراً مؤثراً، وعلى رأسهم الجماعات السلفية وبعض العوام من دعاة الطرق.

9- الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، وما أدت إليه من انفجار الفاعلين الدينيين الرقميين. وذلك من خلال تزايد أعداد من يطرحون خطابات الوعظ والإرشاد الديني، ومعها خطابات الكراهية للآخر الديني، أو الهجوم على المذاهب الأخرى، أو على من يطرحون خطابات دينية مغايرة تطرح أسئلة مختلفة أو ملاحظات وأسئلة حول بعض السرديات الدينية الوضعية التاريخية، أو إبراز بعض التناقضات التي اشتملت عليها في ذات السردية لكبار الفقهاء أو المحدثين..الخ.

10- بعض الخطابات الدينية الرقمية المكتوبة، أو الشفاهية أو المرئية- المنشورات والتغريدات والفيديوهات القصيرة- تعكس بعض الخطابات الدينية السائدة والشائعة على الواقع الفعلي في الحياة الدينية في بعض المجتمعات والجماعات داخلها.

11- سطوة النزعة النقلية الاتباعية على العقل الديني الرسمي، والسلفي، والجماعات الإسلامية السياسية، وانعكاسها على التدين الوضعي للجموع الغفيرة الفعلية والرقمية، بل وإحداثها تحولات في التدين الشعبي.

12- استمرار بعض رجال الدين، والسلفيين والإخوان المسلمين، ودعاة الطرق -بتعبير الأستاذ العميد طه حسين- في فرض هندسات دينية وضعية تأويلية ونقلية على الإيمان والتدين الفردي.

13- يميل بعض الفاعلين الدينين الرسميين إلى خلط الدين بالسياسة، وفق أهداف كل فاعل ديني في السعي للسيطرة على روح وضمائر وسلوك الجماهير الغفيرة في الواقع الاجتماعي والحياة الدينية.

14- التداخل بين التدين الفعلي والرقمي، والسيولة فيما بينهما من تفاعلات.

15- سيطرة النزعة الدينية الاستعراضية الرقمية على "التدين الرقمي" من بعض الجموع الرقمية الغفيرة، لإثبات أنهم الأكثر إيمانا وتدينا من الآخرين، وأنهم الأكثر جسارة في الدفاع عن دينهم أو مذهبهم. تشكل نزعة التدين الاستعراضي الوضعي، والشعبي جزءاً من التدين المراوغ، وتوظيفه في السعي نحو الذيوع بين الجموع الرقمية الغفيرة.

16- استخدام الدعاة السلفيين، وبعض رجال الدين الرسميين، للرقمنة ووسائل التواصل الاجتماعي، في بث وكتابة خطاباتهم الدينية الوضعية، سعيا وراء المكانة والذيوع وسط مواقع التواصل الاجتماعي.

17- سبق الجماعات الإسلامية الراديكالية في بناء المواقع الرقمية (القاعدة، والنصرة، وداعش، والسلفيات الجهادية) بهدف بث بياناتها وفيديوهاتها وفكرها الديني السياسي، ومواقفها، والإعلان عن عملياتها الإرهابية، والاتصال الرقمي المشفر مع بعض خلاياها العنقودية، أو التجنيد السياسي للأعضاء، وهو ما ظهر في نمط "الذئاب المنفردة". ويرجع ذلك إلى الأجيال الشابة من الجيل الرابع والخامس في الجماعات الراديكالية، خاصة القادمين من بعض الدول الأوروبية، والذين انضموا إلى داعش وذهبوا إلى مناطق سيطرتها في العراق. ونجحت داعش عبر مواقعها الرقمية فى تجنيد بعض الذئاب المنفردة، وبعضهم كان في السجون الفرنسية، أو في عالم الضواحي الفرنسية والبلجيكية وفى الدانمارك.

18- لجأت المؤسسة الدينية الرسمية إلى بناء مواقع رقمية لمواجهة أفكار الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية، والرد على بعض أطروحاتها، وخطاباتها الدينية، وتقديم الخطاب الافتائي حول بعض المشكلات والظواهر الدينية الجديدة، وفى ذات الوقت الرد على بعض أسئلة السائلين على مواقعهم.

19- تتسم اللغة الرقمية على وسائل التواصل الاجتماعي بالإيجاز الشديد، وتميل بعض اللغة الدينية إلى المزج بين العامية والنزعة الحكائية، مع مزجها باللغة العربية الفصحى في الاستشهاد ببعض من السرديات الدينية التاريخية، أو آراء الفقهاء والتابعين، مع بعض النصوص الدينية المقدسة -القرآن- والسنة النبوية الشريفة.

20- ثمة ميل إلى الاعتماد على المفارقة لإظهار الخطاب الدعوي، والضبط الديني، والتعبئة الدينية. ويلاحظ أيضا انتقال الصراع الديني/ الديني إلى الواقع الافتراضي، كجزء من صرف الأنظار لدى اتباع كل دين عن الفجوات بين الخطابات الدينية النقلية ومشكلات الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعلمي الحديث، والأسئلة الجديدة والمتغيرة التي لا تجد تجديداً في الفكر الديني يواكبها بالاجتهاد والتجديد في الفكر الديني النقلي السائد.

21- في ظل التحولات التقنية مع الثورة الصناعية الرابعة، وبشائر الثورة الصناعية الخامسة- مع الذكاء الصناعي، والأناسة الروبوتية وما بعد الإنسان- تفاقمت المشكلات الكبرى التي تواجه المجتمعات العربية اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً.

22- في أعقاب وصول الإسلاميين للسلطة، وفشلهم في إدارة الدولة، ومحاولة فرض أفكارهم النقلية المتشددة على نمط حياة الطبقة الوسطى وشرائحها المختلفة -الوسطى/ الوسطى، والوسطى/ الصغيرة- برز خطاب نقدي لأفكارها. والأخطر أن بعض الباحثين ذهب إلى إعادة النظر في السرديات المؤسسة للتدين النقلي الوضعي السائد من منظورات نقدية، بحثت في بعض التناقضات الواردة في عملية تدوين السنة النبوية المشرفة، أو في تاريخ الإسلام، وأيضا في نقد بعض التطورات التاريخية للحكام المسلمين من منظور الاغتيالات والعنف الدموي والقتل للمخالفين، ونقد ممارساتهم العنيفة أيا كانت إزاء الخصوم.

23- بروز اتجاهات إلحادية و "لا أدرية" بين بعض الأجيال الشابة في العالم العربي، ونشر آراءهم على الواقع الافتراضي. ولا يزال خطاب المؤسسات الدينية يعيد إنتاج الخطاب النقلي التاريخي الموروث فى نقد الإلحاد والملحدين، دون دراسة الخطابين الإلحادي، واللاأدري، من حيث البنية والمرجعيات والفلسفة، والدراسة السوسيو- سياسية لأسباب هذه الظواهر الجديدة. بعض هذه الظواهر سيتزايد في ظل عمليات التحول التكنولوجي إلى الأناسة الربوتية، وما بعد الإنسان، والاضطراب الكوني، وظهور الفيروسات المتحورة مثل "كوفيد-19"، ومعها الاحتباس الحراري، والحروب الأهلية، وغيرها، على نحو طُرحت معه بعض أسئلة الوجود الإنساني من بعض الشباب، ولم تجد إجابات لدى رجال الدين وخطاباتهم، فى ظل هيمنة الاستهلاك المفرط و"التشيوء الإنساني". من ناحية أخرى، ظهرت تجارب الاستنساخ الحيواني، واحتمالات الاستنساخ البشري، وغيرها من عمليات زرع شرائح في الجسم الإنساني، لتعظيم الذكاء، والتنبيه إلى ظهور بعض الأمراض.. الخ! كلها تغيرات تشير إلى مرحلة جديدة في الوجود والشرط الإنساني، سوف تختلف عن غيرها من المراحل التاريخية الكبرى في التطور الاجتماعي والسياسي، والمعرفي، والثقافي في علاقة الإنسان بذاته، وفى رؤيته للعالم، بل وستشمل اللغة ذاتها، ومفرداتها ومجازاتها. الأهم مرحلة الإناسة الروبوتية، ودور الروبوت في الإنتاج، والتفكير، والتنظيم الإنساني، وفى الابتكارات، بل وفى مجال الثقافة، والفنون، والذي بدأت بعض مؤشراته في الظهور.

لا شك أن هذه التغيرات التي بدأت، سوف تتطور على نحو سيؤدي إلى قطيعة حضارية/ ثقافية في السياسة، وفى أنماط التدين الوضعي، وفى التفسير والتأويل للنصوص الدينية التأسيسية -المقدسة في الأديان السماوية- وسردياتها التاريخية السائدة في الممارسات الدينية، وعقائدها، وطقوسها، وقيمها الدينية. هذا التحول الكبير سيلقي بظلاله الكثيفة على التدين الوضعي السائد كونياً في كل الأديان، سماوية ووضعية، وقد يؤدى إلى ظهور سرديات دينية وضعية جديدة، بل وقد يدفع إلى بروز "أنبياء وضعيين" جدد في المستقبل، يطرحون رسالات دينية وضعية، تحاول أن تطرح مسألة الوجود في عصر الأناسة الروبوتية، وعلاقة الإنسان الجديد بالروبوت وبالكون، وخالقه -سبحانه وتعالى وتنزه- والإنسان وشرطه الوجودي، ومآلاته في ظل احتمالات تطور الاستنساخ الحيواني والبشري، والإنسان الجديد والطبيعة.. الخ. كلها احتمالات يبدو غير مفكر فيها وقد تأخذ بعض الوقت لكي تحاول بعض السلطات الدينية الإجابة عليها، في ظل جمودها اللاهوتي، والفقهي وخاصة في عالمنا العربي. من المرجح أن يكون هناك دفاع مستميت عن المتون الفقهية واللاهوتية والتأويلية الوضعية الموروثة، وتستمر النزعة الدفاعية الاتباعية سائدة بين غالب الجموع الغفيرة، وذلك كآليات نفسية دفاعية إزاء هذه التحولات ودفاعا عن الإيمان حينا، والهوية وللتماسك السوسيو- نفسي، في عالم متحول بالغ السرعة، حينا آخر. ستتأثر أيضا الأجيال الشابة فى المستقبل بهذا التغير السريع، وسيكون بعضها جزءاً من أفكاره المتغيرة وغير المألوفة.

إن ما يقف ضد التجديد الديني، واستيعاب عمليات التحول المعرفي والعلمي في الحياة الكونية، يتمثل في مشكلة التكوين العلمي لطلاب المعرفة الدينية، وغيرهم من الجماعات الإسلامية السياسية، والسلفيين. هذا التكوين النقلي التراثي القائم على الحفظ، والاستدعاء للإجابة عن أسئلة عالم متغير يعود إلى إغفال أن السرديات حول المقدس هي وضعية وبشرية، وابنة عصورها ومجتمعاتها، ومعارفه، وصراعاته، وأسئلته، ومن ثم لا يصلح بعضها للإجابة عن أسئلة عصور تطورت فيها المعارف فى العلوم الاجتماعية، وفى التطور التكنولوجى، وفى العلوم الطبيعية! هنا نحن إزاء مشكلة وعي تاريخي بالعلاقة بين السرد الديني الوضعي، وظروفه وأسبابه، وعوامله، وسياقاته الاجتماعية، والسياسية، وطبيعة سلطة الحكم، وأساليب عمله مع الحياة الدينية للأشخاص.

ثمة إعاقة تتمثل في غياب المنهج التاريخي ومقارباته المتعددة، في الدرس الديني، وتحويل السرد الديني -التفسيري والتأويلي- إلى شبه مقدس، واعتباره خارج الجغرافيا والتاريخ والسياسة والبلدان، والقيم السائدة في كل مرحلة والعادات والتقاليد الشعبية. الخ. ومن ثم استدعاته في عصور متغيرة، وأسئلة مختلفة ابنة عصورها ومجتمعاتها.

إن تنميط خطاب الفتاوى، والدعوى، والفقه، وكأنه خارج الزمان والمكان، هو جزء من حالة رهابُ الاختلاف والخروج عن الصراط الفقهي المستقيم لدى بعضهم، ولغياب النزعة الاجتهادية، والتجديد في الفكر الديني خوفا من انتقادات المتشددين من المشايخ الكبار، وغيرهم. من ناحية أخرى، فإن سمت الجمود الفكري يشمل بعض اللاهوت المسيحي الأرثوذكسي، وفى النظرة إلى نظام الأسرة وأمور عديدة أخرى، دونما استيعاب للمتغيرات الكبرى التي حدثت، ولا تزال، وفى المستقبل القريب، والأسئلة التي تتفجر كل يوم في عصر السرعة الفائقة، والحاجة الموضوعية للإجابات التجديدية عليها التي تنطلق من إتاحة الحرية الدينية من داخل الأكليروس، وأيضا من داخل السلطة الدينية الرسمية.

الثورة الرقمية أدت إلى حالة من السيولة والاضطراب فى الأسواق الدينية الوطنية، والإقليمية والدولية؛ الإسلامية والمسيحية، ودخول الأفراد كفواعل دينية. كما أدت إلى إشاعة الفوضى فى الآراء، والمواقف الدينية من الأحداث المختلفة، ومن الآخر الديني. لا شك أن المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، وعسر الحياة سيؤدى إلى العودة مجدداً إلى الدين من جانب الفئات المعسورة، وبعضها يعاني من توفير الحدود الدنيا من متطلبات الحياة الغذائية البسيطة، لا شك أن ذلك سيفتح الأبواب مجدداً أمام تمدد جديد للأفكار السلفية، وأيضا إلى سيطرة الإلكيروس المحافظ والمتشدد للسيطرة على الحياة الدينية للأقباط الأرثوذكس.

خاتمة

إن احتمالات التوترات، والصراعات على الدين، وبه، فى الحياة الاجتماعية والسياسية ستتزايد، وتحتاج إلى معالجات تتسم بالرشد السياسي والديني.

من الملاحظ أيضا أن استمرار ثقافة الريع في بعض البلدان تمثل حائط صد فى مواجهة تطور الصناعة والتقنية والعلوم الطبيعية، والعلاقات الاجتماعية -إذا جاز التعبير وساغ- وهو ما سيساهم في استمرارية أنماط التدين القدري، واللامبالاة بالزمن، وغياب معايير الكفاءة، والمسئولية الفردية، والجماعية، وضعف الإنتاجية دون احترافية، وهو ما سيؤدى أيضا إلى استمرارية أنماط العلاقات الاجتماعية السائدة الحاملة للأفكار والقيم الدينية الشعبية النقلية، ومحمولاتها المختلفة -التي يقف بعضها ضد القيم والعقائد الدينية الفضلى، أو تسئ إليها، ويجاريها بعض رجال الدين، ويستفيد منها بعض السلفيين والجماعات الإسلامية السياسية.

الحياة الدينية -أو الحالة الدينية المصرية وغيرها في العالم العربي- تبدو ساكنة في سباتها التاريخي من حيث طقوسها، وأفكارها الرائجة حول الدين، أو سردياتها الشعبية، إلا أن ذلك لن يستمر طويلاً في المستقبل، بالنظر إلى تغيرات المناخ، والفيروسات المتحورة غير المكتشفة، وعالم الروبوتات، والتحول إلى عالم ما بعد الإنسان، وهو ما يطرح على السلطات الدينية، والمذهبية، والأديان تحديات كبرى، تحتاج إلى إعادة النظر فى عديد من المفاهيم، والأساطير الشعبية، واللاتاريخية السائدة فى الحياة الدينية الشعبية، والتدين الشعبي، وذلك للإجابة عن أسئلة أجيال جديدة في المستقبل سيشكلها عصرها المتحول، وأسئلته غير المألوفة فى تاريخ تطور عالمنا.

هذا التغير يتطلب إعادة النظر التأويلي في بنُى الأفكار النقلية، وإعادة الدرس التاريخي حول المسارات التاريخية للمتون التأويلية، والسردية النقلية من خلال الآلة المنهجية السائدة في مجال العلوم الاجتماعية ومزاوجتها مع "العلوم الشرعية"، واللاهوت، وتعاليم الآباء. من ناحية أخرى، هناك ضرورة لإصلاح التعليم الديني والانتقال من الحفظ والاستذكار إلى إعمال العقل، في إطار العقل الحر، والحرية الدينية على مستوى التعليم العام والجامعي.

إن إصلاح التعليم؛ الديني والعام والجامعي، يشكل ضرورة تاريخية كي نستطيع التحرك إلى الأمام، وكسر حلقة التخلف التاريخي المركب في العالم العربي.