• اخر تحديث : 2024-04-29 01:16
news-details
تقدير موقف

أبعاد التحركات الإيطالية المكثفة في منطقة المتوسط


شهدت الآونة الأخيرة كثافة في التحركات الإيطالية في منطقة المتوسط؛ حيث قامت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، خلال شهر يناير الفائت، بزيارة لكل من الجزائر وليبيا. وخلال زيارة الدولتين أجرت ميلوني مباحثات مع مسؤولي الدولتين حول عدد من الملفات، وعلى رأسها اكتشافات الغاز والطاقة في البحر المتوسط، وسبل التنسيق الثنائي في ملف الهجرة عبر المتوسط، وهي التحركات التي تدخل في إطار الاستراتيجية الإيطالية الجديدة تجاه البحر المتوسط، التي تم الإعلان عنها في أغسطس 2022، وتستهدف تعزيز العلاقات بين إيطاليا ودول المتوسط، وخاصة شمال أفريقيا، في المجالات المختلفة؛ سياسياً واقتصادياً وأمنياً.

تحركات متنامية

تبنت إيطاليا في الأشهر الأخيرة عدداً من التحركات التي استهدفت تعزيز نفوذها في منطقة المتوسط؛ وذلك على النحو التالي:

1- تكثيف الانفتاح الدبلوماسي على دول شمال أفريقيا: وتجلى ذلك من خلال الزيارات المكثفة من المسؤولين الإيطاليين لدول شمال أفريقيا؛ فقد أجرت رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني في شهر يناير الفائت، زيارة لكل من الجزائر وليبيا، وناقشت خلال هذه الزيارات عدداً من الملفات المهمة، مثل العلاقات الأمنية وملف الهجرة غير الشرعية وملف الطاقة.

وفي سياق متصل، أجرى وزير الخارجية الإيطالي أنطونيو تاياني زيارة إلى القاهرة، بالتزامن مع زيارة ميلوني إلى المنطقة في شهر يناير الفائت، وعقب مباحثات أجراها مع الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره المصري سامح شكري، أكد تاياني أن “مصر تعد شريكاً مهماً ورئيسياً لإيطاليا في منطقة البحر المتوسط”، مشيراً إلى أن “الزيارة جاءت في ضوء الأهمية التي توليها إيطاليا للحوار مع القاهرة حول عدد من الملفات، وعلى رأسها الهجرة ومكافحة الإرهاب والطاقة والأزمات الإقليمية كالأزمة الليبية”، كما أعلن وزير الخارجية الإيطالي أن إيطاليا تتوقع استيراد 3 مليارات متر مكعب من الغاز من مصر في عام 2023، وأكثر من 20 ملياراً من مضاعفة خط أنابيب صنبور في المستقبل.

2- التعبير عن مواقف منحازة لبعض أطراف الصراعات بالمنطقة: اللافت أن التحركات الإيطالية في منطقة شمال أفريقيا كشفت عن انحيازات روما لبعض أطراف الصراعات القائمة بالمنطقة، وعلى وجه التحديد الصراع الليبي؛ فمع زيارة ميلوني لطرابلس ولقائها رئيس حكومة الوحدة الليبية عبد الحميد الدبيبة، هاجمت الحكومة المكلفة من مجلس النواب الليبي برئاسة فتحي باشاغا، زيارة رئيسة وزراء إيطاليا، وذكر بيان صادر عن الحكومة أن “هناك صفقة غامضة بين المؤسسة الوطنية للنفط وشركة إيني الإيطالية تقضي بزيادة حصة الشركة وتقليص حصة ليبيا في شركة مليتة للنفط والغاز”، وأكد البيان أيضاً “رفض محاولة إحياء الحكومة الميتة من خلال إقحام قوت الليبيين في مثل هذه الصفقات”. وانتقد البيان ما سماه "السلوك الانتهازي للحكومة الإيطالية الذي يتجاوز المصالح الليبية العليا ويغامر بالعلاقة الطيبة بين البلدين، خاصة بعد رفض وزراء الخارجية العرب إعادة شرعنة هذه الحكومة بعدم حضور اجتماع مجلس الجامعة العربية قبل يومين في طرابلس".

3- الاعتماد على البعد الاقتصادي في تعزيز النفوذ: تعتمد روما في تحركاتها بمنطقة المتوسط على الأدوات الاقتصادية، وتوقيع اتفاقيات مع دول المنطقة، أو ما يمكن أن نطلق عليه دبلوماسية الطاقة. وفي هذا الصدد، وقعت رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في العاصمة الليبية طرابلس، صفقة “تاريخية” تقدر بثمانية مليارات دولار لتطوير قطاع الغاز والطاقة الشمسية، ومشاريع لالتقاط الكربون بهدف تعزيز إمدادات الطاقة إلى أوروبا. وتشمل الصفقة إنتاج ما يصل إلى 850 مليون قدم مكعب يومياً من الغاز البحري من البحر المتوسط.

وخلال توقيع الاتفاق، قال رئيس المؤسسة الوطنية الليبية للنفط فرحات بن قدارة، والرئيس التنفيذي لشركة إيني الإيطالية كلاوديو ديسكالسي إنه سيجري ضخ استثمارات بقيمة ثمانية مليارات دولار في تطوير قطاع الغاز، وكذلك في الطاقة الشمسية ومشاريع لالتقاط الكربون. وقال بن قدارة إن اتفاق الغاز، الذي تبلغ مدته 25 عاماً، سيؤدي إلى إنتاج يصل إلى 800 مليون قدم مكعب يومياً، واصفاً إياه بأنه أهم استثمار جديد في قطاع الطاقة الليبي خلال ربع قرن.

4- تعزيز الحضور العسكري في البحر المتوسط: أعلن الجيش الإيطالي في أغسطس 2022، عن إطلاق استراتيجية جديدة في منطقة البحر المتوسط، تحت اسم عملية “البحر الأبيض المتوسط الآمن”، كامتداد لعملية سابقة أطلقها في مارس 2015 تحت مسمى “البحر الآمن”. وتضمنت الاستراتيجية الجديدة بنوداً متعلقة بتوسيع عملية المراقبة البحرية على المستويات الاستراتيجية والتشغيلية والتكتيكية من قبل الجيش الإيطالي، وتوسيع منطقة العمليات لتصل إلى مليوني كيلومتر مربع، بدلاً من 160 ألف كيلومتر مربع لتشمل معظم المساحات البحرية الدولية لحوض البحر المتوسط، ونشر تشكيل عسكري بحري يشمل نحو 6 سفن وغواصات حربية، بدعم من الطائرات العضوية للوحدات البحرية وطائرات البحرية والقوات الجوية البرية. وتتكامل هذه الاستراتيجية الجديدة مع الدعم الإيطالي لعملية “إيريني” الأوروبية البحرية في البحر المتوسط، التي تشارك فيها 24 دولة أوروبية.

أهداف رئيسية

ترتبط التحركات الإيطالية المكثفة تجاه منطقة المتوسط وشمال أفريقيا في الآونة الأخيرة، بعدد من الأهداف الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1- الحفاظ على المكانة والنفوذ الإقليمي لروما: لا تنفصل التحركات الإيطالية في منطقة المتوسط وشمال أفريقيا عن محاولات روما إثبات نفوذها في المنطقة، وإرسال رسالة إلى القوى الأخرى أنها طرف مهم له مصالحه في المنطقة ولا يمكن التنازل عنها. ويعزز من ذلك الرؤية الإيطالية لبعض الملفات في المنطقة، على غرار الملف الليبي؛ إذ تعتبر روما ليبيا امتداداً حيويّاً لها وبوابتها الجنوبية، بخلاف توفير إمدادات النفط والغاز منها، ودخلت في خلافات مع فرنسا في هذا الملف؛ ما جعلها أقرب إلى تركيا من باريس. والآن تحاول إيطاليا التنسيق مع فرنسا بشأن ليبيا بجانب ملفات أخرى، سواء في تونس أو الجزائر مع خلق شراكات قوية مع مصر وقبرص واليونان وإسرائيل؛ حيث تسعى روما لتقديم نفسها كقوة مؤثرة في الاتحاد الأوروبي، وخاصة بجنوب المتوسط، بعد خروج المملكة المتحدة من التكتل الأوروبي.

2- تأمين إمدادات الطاقة من دول شمال أفريقيا: وهو الأمر الذي تزايدت أهميته بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، وتضرر قطاع الطاقة في أوروبا نتيجة لوقف موسكو إمدادات الغاز لدول المنطقة. وفي هذا الإطار، تعمل روما على تأمين حصة من إمدادات الغاز من المنطقة، وظهر ذلك في الصفقة التي وقعتها رئيسة وزراء إيطاليا أثناء زيارتها الأخيرة إلى ليبيا وتضمنت إنتاج نحو 850 مليون قدم مكعب يومياً من الغاز البحري من البحر المتوسط. وتجدر الإشارة هنا إلى أن إيطاليا تسيطر على إمدادات غاز جنوب المتوسط القادمة من دول شمال أفريقيا مثل خط الأنابيب القادم من ليبيا وترانسميد القادم من الجزائر عبر تونس، والآن تعمل على الشراكة في خط “إيست ميد” لنقل الغاز الذي سيشمل دول شرق المتوسط وتحديداً مصر وقبرص واليونان وإسرائيل، كما ترغب في أن تكون بوابة أوروبا لنقل غاز المتوسط إليها لحل أزمة الطاقة.

3- فتح سوق جديدة أمام الأسلحة الإيطالية: تعمل روما أيضاً على زيادة حصتها في واردات الأسلحة بدول المنطقة، ومن ثم تعزيز مبيعات السلاح الإيطالي إليها. وفي هذا الصدد، أشارت تقارير إلى اعتزام الحكومة الإيطالية الموافقة قريباً على صفقة عسكرية ضخمة معها تتضمن فرقاطات من طراز فريم بيرجاميني و20 لنش صواريخ و24 مقاتلة من طراز يوروفايتر تايفون، و24 طائرة إيرماكي إم-346 للقتال الخفيف وقمر استطلاع في صفقة تبلغ أكثر من 10 مليارات يورو.

4- توسيع المبادلات التجارية مع دول المنطقة: تستهدف روما أيضاً خدمة مصالحها الاقتصادية في المنطقة عبر توسيع المبادلات التجارية مع دول شمال أفريقيا. وتعتبر العلاقات مع الجزائر نموذجاً مهماً في هذا السياق؛ إذ أعلن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أن المبادلات التجارية مع إيطاليا ارتفعت من 8 مليارات دولار إلى 16 مليار دولار في الفترة بين 2021 و2022.

5مواجهة تدفقات الهجرة غير النظامية: صحيح أن قضية الهجرة غير النظامية طرحت نفسها بوصفها إحدى القضايا الجوهرية للحكومات الإيطالية المتعاقبة، بيد أنها تشكل قضية محورية بالنسبة لحكومة ميلوني، وربما تأتي على رأس أولويات الحكومة، وخصوصاً أنها تستحوذ على اهتمام مركزي بالنسبة لتيار اليمين المتطرف الإيطالي الذي تعبر عنه “ميلوني” وحزبها؛ لذا تعمل حكومة ميلوني على تعميق علاقاتها مع دول شمال أفريقيا من أجل منع تدفقات الهجرة إلى الأراضي الإيطالية.

وفي هذا الإطار، ركزت مباحثات رئيسة الوزراء الإيطالية ورئيس حكومة الوحدة الليبية، على ملف الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط. وصرح الدبيبة بأن إيطاليا ستدعم ليبيا من خلال توفير سفن جديدة للبحث والإنقاذ. وتعتبر هذه القضية مهمة في مسار العلاقات الثنائية بين ليبيا وإيطاليا، وخاصة أن تدهور الأمن وانعدام القانون تسبب في جعل ليبيا طريقاً رئيسياً، ولكن خطيراً، للمهاجرين الساعين للوصول إلى أوروبا، عبر جزيرة لامبيدوسا الإيطالية في كثير من الأحيان. ويلقى مئات المهاجرين حتفهم كل عام في أثناء محاولتهم القيام بتلك الرحلة، وهي الاعتبارات التي تعزز من الحاجة إلى وجود تنسيق على مستوى أكبر بين البلدين في هذا الملف.

في الختام، يمكن القول إن التحركات الإيطالية المتنامية في منطقة البحر المتوسط تستهدف بشكل رئيسي تأمين المصالح الاقتصادية لروما، ومواجهة المعضلات الأمنية التي تواجه إيطاليا، كقضايا الإرهاب والهجرة غير النظامية، فضلاً عن الرغبة في تعزيز النفوذ في مواجهة بعض الخصوم والمنافسين الدوليين وعلى رأسهم روسيا، إلا أن هذه التحركات، مع الإقرار بفاعليتها بشكل نسبي، تواجه عدداً من التحديات وعلى رأسها حالة التنافس الدولي في المنطقة، وبعض التباينات النسبية مع بعض الشركاء كفرنسا، وكذا التهديدات الأمنية المرتبطة بحالة عدم الاستقرار في بعض الدول كليبيا.