قام مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ويليام بيرنز، بزيارة مفاجئة إلى ليبيا، في 12 يناير 2023، التقى خلالها قائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايته، عبد الحميد الدبيبة، وهي الزيارة الأولى لمسؤول أمني أمريكي رفيع منذ 2012.
زيارة مفاجئة
جاءت زيارة بيرنز إلى ليبيا بشكل مفاجئ، إذ لم يتم الإعلان عنها رسمياً. ويمتلك بيرنز خبرة واسعة في الملف الليبي، فقد كان أول مسؤول أمريكي يقوم بزيارة إلى طرابلس في عام 2004، بعدما عمدت واشنطن إلى إصلاح علاقاتها بنظام القذافي، كما زارها في عام 2014، عندما كان يشغل منصب وكيل وزارة الخارجية لشؤون الشرق الأوسط. وفي هذا السياق، يمكن عرض أبعاد هذه الزيارة على النحو التالي:
1- لقاءات مكثفة: عقد بيرنز لقاءات مكثفة خلال زيارته إلى ليبيا، بدأها من بنغازي، حيث اجتمع هناك بقائد الجيش الوطني الليبي، خليفة حفتر، قبل أن يتجه بيرنز إلى طرابلس، لعقد مشاورات مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايته، عبد الحميد الدبيبة، بحضور وزيرة خارجيته، نجلاء المنقوش، ورئيس جهاز الاستخبارات، حسين العائب.
واتسمت زيارة ويليام بيرنز إلى ليبيا بحالة من السرية والتكتم الملحوظ، إذ إن المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية رفض التعليق على هذه الزيارة، وهو ما زاد من الجدل حول أهدافها ودوافعها.
2- توقيت ملفت: أثار توقيت زيارة بيرنز إلى طرابلس تساؤلات عدة، حيث تأتي هذه الزيارة بعد أسابيع قليلة من تسليم حكومة الدبيبة لضابط الاستخبارات الليبي السابق، مسعود أبو عجيلة المريمي، إلى واشنطن، تحت ذريعة تورط الأخير في تفجير لوكربي في عام 1988. وألمحت بعض التقديرات إلى وجود تخوفات متزايدة لدى أنصار نظام القذافي من أن تعمد حكومة الوحدة الوطنية إلى تكرار سيناريو أبو عجيلة مع رئيس جهاز الاستخبارات الليبي السابق وصهر القذافي، عبد الله السنوسي، وتقوم بتسليمه إلى واشنطن.
من ناحية أخرى، تأتي زيارة بيرنز في ظل الحديث عن خريطة طريق جديدة مرتقبة، والتي يمكن أن تعيد تأطير المشهد السياسي والأمني في البلاد، ناهيك عن سياقات الحرب الروسية – الأوكرانية المشتعلة، والتي شهدت خلال الأيام الأخيرة انتصارات ميدانية لافتة لموسكو أثارت تخوفات الغرب، لاسيما أن شركة فاغنر لعبت دوراً حاسماً في هذه الانتصارات.
دوافع متعددة:
تباينت التقديرات بشأن دوافع زيارة بيرنز إلى ليبيا، ويمكن الإشارة إلى أبرز هذه التقديرات في التالي:
1- تتبع مجموعة فاغنر: أشارت تقديرات عدة أن زيارة بيرنز إلى طرابلس تستهدف تتبع عناصر مجموعة فاغنر الروسية في ليبيا، خاصةً في ظل تنامي دور هذه المجموعة في تعزيز النفوذ الروسي في مناطق النفوذ الخارجية لموسكو، بما في ذلك ليبيا.
وفي هذا السياق، كان مجلس الأمن قد ناقش الأسبوع الماضي الأوضاع الأمنية في الساحل وغرب أفريقيا، حيث تضمنت هذه الجلسة اتهامات أمريكية وأوروبية حادة لشركة فاغنر الروسية ودورها في أفريقيا، كما تدرس واشنطن حالياً تصنيف فاغنر كمنظمة إرهابية أجنبية، فيما أشار المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي، جون كيربي، إلى أن بلاده تعمل في الوقت الراهن على اتخاذ مزيد من الخطوات للحيلولة دون حصول فاغنر على التكنولوجيا الأمريكية.
وهناك تخوفات من تحوّل ليبيا إلى بؤرة صراع جديدة بين روسيا والغرب، لا سيما في ظل قلق واشنطن الحالي من توظيف موسكو لوجودها في ليبيا كورقة ضغط في الأزمة الأوكرانية.
2- توحيد المؤسسة العسكرية الليبية: ذهبت بعض التقديرات للإشارة إلى أن زيارة بيرنز إلى ليبيا تستهدف بحث ملف توحيد المؤسسة العسكرية في البلاد، لاسيما مع عودة اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة "5+5" مرة أخرى بعد توقف اجتماعاتها لنحو ثمانية أشهر، حيث استأنفت اللجنة اجتماعاتها في مدينة سرت، في 15 يناير 2023، بحضور المبعوث الأممي، عبد الله باتيلي.
ومن المتوقع أن يتم التركيز خلال الفترة المقبلة على حل الميليشيات المسلحة وخروج المرتزقة الأجانب. وتجدر الإشارة إلى أن ممثلين عن الجيش الوطني الليبي عقدوا عدة لقاءات مؤخراً مع ممثلي بعض المجموعات المسلحة التابعة لحكومة الدبيبة، وهو ما حمل مؤشرات مهمة بشأن احتمالية تحقيق اختراق في هذا الملف.
3- تخوفات أمريكية على إمدادات الطاقة: أفادت تقارير أن هناك تخوفات أمريكية متزايدة من تأثير الاضطرابات الداخلية في ليبيا على سلاسل إمدادات الطاقة، في ظل أزمة الطاقة العالمية. وفي هذا الإطار، رجحت هذه التقديرات أن تكون مباحثات بيرنز مع حفتر حملت تحذيرات أمريكية من استئناف حصار الموانئ النفطية، في ضوء الخلافات المتعلقة بتوزيع عوائد الطاقة، وهو ما ينذر بإمكانية عودة الحصار للموانئ النفطية الليبية، ومن ثم التأثير على سلاسل إمدادات الطاقة العالمية.
4- تعزيز شرعية حكومة الدبيبة: اعتبرت تقديرات أن زيارة بيرنز إلى ليبيا واجتماعه بالدبيبة، تعكس رسائل ضمنية من قبل واشنطن مفادها استمرار اعترافها بشرعيته، وتمسكها باستمراريته في المشهد، على الأقل في المدى المنظور، وذلك رداً على مساعي بعض الأطراف الليبية الدفع نحو تشكيل حكومة ليبية جديدة.
وربما يدعم هذا الطرح التقارير التي أشارت إلى أن ويليام بيرنز قد أكد خلال اجتماعه بالدبيبة على أن واشنطن تعتبر حكومة الوحدة الوطنية شريكاً موثوقاً لها في ليبيا، كما تم بحث فكرة استئناف السفارة الأمريكية نشاطها من العاصمة طرابلس.
انعكاسات محتملة:
هناك جملة من الانعكاسات التي ربما تفرزها الزيارة المفاجئة لبيرنز إلى ليبيا، والتي يمكن عرضها على النحو التالي:
1- تعزيز الانخراط الأمريكي: رفضت الخارجية الأمريكية التعليق على زيارة بيرنز إلى ليبيا، لكنها ألمحت إلى أن واشنطن تستهدف حالياً تعزيز انخراطها في الملف الليبي، والتعاون مع الشركاء الإقليميين للتحضير للانتخابات المقبلة هناك.
ويأتي هذا الانخراط الأمريكي بالتوازي مع تحركات إقليمية ملفتة، لعل أبرزها اجتماعات القاهرة بين أطراف الأزمة الليبية، في محاولة للتوصل إلى توافقات جديدة، لا سيما في ظل التفاهمات الراهنة بين مصر وتركيا، ومحاولة توظيف هذه التفاهمات في تسوية الأزمة الليبية. ويضاف لذلك المشاورات التركية – الإيطالية الأخيرة، حيث قام وزير الخارجية الإيطالي، أنطونيو تاياني، بزيارة إلى تركيا، في 13 يناير 2023، وبحث مع نظيره التركي، مولود جاويش أوغلو، الملف الليبي ومساراته المحتملة. ولوح تاياني بأن بلاده تدعم التفاهمات الراهنة بين القاهرة وأنقرة والتي يمكن أن تدفع نحو تسوية للأزمة الليبية.
2- صفقة إقليمية محتملة: يتوقع أن يشهد الملف الليبي خلال الفترة المقبلة تحولات كبيرة، في ظل التوافقات الأخيرة بين رئيسي مجلسي النواب والدولة الليبيين في القاهرة، والاجتماع المرتقب بينهما برعاية أممية في إحدى المدن الليبية، والذي يرجح أن يشهد الإعلان عن ملامح خريطة الطريق الجديدة والوثيقة الدستورية التي ستحكم الانتخابات المقبلة. وفي هذا السياق، استضافت مصر، في 14 يناير 2023، جولة جديدة من المشاورات، ضمت حفتر، ورئيس البرلمان، عقيلة صالح، ورئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي.
وفي هذا السياق، قد تشهد الفترة المقبلة تعزيز دور المجلس الرئاسي الليبي في الترتيبات الجديدة التي يجري التحضير لها، وهو ما يتسق مع اللقاء الثلاثي الذي استضافته القاهرة مؤخراً، بحضور حفتر وصالح والمنفي، وهو ما يؤشر على عقد اجتماع للمجالس الثلاثة، النواب والدولة والرئاسي، برعاية أممية، للإعلان عن خريطة طريق جديدة، ويبدو أن قوى دولية وأممية عمدت إلى ضمان وجود المجلس الرئاسي في الترتيبات الجديدة ليشكل طرف التوازن.
في المقابل، هناك تقديرات أخرى اعتبرت أن زيارة بيرنز إلى ليبيا ولقاءاته مع حفتر والدبيبة ربما تعكس دعماً ضمنياً من قبل واشنطن للمساعي الجارية لعقد صفقة مشتركة بين الرجلين ربما تؤول إلى حلحلة الأزمة، وضمان بقاء الدبيبة في المشهد، شريطة أن يتوازى ذلك مع دعم المسار الدستوري والتحضير لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال فترة زمنية محددة، ربما لا تتجاوز نهاية العام الجاري.
3- احتمالية تشكيل قوة مشتركة: رجحت تقديرات أن تفضي زيارة بيرنز إلى ليبيا إلى تشكيل قوة عسكرية مشتركة من قبل الجيش الوطني الليبي والقوات التابعة للدبيبة، لتأمين المنشآت النفطية، وربما تدعم هذه الفرضية التقارير التي أشارت إلى أن بيرنز عمد إلى توجيه طلب إلى حفتر بضرورة التعاون مع حكومة الدبيبة، لا سيما فيما يتعلق بتأمين حقول النفط في شرق وجنوب البلاد، بالتزامن مع استئناف اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة "5+5"، حيث أشارت بعض التقديرات غير المؤكدة إلى أن هذه الاجتماعات شهدت بحث مقترح تشكيل قوة عسكرية مشتركة، يفترض أن تكون تابعة للمجلس الرئاسي.
وفي الختام، يبدو أن الولايات المتحدة تسعى لتعزيز حضورها في الملف الليبي خلال الفترة المقبلة، وترتبط التحركات الأمريكية في ليبيا بمحددين رئيسيين، الأول، يتعلق بمساعي واشنطن لتحجيم النفوذ الروسي، فيما يرتبط المحدد الثاني بحرص واشنطن على المشاركة في الترتيبات الجديدة التي يجري التحضير لها للملف الليبي، وصياغة توافقات داخلية تضمن مصالحها بالدرجة الأولى.