• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27

لم تقتصر تداعيات الزلزال المدمر الذي بلغت قوته 7.8 درجة على مقياس ريختر وضرب تركيا إلى جانب سوريا في 6 فبراير الجاري (2023)، على الجانب الإنساني، المتمثل في مقتل ما يزيد على 28 ألف شخص، وإصابة عشرات الآلاف، وتشريد الملايين، وهي الأعداد التي تتزايد يوماً بعد يوم، بل امتدت هذه التداعيات لتشمل الجانب السياسي.

إذ أن ردود الفعل السياسية التي صاحبت الحادث الأليم، تُنذر بشكل واضح بأن هذا الزلزال سيكون متبوعاً بإرهاصات معركة سياسية جديدة بين النظام التركي والمعارضة، في ضوء السعي الواضح من قبل كل طرف لتوظيف الحادث بما يخدم حساباته السياسية، لا سيما مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي سوف تجري في 14 مايو القادم.

تجاذبات سياسية في أعقاب الزلزال

أجمعت كافة الدوائر السياسية التركية على أن الزلزال الذي ضرب مناطق أضنة، وأدي يمان، وديار بكر، وغازي عنتاب، وهطاي، وقهرمان مرعش، وكيليس، وملاطية، وعثمانية، وشانلي أورفة، يعد الكارثة الأكبر بالنسبة لتركيا منذ عقود. وعلى الرغم من أن الاعتبارات الموضوعية والإنسانية تُشير إلى أن مثل هذه الأحداث المأساوية تدفع باتجاه تعزيز أطر الوحدة الوطنية وإعلاء مفاهيم التضامن في مواجهة تداعياتها، إلا أن طريقة تعاطي السلطات التركية مع الحادث وتداعياته، مثلت محور خلاف بين الاتجاهات السياسية بالبلاد، وفرصة بالنسبة لبعض الاتجاهات للتخديم على رؤيتها السياسية، ويمكن تناول أبرز مظاهر هذه التجاذبات السياسية، وذلك على النحو التالي:

1- هجوم الرئيس التركي على أحزاب المعارضة: هاجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مؤتمر صحفي عقده في ولاية ديار بكر، جنوب تركيا، في 11 فبراير الجاري، بعض الأحزاب والقوى السياسية في البلاد على خلفية كارثة الزلزال، وقال الرئيس التركي إن "بعض الأحزاب والقوى السياسية للأسف يتصيدون في المياه العكرة ولا يتحلون بروح الوحدة" وفق تعبيره، مؤكداً على أن "الشعب التركي معروف بقدرته على تجاوز أصعب الظروف"، وأن "تركيا ستتجاوز هذه المأساة".

 ويبدو أن السلطات التركية أدركت أن المعارضة ستسعى إلى توظيف هذا الحادث وما أُثير بخصوص بطء الاستجابة له، ومن هنا قامت السلطات بحجب موقع تويتر لبضع ساعات بالتزامن مع زيارة أردوغان للمناطق المنكوبة، وبررت الحكومة هذه الخطوة بأن بعض الجهات "تنشر من خلال تويتر معلومات مضللة".

2- إقرار رسمي ببطء الاستجابة للزلزال: في خطاب متلفز بثه التلفزيون الرسمي التركي، أكد الرئيس التركي أردوغان أن المناطق المتضررة من الزلزال تمتد إلى نحو 500 كيلومتر، الأمر الذي يصعب إيصال المساعدات إليها جميعاً، مشيراً الى أن "الاستجابة للزلزال لم تكن بالسرعة التي نريدها" وفق تعبيره.

 وفي سياق متصل ذكر أردوغان أن من سماهم "ضعاف النفوس" استغلوا الحادث من أجل تنفيذ عمليات "سرقة ونهب" للسلع من المحلات التجارية، متوعداً بأن السلطات ستكون "أكثر عنفاً" مع مرتكبي هذه الأفعال وستعاقبهم بأشد الطرق، مشيراً إلى أن هذه الأحداث دفعت السلطات لإعلان حالة الطوارئ، وقال الرئيس التركي: "أعلنا حالة الطوارئ، وهذا يعني أنه يتعين من الآن فصاعداً على المتورطين في النهب أو الخطف أن يعلموا أن قبضة الدولة القوية تتربص بهم" وفق تعبيره.

وأشارت بعض التقارير إلى أن البدء في عملية الاستجابة لتداعيات الزلزال المدمر، استغرقت وقتاً طويلاً، إذ أن الساعات الأولى من الأزمة شهدت إصابة العديد من الطرق في تركيا لأضرار بالغة، مما أدى إلى صعوبة بالغة واجهت فرق البحث والإنقاذ في الوصول إلى المواقع المتأثرة ليصل بعضهم في اليوم الثاني والثالث إلى تلك الوجهات.

3- توعد "مستغلي" الزلزال بالمحاسبة: تعهد سليمان صويلو وزير الداخلية التركي بمحاسبة كل من يستغل كارثة الزلزال المدمر، وقال صويلو في خطاب له: "سنحاسب كل من يستغل كارثة الزلزال في النهب والسرقة ونشر الشائعات"، مضيفاً أن "هناك بعض الفئات التي تتعمد نشر المعلومات المضللة، ومنع اتحاد الأمة" وفق تعبيره، وهي تصريحات قرأتها بعض الدوائر على أنها تعبر عن رسائل تحذيرية من السلطة الأمنية التركية للمعارضة، من توظيف الزلزال من أجل توجيه الانتقادات للحكومة والحزب الحاكم.

4- اتهام المعارضة للحكومة بالفشل: يبدو أن المعارضة التركية سعت من جانبها إلى توظيف ورقة الزلزال كأحد أدوات الضغط على حزب العدالة والتنمية والحكومة التركية، مستغلةً في ذلك إقرار الرئيس التركي نفسه بأن "سرعة الاستجابة لتداعيات الزلزال لم تكن بالشكل المطلوب".

وفي هذا السياق، اتهم كمال قلجدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض، الحكومة بالفشل في التعاون مع السلطات المحلية وإضعاف المنظمات غير الحكومية التي من شأنها المساعدة، وأضاف أوغلو في تصريحات صحفية: "إن كان ثمة أي شخص مسئول عن هذه العملية، فهو أردوغان. إنه الحزب الحاكم الذي لم يجعل الدولة مستعدة لزلزال منذ 20 عاماً" وفق تعبيره.

وفي سياق متصل، قال نصوح محروقي مؤسس مجموعة بحث وإنقاذ نشطت في الاستجابة لزلزال 1999 الذي تسبب في مقتل 17 ألف شخص، في تصريحات لرويترز إن "الجيش التركي لم يتصرف في وقت سريع كفاية لأن حكومة أردوغان أبطلت بروتوكولاً يمكنه من الاستجابة بلا توجيهات"، في إشارة ضمنية إلى تحميل السلطات التركية مسئولية بطء الاستجابة لتداعيات الزلزال.

حدود تأثير الزلزال على المشهد السياسي التركي

تربط بعض الدوائر في محاولتها الوقوف على التداعيات المحتملة للزلزال الأخير الذي ضرب تركيا، بين هذا الحادث وزلزال 1999 حين تعرضت البلاد لزلزال مشابه، أودى بحياة آلاف الأشخاص، حيث كان هذا الزلزال سبباً في تصاعد حالة السخط تجاه الحزب الحاكم آنذاك، وكان كذلك أحد أسباب فوز حزب العدالة والتنمية بثقة الشارع التركي في أول انتخابات يخوضها عام 2002، وتشكيله الحكومة التركية الـ 58 منفرداً بقيادة عبد الله غول. ويمكن إجمال أبرز الارتدادات المحتملة للزلزال على المشهد السياسي التركي، وذلك على النحو التالي:

1- أداة انتخابية جديدة للمعارضة: سوف تسعى المعارضة التركية إلى توظيف ملف التعامل الحكومي مع الزلزال كأحد الأدوات الانتخابية الرئيسية بالنسبة لها، خصوصاً وأن المناطق المنكوبة في الجنوب التركي (تضم عشر محافظات) هي من مراكز الثقل الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، وسوف تركز المعارضة التركية في هذا الصدد على سرعة الاستجابة من عدمها والإعداد المسبق للتعامل مع مثل تلك الكوارث، فضلاً عن احتمالية إثارة المعارضة لتساؤلات حول طريقة التعامل مع الأموال الطائلة التي جمعت بموجب "ضرائب تضامنية ضد الزلازل" فُرضت منذ زلزال عام 1999، وهي الأموال التي جُمعت من أجل جعل المباني التركية أكثر مقاومة للزلازل، وكانت الحكومة قد فرضت زيادة على هذه الضريبة نسبتها 10% منذ عامين، لكنها لم توضح حتى الآن الأوجه التي أُنفقت فيها تلك الأموال.

وسوف تستغل المعارضة أيضاً ما أشار إليه بعض المسئولين عن التخطيط العمراني في تركيا، والذين أعربوا عن استيائهم من عدم اتباع قواعد البناء في مناطق الزلازل، حيث ركزت الحكومة على التصالح مع المخالفين لتلك القواعد، بما يسمح بالإبقاء على المخالفة وإلغائها مقابل دفع غرامة مالية. وأشار هؤلاء إلى أن تصالح الدولة مع المخالفين أدى إلى الإبقاء على ستة ملايين مبنى مخالف دون تغيير.

2- احتمالية المطالبة بإقالة بعض المسؤولين: بالإضافة إلى سعى المعارضة التركية لتوظيف الزلزال كأحد أدوات الحملة الانتخابية الخاصة بها، والتي ستنطلق في مايو المقبل، يُرجح أن تُطالب المعارضة وفي إطار استراتيجيتها للتعامل السياسي مع تبعات الزلزال، بإقالة بعض المسئولين، وعلى رأسهم وزير الداخلية التركي، الذي أكد في تصريحات سابقة في مارس 2022، أن عام 2022 سيكون عاماً التدريب على الكوارث، ووجه تحذيراته في ذلك الوقت من زلزال محتمل في اسطنبول والولايات المجاورة قائلاً: "هذا ليس سراً؛ لدينا توقعات بحدوث زلزال كبير" ، فضلاً عن أن تركيا شهدت في السنوات الأخيرة العديد من الهزات الأرضية وهي اعتبارات كانت تستدعي الاستعداد الجيد لمثل هذا الحادث، وبالتالي يُحتمل أن تطالب المعارضة بالإطاحة ببعض المسئولين من منطلق المسئولية السياسية الملقاة على عاتقهم.

3- زيادة تأزم الاقتصاد التركي: وفقاً للتقديرات الأخيرة لوزارة البيئة والتطوير العمراني التركية، فإن الزلزال الأخير أثر على حياة 13 مليوناً و500 ألف شخص، فضلاً عن أن الزلزال سبب أزمات كبيرة في المناطق المنكوبة، خصوصاً على مستوى تهجير الملايين، وتدمير البنية التحتية الخاصة بهذه المناطق، ورداً على هذه التداعيات بدأت الحكومة التركية في بناء عشرات آلاف الخيام لإيواء المنكوبين، بالتزامن مع البدء في بناء مساكن أخرى في مناطق الكارثة، والتعاقد مع فنادق في ولايات أنطاليا ومرسين وألانيا، من أجل استضافة المتضررين الذين فقدوا منازلهم جراء الزلزال.

كذلك أعلن الرئيس التركي عن منح كل عائلة متضررة من الزلزال، مبلغ 10 آلاف ليرة تركية، وهي أمور تزيد من الأعباء الملقاة على ميزانية الدولة التركية، والتي تعاني من أزمات عديدة بالأساس

وقد أشارت بعض التقديرات إلى أن هذه الكارثة الإنسانية سوف تفرض تداعيات سلبية كبيرة على الاقتصاد التركي، خصوصاً وأنها تؤثر بالسلب على أسواق الطاقة والمال، ناهيك عن تراجع مؤشرات البورصة فى اسطنبول، فضلاً عن أن التأكيدات على احتمالية تكرر مثل هذا الحادث، يدفع باتجاه خسائر كبيرة على مستوى الاستثمار الأجنبي في البلاد، إذ أنه يقلص من حضور المستثمرين الأجانب، وهي اعتبارات ستؤدي في مجملها إلى تراجع كبير في شعبية الحزب الحاكم في تركيا.

4- تنامي القبضة الأمنية في الداخل التركي: تعكس تصريحات الرئيس أردوغان، ووزير داخليته سليمان صويلو، في أعقاب الزلزال، أن السلطات التركية سوف تتوجه في الفترة المقبلة لتبني نهج أمني أكثر شدة، فيما يتعلق بالتعامل مع الاتجاهات الرافضة والمنتقدة للأداء الحكومي في مواجهة الزلزال، وذلك في مسعى من حزب العدالة والتنمية لغلق الباب أمام توظيف الحدث سياسياً من قبل المعارضة على وجه الخصوص.

5- هدوء نسبي في الوضع الأمني: يبدو أن الوضع الأمني في تركيا في أعقاب الزلزال المدمر، يتجه نحو "الهدوء النسبي" على المدى القريب، وقد برزت بعض المؤشرات التي تدعم هذه الفرضية، حيث أعلن حزب العمال الكردستاني عن هدنة مؤقتة في تركيا إثر الزلزال، ونقلت وكالة أنباء فرات المقربة من الحزب الذي تعتبره أنقرة منظمة إرهابية، عن المسئول العسكري جميل بايق قوله إن الحزب قرر وقف عملياته في تركيا، وقال بايق: "قررنا عدم تنفيذ أي عملية طالما لم تهاجمنا الدولة التركية" وفق تعبيره.

في الختام، يمكن القول إن طريقة التعاطي مع الزلزال المدمر الذي شهدته تركيا، من قبل الفاعلين السياسيين المختلفين، خضعت لمواقف وحسابات كل طرف سياسياً، فالرئيس التركي حاول إظهار المعارضة على أنها "قوى انتهازية تسعى لتوظيف الأزمات الإنسانية"، والمعارضة حاولت توظيف الحدث كأحد أدوات الحشد الانتخابي. لكن طبيعة تأثيرات الزلزال الأخير على المشهد السياسي التركي، سوف تتوقف على بعض المحددات الرئيسية وعلى رأسها مدى قدرة حزب العدالة والتنمية في تبني سياسات وإجراءات عاجلة تحد من تداعياته الكارثية، خصوصاً مع حالة التضامن والدعم الدولي الكبيرة لتركيا إثر الحادث.