بعد مرور نحو عام على الحرب الروسية–الأوكرانية، برزت أفغانستان لاعباً جديداً في مسرح المعركة؛ إذ أوضحت عدة مصادر عسكرية أن أعضاء من فيلق الكوماندوز للجيش الوطني الأفغاني، الذين تخلت عنهم الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون عندما سقطت البلاد في أيدي حركة طالبان في أغسطس 2021، يتم الاتصال بهم من أجل الانضمام إلى مجموعة فاجنر للمشاركة في القتال في أوكرانيا. ويأتي ذلك بعدما أنفقت الولايات المتحدة ما يقرب من 90 مليار دولار لبناء قوات الدفاع والأمن الوطنية الأفغانية، لا سيما أن قوة المشاة الخفيفة التي دربتها الولايات المتحدة يمكن أن تحدث الفرق الذي تحتاجه روسيا في ساحة المعركة الأوكرانية. ومما لا شك فيه أن سماح حركة طالبان بهذه الاتصالات المتبادلة له مجموعة من الدلالات والأبعاد بغية تحقيق المكاسب المنشودة من وراء هذه التحركات.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن أفغانستان لم تكن بعيدة عن مشهد الصراع في أوكرانيا؛ حيث إنها تشتبك مع الصراع عبر مستويين رئيسيين؛ أحدهما متعلق ببحث أطراف الصراع عن عناصر بشرية إضافية تساعد في العمليات القتالية. أما المستوى الآخر، فيتعلق بحسابات حركة طالبان ونافذة الفرص التي سمحت بها الحرب بالنسبة للحركة.
أبعاد الدور
خلال الشهور الماضية، تصاعد الحديث عن إمكانية انخراط عسكري أفغاني غير مباشر، في الصراع الأوكراني، وهو الأمر الذي ارتبط بعدد من الأبعاد الرئيسية المتمثلة في:
1– الاتهامات المتبادلة بتجنيد عناصر مسلحة: تبادل طرفا الصراع في أوكرانيا الاتهامات بتجنيد عناصر أفغانية للمشاركة في العمليات القتالية. صحيح أن روسيا تلقت أغلب الاتهامات بتجنيد عناصر أفغانية في صفوف مجموعة فاجنر، بيد أنه في المقابل أطلقت موسكو اتهامات لأوكرانيا وبعض الدول الغربية بالدفع ببعض المقاتلين الأفغان في الصراع، ولعل هذا ما دللت عليه تصريحات مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى أفغانستان ضمير كابولوف، في شهر أغسطس الماضي، حينما ذكر أن “حركة طالبان ضمنت أنها ستعمل ما بوسعها لمنع نقل مقاتلي المنظمات الإرهابية، بما فيها تنظيم الدولة، إلى أوكرانيا”. وجاءت هذه التصريحات في إطار رده على سؤال صحفي حول إذا ما كانت روسيا على اتصال بطالبان، بعد تقارير عن قيام دولة ثالثة بتجنيد مقاتلين في أفغانستان لإرسالهم إلى أوكرانيا.
تكررت هذه الاتهامات الروسية، في شهر فبراير الجاري، وإن لم يتم ذكر المقاتلين الأفغان بالاسم؛ حيث ذكر جهاز الاستخبارات الخارجية الروسي، وفقاً لوكالة سبوتنيك يوم 13 فبراير الجاري، أن "الولايات المتحدة تعمل بنشاط على تجنيد إرهابيين مرتبطين بكل من داعش والقاعدة؛ لشن هجمات إرهابية في روسيا، ورابطة الدول الروسية المستقلة الأخرى".
2– احتمالية توظيف مشاعر الإحباط واليأس: قد تكون مشاعر الإحباط مدخلاً مهماً لتوظيف بعض جنود الجيش الأفغاني السابق في الصراع الأوكراني؛ فبحسب العديد من التقارير الغربية، قد يقبل هؤلاء الجنود الأفغاني الموافقة على العروض الروسية المقدمة لهم، على خلفية شعورهم بالإحباط واليأس؛ إذ لا يزال العديد من الكوماندوز ينتظرون إعادة توطينهم في الولايات المتحدة أو بريطانيا؛ ما يجعلهم أهدافاً سهلة للتجنيد من قبل مجموعة فاجنر، خاصةً في ظل سعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى توسيع دائرة التجنيد في حربه المتعثرة.
وقد تسببت أنباء جهود التجنيد في إثارة القلق داخل الدوائر العسكرية والأمنية السابقة في أفغانستان؛ إذ إن الجنود الأفغان المستهدفين ليس لديهم بلد تحميهم، ولا وظائف مستقرة، ولا مستقبل معروف، ومن ثم ليس لديهم ما يخسرونه. وتذهب التقديرات إلى أن هناك نحو 2500 جندي أفغاني غادروا أفغانستان بنية الذهاب إلى روسيا. وبحسب بعض التقارير، فإن المقاتلين الأفغان يُعرَض على كل منهم 2500 دولار لمدة ستة أشهر من التدريب، و3000 دولار بمجرد ذهابه إلى أوكرانيا للقتال. وتتوافق هذه الأرقام تقريباً مع تقارير وشهادات أخرى حول حملة تجنيد فاجنر، التي تقول أيضاً إن القوات الخاصة الأفغانية وعائلاتهم عرضت عليهم ملاذاً آمناً و1500 دولار شهرياً من أجل الانتقال إلى روسيا والقتال في وقت لاحق في أوكرانيا.
3– بحث روسيا عن مصدر جديد للأسلحة: ربما تلجأ روسيا إلى المزيد من الدول لإعادة إمدادها بالمعدات العسكرية لمساندتها في حربها مع أوكرانيا؛ إذ تزعم عدة تقارير عسكرية أن موسكو تتطلع إلى شراء أسلحة أمريكية من حركة طالبان الأفغانية؛ فلقد أثبتت الحرب بشكل أساسي أنها ضربة مزدوجة لروسيا، باعتبار أنها لم تفقد عدداً هائلاً من المقاتلين والمواد فحسب، بل لم تتمكن من تصنيع أسلحة بمستويات ما قبل الحرب بسبب العقوبات المفروضة عليها.
ووفقاً لتقييم وزارة الدفاع الأمريكية، فإن المعدات التي خلَّفتها القوات الأمريكية أثناء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، تتكون من طائرات وصواريخ جو–أرض ومركبات عسكرية وأسلحة ومعدات اتصالات وإمدادات أخرى، فليس من المستبعد تحويل هذه المعدات المتطورة إلى موسكو إذا أبرمت صفقة مع طالبان، خاصةً في ظل عدم وجود دعم غربي لصيانة هذه الأسلحة، ومن ثم سيكون من الأسهل على طالبان أن تقرر إرسالها إلى موسكو.
4– توفير فرصة للهروب من قبضة حركة طالبان: تُركت القوات الخاصة الأفغانية التي يتراوح عددها بين 20 و30 ألف في مواجهة حركة طالبان؛ وذلك عندما انسحبت الولايات المتحدة من أفغانستان في أغسطس 2021؛ الأمر الذي دفع إلى إجلاء بضع مئات فقط من كبار ضباطهم، وفرَّ آلاف الجنود إلى الدول المجاورة بالمنطقة، فيما يختبئ العديد من الكوماندوز الذين بقوا في أفغانستان لتجنب القبض عليهم من قبل حركة طالبان وربما إعدامهم، ومن ثم قد تكون الحرب الأوكرانية فرصة لهذه العناصر من أجل الابتعاد عن حركة طالبان؛ فبحسب بعض التقديرات، هناك ما لا يقل عن 10 آلاف من الكوماندوز السابقين على أتم استعداد للخضوع للعروض الروسية؛ وذلك بعدما كانوا يحاربون بجانب الولايات المتحدة ضد حركة طالبان على مدار نحو 20 عاماً.
5– استخدام إيران في عملية تدريب المقاتلين الأفغان: كشف العديد من أفراد الأمن الأفغان السابقين أن طهران تجند جنوداً أفغان سابقين في إيران لنشرهم ضد أوكرانيا؛ حيث كان الكرملين قد منحهم الجنسية الروسية وحياة أفضل في روسيا مقابل الانضمام إلى القتال بجانب الجيش الروسي، وخاصةً أن موسكو تواجه نقصاً عددياً في الجنود المتمرسين في أوكرانيا، ومن ثم تطلعت للجوء إلى طهران من أجل مساعدتها في تدريب الجنود الأفغان بالاشتراك مع مجموعة فاجنر.
مكاسب أفغانية
بموازاة هذا الاشتباك العسكري مع حرب أوكرانيا من قبل مقاتلين أفغان، فإن ثمة بعداً آخر للاشتباك الأفغاني يتمثل في الفرص التي أتاحتها الحرب لحركة طالبان؛ فنتيجة لحالة عدم الاستقرار السياسي التي تعاني منها البلاد، تسعى حركة طالبان إلى استغلال فرصة الحرب الأوكرانية من أجل إظهار نفسها أمام المجتمع الدولي، واستغلال طموحات روسيا التي باتت تُزاحِم كلاً من الولايات المتحدة والصين على قيادة النظام الدولي. وهكذا تحاول طالبان تحقيق أكبر قدر من المكاسب من خلال هذه الحرب. ويمكن إيجاز أبرزها على النحو التالي:
1– اعتراف موسكو بحركة طالبان: لا تعترف موسكو – مثل بقية المجتمع الدولي – بحكومة طالبان، وتعتبرها رسمياً منظمة إرهابية؛ وذلك نتيجة ممارستها العنيفة المتعلقة بحقوق الإنسان والمخاوف المتعلقة بالإرهاب، بيد أنها قد انضمت إلى القائمة القصيرة للعواصم المستعدة للتعامل مع حركة طالبان، خاصةً أن روسيا تستضيف جلسات المشاورات المتعددة الأطراف بشأن عملية السلام الأفغانية، التي تُرتِّب أوضاع البلاد في فترة ما بعد الانسحاب الأمريكي المفاجئ منها؛ وذلك بمشاركة الصين والهند وإيران وجمهوريات آسيا الوسطى، ومن ثم أصبحت موسكو منفذاً يمكن من خلاله لطالبان الحصول على اعتراف من المجتمع الدولي؛ وذلك إذا توافقت مصالحهما المشتركة.
والجدير ذكره أن روسيا لا تزال تحتفظ بسفارة لها في كابول وممثل خاص لها في أفغانستان، وقد سبق أن أوضح الرئيس الروسي أن بلاده قد تتخذ خطوات نحو إزالة حركة طالبان من قائمتها للإرهاب، وأوعز إلى وسائل الإعلام في البلاد بالتوقف عن تحديد الجماعة على هذا النحو، كما يقتضي القانون الروسي.
2– تنشيط حجم التبادل التجاري مع روسيا: بالرغم من محدودية العلاقات التجارية التي تجمع بين روسيا وأفغانستان؛ إذ وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى نحو 87 مليون دولار عام 2021، بعدما كان نحو 157 مليون دولار عام 2020، فإن البلدين يسعيان إلى تعزيز حجم التبادل التجاري بينهما؛ حيث أعلن وزير التجارة والصناعة في طالبان نور الدين عزيزي، أن بلاده ستحصل على مليون طن من البنزين، ومليون طن من وقود الديزل، و500 ألف طن من غاز البترول المسال، ومليوني طن من القمح سنوياً من روسيا، وفي المقابل ستحصل موسكو على السلع الزراعية، واحتمال وصولها المستقبلي إلى ثروة الموارد الطبيعية التي تتمتع بها أفغانستان؛ وذلك نتيجة الأوضاع المالية الحرجة التي تعاني منها، ومن ثم قد تكون السوق الروسية منفذاً للصادرات الأفغانية؛ إذ كان تصدير الفحم والرسوم الجمركية مصدراً رئيسياً لإيرادات طالبان.
3– إمكانية الهروب من العقوبات الغربية: دفع الهجوم الروسي على أوكرانيا العديد من الدول الغربية إلى فرض عقوبات على روسيا، بما في ذلك على صادراتها من النفط والغاز. وبالرغم من أن أفغانستان قد لا تكون مشترياً كبيراً للنفط والغاز الروسي، لكنها مع ذلك بلد يبدو أنه مهتم بهما. إضافة إلى ذلك، فإن الصفقات التجارية مع أفغانستان سوف تتجنب بشكل فعَّال مثل هذه الإجراءات العقابية؛ إذ ستستغل حكومة طالبان بأنها غير معترف بها عملياً من قبل أي دولة، ومن ثم ستُفلت من العقوبات، كما يمكن من خلالها تمرير السلع الروسية إلى بقية الأسواق العالمية. ومن ناحية أخرى يمكن توريد السلع من الأسواق العالمية إلى السوق الروسية؛ وذلك عبر الأراضي الأفغانية.
ومع ذلك، قد تواجه عمليات تسليم الوقود المستمرة من قبل روسيا عقبات أخرى؛ حيث إن كلا الجانبين بحاجة إلى إيجاد شركات مستعدة لتأمين الشحنات، وإنشاء آليات دفع وتسليم موثوقة، ودراسة مدى إمكانية الوقوع في خطر فرض عقوبات في المستقبل.
4– تعزيز التعاون الروسي الأفغاني المشترك: قال السفير الروسي في أفغانستان دميتري جيرنوف، إن روسيا وأفغانستان لديهما مجالات عديدة للتعاون المشترك، لكن أولويات السلطات والشركات المحلية في البلاد لا تزال موضع تساؤل. جاء ذلك التصريح عقب زيارة الممثل الرئاسي الخاص إلى أفغانستان زامير كابولوف، التي قام بها في شهر يناير الماضي، وأوضح هناك أن الحكومة المؤقتة لطالبان (المحظورة في روسيا) تقدر بشدة جهود روسيا لمساعدة الشعب الأفغاني في بناء دولة مسالمة ومستقلة، كما ناقش خلال الزيارة أيضاً العلاقات التجارية والثقافية والإنسانية الثنائية مع السلطات الأفغانية، لا سيما التعاون المتبادل في مجالات، مثل الطاقة والزراعة والنقل والبنية التحتية والصناعة والتعدين، وعلى وجه الخصوص تنظيم الشحنات التجارية المنتظمة للوقود الروسي والمنتجات الزراعية إلى الشركات الأفغانية. بالإضافة إلى ذلك، تدعم روسيا مشارَكة مشغليها الاقتصاديين في بناء وتشغيل خط أنابيب الغاز (تركمانستان – أفغانستان – باكستان – الهند).
وفي سياق متصل، صرح السفير الروسي في أفغانستان دميتري جيرنوف، يوم 10 فبراير الجاري، بأنه “قبل أيام قليلة فقط، تم التوقيع على مذكرة حول إنشاء محطة للطاقة الحرارية في شمال أفغانستان في كابول”، وأشار إلى أن “مصنعي الأنابيب الروس مستعدون للانضمام إلى بناء القسم الأفغاني من خط أنابيب الغاز تابي (TAPI)”.
5– إمكانية تخلص طالبان من العناصر المهددة: لا يمكن إغفال أن التقارير التي تتحدث عن تجنيد بعض المقاتلين الأفغانيين السابقين، الذين كانوا ضمن الجيش الأفغاني قبل أن تسيطر حركة طالبان على الحكم، تخدم مصالح طالبان من زاوية التخلص من هذه العناصر التي تشكل تهديداً أمنياً لها، وخصوصاً أن بعض التقارير تشير إلى أنه يوجد أعداد كبيرة من هؤلاء لا يزالون داخل أفغانستان. ولكن مع ذلك، تظل هذه الفرصة محفوفة بالمخاطر؛ لأن انخراط هؤلاء المقاتلين في صراعات دولية من طراز الصراع الأوكراني، قد يُكسِبهم خبرات إضافية تدفعهم إلى الرجوع إلى أفغانستان بعد انتهاء حرب أوكرانيا ومواجهة حركة طالبان.
6– توفير ورقة لمساومة القوى الغربية: ربما تُشكِّل الحرب الأوكرانية ورقة بالنسبة لحركة طالبان من أجل مُساوَمة القوى الغربية، وخصوصاً الولايات المتحدة، ودفعها إلى الاعتراف بها خوفاً من التقارب بين الحركة وموسكو؛ فخلال الشهور الماضية، عملت موسكو على تسريع تحركاتها تجاه حركة طالبان؛ فعلى سبيل المثال، استضافت موسكو، في شهر أغسطس الماضي، وفداً من الحركة عرض على موسكو شراء نحو مليون برميل من النفط في إطار صفقة مقايضة، كما تم الإعلان في شهر فبراير الجاري عن توقيع الطرفَين مذكرة حول قيام روسيا بإنشاء محطة للطاقة الحرارية في شمال أفغانستان في كابول. هذا التقارب بين روسيا وطالبان يفتح للأخيرة هيكل فرص جديدة لمساومة الدول الغربية التي باتت تدرك بمرور الوقت صعوبة الاستمرار في العزلة المفروضة على طالبان.
إجمالاً، يمكن القول إن ظهور حركة طالبان لاعباً جديداً في الحرب الأوكرانية، قد تنتج عنه منافع متبادلة بالنسبة إلى روسيا وأفغانستان؛ فمن ناحية قد تحصل الحركة على اعتراف دولي من جانب روسيا والدول الموالية لها، لا سيما تحقيق منافع اقتصادية عديدة في حالة إزالتها من قوائم روسيا للإرهاب وزيادة حجم التبادل التجاري بينهما، خاصةً في ظل حالة العزلة الدولية التي تعاني منها كابول عقب الانسحاب الأمريكي من البلاد في أغسطس 2021. ومن ناحية أخرى، يمكن أن تحدث القوات الأفغانية فارقاً لا بأس به في ساحة المعركة الأوكرانية لصالح القوات الروسية؛ وذلك بفضل المهارة العالية التي تتمتع بها هذه القوات، فضلاً عن توفير سوق جديدة للمنتجات الروسية، وهي السوق التي قد يتم استخدامها مستقبلاً من أجل وصول السلع الروسية إلى أسواق أخرى عديدة.