شهدت الأيام الماضية تظاهرات حاشدة في عدد من المدن الإسرائيلية، شارك فيها عشرات الآلاف؛ احتجاجاً على سياسات الحكومة الجديدة. يأتي هذا بالتزامن مع تصاعُد الاستقطاب السياسي بين الحكومة والمعارضة في إسرائيل، ودخول المنظومة القضائية على خط الأزمة، مع سعي الحكومة الجديدة إلى إجراء تغييرات قانونية وقضائية مثيرة للجدل؛ الأمر الذي دفع الرئيس الإسرائيلي يتسحاق هرتسوج، إلى التحذير من أن إسرائيل تواجه “أزمة دستورية تاريخية” تُمزق الداخل الإسرائيلي، مؤكداً أنه يقوم بوساطة بين الأطراف المعنية.
أزمة متصاعدة
ثمة مظاهر مختلفة على تصاعُد الأزمة السياسية في الداخل الإسرائيلي، التي لم تُعد تقتصر على التراشق الخطابي والاتهامات المتبادلة بين الساسة في إسرائيل، وإنما وصلت إلى حد دعوة بعض قادة المعارضة لإضراب شامل في إسرائيل؛ وذلك على النحو التالي:
1- خروج تظاهرات واسعة ضد سياسات حكومة نتنياهو: في مؤشر لافت على تصاعُد الأزمة السياسية في إسرائيل، تظاهر مساء السبت 14 يناير 2022 عشرات الآلاف من الإسرائيليين في وسط تل أبيب، كما خرجت تظاهرات أخرى في القدس وحيفا؛ حيث يرفض المتظاهرون سياسات الحكومة الإسرائيلية الجديدة. وبحسب بعض التقارير بلغ عدد المتظاهرين ثمانين ألفاً، بينما أشارت تقارير أخرى إلى أن أعداد المتظاهرين ضد حكومة نتنياهو في “تل أبيب” وحدها بلغت نحو 100 ألف.
وقد جاءت التظاهرات استجابةً لدعوات قادة المعارضة الإسرائيلية، الذين حرصوا على المشاركة في التظاهرات، وعلى رأسهم وزير الدفاع الإسرائيلي السابق بيني جانتس، وزعيمة حزب العمل ميراف ميخائيلي، ووزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني، ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك، بالإضافة إلى عدد من الأعضاء السابقين في الكنيست الإسرائيلي. جدير بالذكر أن إسرائيل قد شهدت في الفترة الأخيرة عدداً من التظاهرات الضخمة ضد حكومة نتنياهو، ومن المتوقع أن تستمر تلك التظاهرات في الفترة القادمة.
2- تصاعُد التوترات مع المؤسسات القضائية في إسرائيل: تشهد الساحة السياسية في إسرائيل ارتفاعاً واضحاً في منسوب التوتر والتراشق الداخلي، الذي لم يقتصر على الاتهامات المتبادلة بين الحكومة والمعارضة؛ حيث دخلت المؤسسات القانونية على خط الأزمة مع توجُه حكومة نتنياهو لإجراء “إصلاحات في النظام القضائي والقانوني”؛ الأمر الذي دفع رئيسة المحكمة العليا في إسرائيل إستر حايوت إلى توجيه إدانات حادة للحكومة، مُعتبرةً خطوات الحكومة الجديدة بمنزلة خطة "لسحق نظام العدالة وتوجيه ضربة قاتلة لاستقلال القضاء وإسكاته".
كما انتقدت حايوت بشدة التغييرات المخطط لها من قبل حكومة نتنياهو على “لجنة الاختيار القضائية”، معتبرةً أن إجراء تعديلات على اللجنة إنما يهدف إلى “تسييس كامل لتعيين القضاة في إسرائيل”؛ وذلك عن طريق التحكم في تشكيل لجنة انتخاب القضاة، بما في ذلك قضاة المحكمة العليا. ورأت حايوت أن تلك الخطوات تمثل “ضربة قاضية” للهوية الديمقراطية للبلاد. وقد دفع تصاعُد حدة التوتر والاستقطاب السياسي في إسرائيل وزير الدفاع السابق بيني جانتس إلى التحذير من سير البلاد نحو الحرب الأهلية، معتبراً أن نتنياهو يتحمل المسؤولية عن تأزُّم الأوضاع على هذا النحو.
3– حديث عن عصيان مدني مُحتمل في إسرائيل: في خطوة جديدة تعكس حجم الأزمة الداخلية في إسرائيل، أعلن موشيه يعلون وزير الدفاع ورئيس الأركان الإسرائيلي السابق، تخلي عدد من ضباط الاحتياط في الجيش الإسرائيلي عن رتبهم العسكرية؛ احتجاجاً على سياسات الحكومة الجديدة. وبحسب “يعلون” فإن إسرائيل “تشهد عصياناً مدنياً عملياً”، وإنه لم “لم يتبق إلا أن يرفض أولياء الأمور إرسال أولادهم إلى المدارس”. وفي السياق نفسه، دعا نائب رئيس الأركان السابق يائير جولان إلى عصيان مدني شامل؛ احتجاجاً على إجراءات حكومة نتنياهو.
4- إدانات دولية واسعة لسياسات الحكومة الجديدة: بالتزامن مع الأزمة السياسية الحادة في الداخل الإسرائيلي، تصاعدت حدة الانتقادات الخارجية للحكومة الجديدة، لا سيما بعد اقتحام وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير ساحات المسجد الأقصى. ولم تقتصر الإدانات على الدول العربية فحسب، بل تعرضت حكومة “نتنياهو” لانتقادات من الاتحاد الأوروبي والحكومة الألمانية التي وصفت خطوة “بن غفير” بالاستفزازية، محذرةً من اتخاذ أي خطوات أحادية يمكن أن تهدد الوضع القائم في القدس. يأتي هذا فيما يُتوقع أن يقوم وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” ومستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” بزيارة إسرائيل للوقوف على أجندة الحكومة الجديدة، وسط مخاوف أمريكية من التوجهات المتطرفة لبعض الوزراء الإسرائيليين.
دوافع مختلفة
يُمكن تناول أبرز أسباب تصاعُد حالة الاحتقان السياسي في إسرائيل؛ وذلك على النحو التالي:
1- الخشية من تقويض “الديمقراطية الإسرائيلية”: ترى الكثير من الاتجاهات في إسرائيل أن سياسات الحكومة الجديدة، التي يُهيمن عليها اليمين المتطرف، سوف تساهم في تقويض “الديمقراطية الإسرائيلية”؛ حيث دعا بيني جانتس، في تغريدة على تويتر” كل الشعب الإسرائيلي من اليسار واليمين للتظاهر من أجل الحفاظ على الديمقراطية الإسرائيلية”. وقد انعكس هذا الهاجس بشكل واضح في اللافتات التي رفعها المتظاهرون؛ حيث كان الشعار الأكثر انتشاراً “ديمقراطية ديمقراطية”، و"بيبي لا يريد الديمقراطية"، و"لسنا بحاجة إلى فاشيين في الكنيست".
2- القلق من تسييس وشخصنة القضاء في إسرائيل: تهدف تحركات المعارضة الإسرائيلية بشكل أساسي إلى إجهاض خطوات حكومة نتنياهو لتطبيق ما يُطلق عليه “خطة إصلاح” الجهاز القضائي في إسرائيل؛ حيث يرى معارضو نتنياهو أن تلك الإصلاحات تسعى لتسييس القضاء والتحكم في تعيين القضاة وإعطاء الكنيست “شيكاً على بياض” لتمرير التشريعات؛ الأمر الذي يقوض سلطة القضاء في ضبط قرارات السلطة التنفيذية، ويحد من سلطة المحكمة العليا لإلغاء القوانين التي تُعتبَر أنها تنتهك الحقوق المدنية الأساسية.
ويبدو أن خطوات نتنياهو الخاصة بالحد من سلطات المحكمة العليا تسعى إلى إفساح المجال أمام الكنيست لسن مجموعة من القوانين التي يُتوقع أن تعترض عليها المحكمة، ولا سيما القوانين الخاصة بالعلاقة بين الدين والدولة في إسرائيل، وكذلك مساعي نتنياهو لإقرار قانون في الكنيست يتم بمقتضاه إعفاء رئيس الحكومة والوزراء والنواب من المحاكمة، خصوصاً في ظل استمرار محاكمة “نتنياهو” في عدد من قضايا الفساد.
3- التحذير من إلحاق ضرر عملياتي بأداء الجيش والشرطة: ترى المعارضة الإسرائيلية أن سياسات الحكومة الجديدة سوف تساهم في تقويض الجيش والشرطة الإسرائيليين، لا سيما بعد تولي إيتمار بن غفير وزارة الأمن القومي “الأمن الداخلي سابقاً”، وتوسيع صلاحيات الوزارة الجديدة، ليمنحها سلطة على الشرطة الإسرائيلية، ووضع نشاط حرس الحدود في الضفة الغربية ضمن صلاحيات وزارة “غفير”؛ الأمر الذي اعتبرته المعارضة محاولة لتشكيل “جيش خاص لبن غفير”، محذرة من “صراع صلاحيات” يتسبب في إلحاق ضرر عملياتي بـأداء الجيش والشرطة الإسرائيلية.
4- الخوف من إمكانية التعرض لعزلة دولية وإقليمية: تخشى الكثير من الدوائر الإسرائيلية من تسبُب سياسات الحكومة الجديدة – لا سيما تحركات بعض أعضائها المتطرفين، مثل “بن غفير” – في تضرر العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، وتعرض إسرائيل لضغوط وربما لعُزلة دولية؛ فعلى الرغم من تباهي نتنياهو باتفاقيات السلام التي تم توقيعها خلال الفترة الماضية مع عدد من الدول العربية، وتوجهه لتوقيع المزيد من الاتفاقيات خلال الفترة القادمة، فإن تحركات حكومته قد تُعرقل هذه المساعي، بل تُهدد بتراجُع التقارب مع الدول العربية التي تحسنت معها العلاقات مؤخراً.
إعادة هيكلة
خلاصة القول: من المتوقع أن تُعمق سياسات “حكومة نتنياهو” الاستقطاب في الداخل الإسرائيلي، مع سعي اليمين المتطرف لإضفاء الطابع الديني على الفضاء العام في إسرائيل، بالإضافة إلى التوسع في بناء المستوطنات وشرعنة القائم منها، والتوجُه لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، مستغلاً السيطرة على الحكومة والكنيست، والشروع في إعادة هيكلة المنظومة القضائية، وربما الإعلامية، بما يتماشى مع هذا التوجه الذي يبدو أنه يتجاوز “الأهداف السياسية” ليرسم معالم الدولة بشكل كامل في السنوات القادمة.