• اخر تحديث : 2024-05-03 21:39
news-details
تقدير موقف

أبعاد تصاعد التنافس الغربي–الروسي في السودان


تأتي زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى السودان ضمن جولته الأفريقية التي شملت مالي وموريتانيا في مطلع فبراير الجاري، لتتزامن مع عدة زيارات رسمية يقوم بها كل من المبعوث الأمريكي والفرنسي والنرويجي والبريطاني والألماني ومبعوث الاتحاد الأوروبي إلى السودان. وتأتي هذه الزيارات في مجملها في ظل مرحلة شديدة التوتر بين المكونين المدني والعسكري في المشهد السياسي الداخلي في السودان، امتدت منذ القرارات المعلنة من قِبل رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021؛ حيث أعادت تلك القرارات الأمور إلى مرحلة غياب الاستقرار المرتبطة بالإطاحة بالرئيس السوداني الأسبق عمر البشير في أبريل 2019. وتشكل هذه الزيارات تأكيداً لدخول السودان ضمن ساحة التنافس بين الغرب وروسيا من أجل كسب المزيد من التأثير والنفوذ في القارة الأفريقية في الفترة المقبلة.

السياقات الحاكمة

يمكن قراءة تنامي التنافس الغربي–الروسي في السودان في ضوء جملة من السياقات الحاكمة الرئيسية، وهي السياقات المتمثلة فيما يلي:

1. مواجهة التأثيرات المصاحبة للحرب الروسية–الأوكرانية: فقد شكلت الحرب الأوكرانية أحد محددات التدافع الغربي–الروسي على أفريقيا منذ بدايتها في 24 فبراير من العام المنصرم؛ إذ يسعى الجانب الروسي إلى كسر العزلة الدولية المفروضة عليه بفعل العقوبات الغربية عبر تعزيز شبكة العلاقات والتفاعلات الخارجية مع الدول الأفريقية لبناء تحالفات استراتيجية، ولا سيما في ضوء الموقف الأفريقي الذي كان أكثر ميلاً نحو الحياد في اتجاهه العام بشأن القرار الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة في الجلسة العامة في 2 مارس 2022، الذي طالب روسيا “بالسحب الفوري والكامل وغير المشروط لجميع قواتها العسكرية من أراضي أوكرانيا داخل حدودها المعترف بها دولياً”، والأمر ذاته تكرر بشأن قرار إخراج روسيا من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 7 أبريل 2022.

وفي المقابل، يسعى الغرب لتعويض النقص الحاد في إمدادات مصادر الطاقة الروسية عبر تعزيز الصلات مع دول القارة الأفريقية، التي تذخر بنحو (8%) من احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم؛ ففي عام 2021 بلغ إجمالي احتياطيات الغاز الطبيعي في أفريقيا ما يزيد عن (620) تريليون قدم مكعبة، كما تمتلك نحو (12%) من احتياطيات النفط في العالم؛ ففي عام 2021 قُدِّر احتياطي القارة من النفط الخام بنحو (125.3) مليار برميل.

2. توسيع دوائر التأثير الاستراتيجية في أفريقيا: بات ذلك جلياً في الآونة الأخيرة عبر المساعي المشتركة للغرب وروسيا لكسب دوائر تأثير جديدة في أفريقيا، ومنها السودان بطبيعة الحال، وهو ما تعزز بشكل ملحوظ منذ بِدء الحرب الروسية–الأوكرانية. ولعل هذا ما انعكس على كثافة الزيارات السياسية للمسؤولين السياسيين الرفيعي المستوى من الطرفين لأفريقيا. ومن مظاهر ذلك الجولة الأفريقية للمستشار الألماني أولاف شولتز إلى دول (السنغال، والنيجر، وجنوب أفريقيا) في مايو 2022، والجولة الأفريقية للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى دول (الكاميرون، وبنين، وغينيا بيساو) في يوليو من العام ذاته، فضلاً عن الجولة الأفريقية لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى ثلاث دول أفريقية (جنوب أفريقيا، والكونغو الديمقراطية، ورواندا) في أغسطس من العام ذاته. وقد تزامنت هذه الزيارات من المسؤولين الغربيين مع الجولة الأفريقية لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى دول (مصر، وإثيوبيا، وأوغندا، والكونغو).

3. سياسة موازنة النفوذ بين الخصوم في أفريقيا: والتي شكلت أحد أبرز محددات الصراع الغربي–الروسي على أفريقيا؛ حيث نجد أن الولايات المتحدة سعت لتعزيز الصلات مع أفريقيا لمناوأة الوجود الروسي–الصيني المتنامي خلال السنوات الأخيرة، ولا سيما بعدما شهد دورها في القارة قدراً كبيراً من التراجع في ظل إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي رفع شعار “أمريكا أولاً”. ولعل هذا ما جعل إدارة الرئيس الحالي بايدن تدشن استراتيجية جديدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء، وهي الاستراتيجية التي أعلن عنها وزير الخارجية الأمريكي خلال جولته الأفريقية في أغسطس 2022، التي هدفت إلى تحقيق أربعة أهداف رئيسية؛ هي: تشجيع الانفتاح والمجتمعات المفتوحة، وتوزيع مكتسبات الديمقراطية والأمن، ودعم التعافي من الوباء والفرص الاقتصادية، فضلاً عن دعم المحافظة على البيئة والتكيف مع المناخ والتحول العادل للطاقة، كما سعت الإدارة الأمريكية لتعزيز صلاتها بأفريقيا عبر عقد “القمة الأمريكية–الأفريقية” الثانية التي استضافتها العاصمة الأمريكية “واشنطن” في ديسمبر 2022.

وفي المقابل، تسعى روسيا لتعزيز نفوذها في أفريقيا عبر التركيز على تقديم نفسها كبديل استراتيجي مناسب للنفوذ الغربي – وتحديداً الفرنسي – الذي تراجع بشكل ملحوظ في العديد من مناطق النفوذ التقليدية، من قبيل مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد وغيرها، وتعتمد في ذلك على العديد من الأدوات الرئيسية، وعلى رأسها شركات الأمن الخاصة، وتحديداً مجموعة “فاجنر”، كما تسعى روسيا إلى عقد “القمة الروسية–الأفريقية” في نسختها الثانية في الفترة المقبلة في العواصم الأفريقية؛ وذلك بعدما عقدت النسخة الأولى في “منتجع سوتشي” في روسيا خلال أكتوبر 2019، التي كانت بمنزلة الإطار التنظيمي الأول من نوعه على المستوى المتعدد الأطراف الذي يربط روسيا بأفريقيا.

4. استمرار التأزم السياسي الداخلي في السودان: لا يمكن إغفال أن استمرار التأزم السياسي الداخلي يشكل محفزاً جوهرياً لحالة التنافس الدولي؛ إذ تنظر القوى الدولية إلى الأزمة الداخلية بين المكونين المدني والعسكري باعتبارها مدخلاً للانخراط في الشأن السوداني، كما أن القوى السياسية المختلفة في السودان تحاول الحصول على دعم خارجي يساعدها في تنافسها مع القوى الأخرى، ناهيك عن دور الدعم الخارجي في تخفيف الأزمة الاقتصادية في السودان. وفي هذا الصدد، يمكن فهم زيارة كل من المبعوثين الأمريكي والفرنسي والنرويجي والبريطاني والألماني، ومبعوث الاتحاد الأوروبي، يوم 8 فبراير الجاري، إلى السودان، وهي الزيارات التي استهدفت التقاء هؤلاء المبعوثين مع المكونات المدنية والسياسية لتقريب وجهات النظر ودفع عملية المسار السياسي لتحقيق الانتقال الديمقراطي.

المؤشرات الدالة

ثمة العديد من المؤشرات التي تنذر بتنامي حالة التنافس الغربي–الروسي في السودان خلال الفترة المقبلة، التي يتمثل أبرز مظاهرها فيما يلي:

1. دعم الوجود العسكري الاستراتيجي: تبلور ذلك بجلاء من خلال المساعي الروسية لإقامة قاعدة عسكرية بحرية بناءً على اتفاق جرى مع السودان في إطار زيارة قام بها الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير إلى روسيا في عام 2017، وهي الزيارة التي وقَّع في إطارها البلدان اتفاقيات تعاون في مجال التدريب العسكري وتبادل الخبرات ودخول السفن الحربية إلى موانئ الدولتين. وقد وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على إنشاء هذه القاعدة في 16 نوفمبر 2020، وبالفعل تم التوقيع على اتفاقية تعاون عسكري فني بين الجانبين تقضي بإنشاء قاعدة لوجستية بحرية روسية في “بورتسودان” على ساحل البحر الأحمر في ديسمبر 2020، لتعد بذلك المركز البحري الأول لروسيا في أفريقيا والثاني خارج الاتحاد السوفييتي (سابقاً).

وتبلغ مدة هذه الاتفاقية (25) عاماً، ويمكن تمديدها تلقائياً لمدة (10) سنوات أخرى إذا لم يعترض أي من الأطراف عليها، وتسمح لروسيا بإرساء أربع سفن بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية و(300) فرد كحد أقصى في الميناء، كما تمنحها حرية استخدام المطارات السودانية لنقل “الأسلحة والذخيرة والمعدات” اللازمة لدعم القاعدة، وتساعدها على فرض قدر من السيطرة على تدفق النفط الذي يمر عبر منطقة شمال شرق أفريقيا. وقد عارض الجانب الأمريكي بشكل صريح هذه الخطوة؛ حيث حذر السفير الأمريكي في السودان في أواخر سبتمبر 2022 من عواقب إنشاء قاعدة عسكرية روسية على ساحل البحر الأحمر، وأشار إلى أن هذه الخطوة ستعزل السودان عن المجتمع الدولي وتقوض مصالح الدولة.

كما يناوئ الغرب والولايات المتحدة دور مجموعة “فاجنر” الروسية في السودان، التي بدأ عملها في عهد الرئيس السوداني الأسبق عمر البشير، وتحديداً في عام 2017، عبر تقديم التدريب العسكري لعناصر المخابرات والقوات الخاصة والمجموعة شبه العسكرية المعروفة باسم “قوات الدعم السريع”. وقد فرضت الولايات المتحدة عقوبات مستمرة ضد هذه المجموعة منذ ذلك التاريخ، كما أصدر القائم بالأعمال الأمريكي وسفراء المملكة المتحدة والنرويج في “الخرطوم” بياناً شديد اللهجة ينتقد أنشطة مجموعة “فاجنر” في مارس 2022، وهو البيان الذي تم من خلاله توجيه اتهامات لها بالقيام بأنشطة غير مشروعة مرتبطة بتعدين الذهب، كما تم فرض قيود أمريكية جديدة لتقييد وصولها إلى التكنولوجيا والإمدادات في ديسمبر 2022؛ وذلك على خلفية دورها في إطار الحرب الروسية–الأوكرانية.

2. كسب النفوذ السياسي الداخلي:  تبلور ذلك بجلاء عبر المساعي الحثيثة للغرب وروسيا لكسب تأييد الأطراف السياسية الداخلية الفاعلة في السودان، ولا سيما منذ القرارات الجذرية التي أعلنها رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر 2021، المتمثلة في إعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء البلاد، وحل مجلس السيادة الانتقالي وإعفاء أعضائه، وحل مجلس الوزراء، وتشكيل حكومة كفاءات مستقلة جديدة (تكنوقراط)، وإنهاء تكليف حكام الولايات وإعفاء وكلاء الوزارات، وتكليف المديرين العامين بتسيير العمل، فضلاً عن تجميد عمل لجنة إزالة التمكين حتى تتم مراجعة أعمالها، وهو ما أحدث حالة كبيرة من الاضطرابات الداخلية في الدولة، وقد جاء الموقف الأمريكي والأوروبي رافضاً هذه القرارات بشكل تام؛ حيث وصف ما حدث في البداية بأنه استيلاء للعسكريين على السلطة، كما أوقفت الولايات المتحدة مساعدات للسودان بلغت قيمتها نحو (700) مليون دولار.

وفي سياق متصل أوقف البنك الدولي كافة تعاملاته مع السودان إلى أن تعود الأمور إلى المسار الديمقراطي. وفي المقابل جاء الموقف الروسي غير معترض أو متحفظ على هذه القرارات السابقة؛ حيث صرح نائب ممثل روسيا لدى الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي بأنه من الصعب القطع بأن ما حدث يشكل انقلاباً عسكرياً، وأشار إلى أن ما حدث في السودان قد يحدث في أماكن أخرى من العالم دون أن يطلق عليها "انقلاباً عسكرياً".

كما أرجع وزير الخارجية الروسي "لافروف" حالة عدم الاستقرار في السودان إلى الأعمال المزعزعة للاستقرار من قِبل القوى الغربية، التي أدت إلى تآكل وحدة أراضي البلاد وفرض الديمقراطية، وهو ما جعل النخبة السودانية الحاكمة تتحرك بتجاه كسب الدعم الروسي لكسر العزلة المفروضة عليها في هذه المرحلة؛ حيث قام نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو حميدتي بزيارة إلى روسيا في 23 فبراير 2022؛ وذلك من أجل تعزيز الصلات الثنائية على مختلف المستويات.

3. تعزيز قاعدة المصالح الاقتصادية المتبادلة: ثمة مساعٍ غربية وروسية لتعزيز قاعدة الاستفادة الاقتصادية من السودان؛ حيث تتحكم الدولة في صادرات النفط الواردة من جنوب السودان بشكل كامل تقريباً، ولعل ذلك ما شكل أحد دوافع روسيا لإقامة قاعدة عسكرية داخل الأراضي السودانية لتساعدها على فرض قدر من السيطرة على تدفق النفط الذي يمر عبر منطقة شمال شرق أفريقيا. وفي هذا السياق تمت مناقشة توسيع التعاون الثنائي في قطاع النفط؛ وذلك في إطار زيارة لوفد وزاري سوداني برئاسة وزير المعادن إلى روسيا في أغسطس 2022، بحيث يتجاوز تعزيز التنسيق مجال الإنتاج ليشمل النظر في تقنيات استخلاص النفط واستخدام الغاز المصاحب وتكرير النفط والبتروكيماويات والتدريب، كما تعد روسيا من أبرز الشركاء التجاريين للسودان خلال السنوات الأخيرة؛ إذ بلغت الصادرات الروسية إلى السودان نحو (306.2) مليون دولار في عام 2021، بينما بلغت وارداتها من السودان نحو (272) ألف دولار في العام ذاته.

ويسعى السودان لتأمين الحصول على القمح الروسي في ظل تنامي أزمات انعدام الأمن الغذائي في أفريقيا بعد الحرب الروسية–الأوكرانية. ومن أجل ذلك قام بدفع نحو (110) ملايين دولار خلال النصف الأول من عام 2022، وفي المقابل نجد أن الغرب قد سعى إلى تعزيز صلاته الاقتصادية بالسودان؛ حيث ألغت الولايات المتحدة – على سبيل المثال – عقوبات اقتصادية طويلة الأمد ضد السودان في عام 2017؛ وذلك لتمكين الأمريكيين بشكل عام من القيام بأعمال تجارية مع الأفراد والكيانات في السودان، كما اتخذت الإدارة الأمريكية بعض القرارات لتعزيز هذه الصلات الاقتصادية، وقد يكون على رأسها رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في 14 ديسمبر 2020، وهو ما انعكس على حجم الصادرات الأمريكية إلى السودان خلال السنوات الأخيرة، الذي ارتفع من نحو (95.9) مليون دولار في عام 2019 ليصل إلى نحو (201) مليون دولار في عام 2021.

4. البحث عن النفوذ في القرن الأفريقي: يمثل الوجود في السودان فرصة مهمة للقوى الدولية لتكريس نفوذها في منطقة القرن الأفريقي؛ إذ تشكل منطقة القرن الأفريقي موضع تنافس دولي كبير على النحو الذي يجعلها إحدى بؤر الاشتعال الدولية المحتملة، وهو أمر يتسق مع الأهمية الجيوسياسية للمنطقة ومكانتها بالنسبة لمسارات التجارة العالمية. ويمثل السودان مكوناً هاماً في منطقة القرن الأفريقي؛ فهو نقطة انطلاق للقرن الإفريقي، كما أنه يُطل على البحر الأحمر، وهو ما يعطي السودان ثقلاً استراتيجياً يعززه وجود مضيق باب المندب عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، وقناة السويس في الشمال، اللذين يمرُّ عبرهما ما يُقدَّر بنحو 700 مليار دولار، بحسب بعض التقارير، من التجارة الدولية؛ الأمر الذي يجعل السودان وثيق الارتباط بتفاعلات النظامين الإقليمي والدولي.

وختاماً، يمكن القول إن السودان سيشهد حالة من التنافس المحتمل على كسب النفوذ بين الغرب وروسيا، شأنه في ذلك شأن العديد من المناطق في أفريقيا. ويعزز من احتمالات ذلك السباق المحتدم بين الطرفين على تعزيز الوجود في أفريقيا على كافة المستويات منذ بداية الحرب الروسية–الأوكرانية من ناحية، واستمرار حالة عدم التوافق السياسي الداخلي بين المكونين العسكري والمدني من ناحية أخرى، وهو ما يفرض معه على السودان محاولة موازنة المصالح المتبادلة مع كلا الطرفين في هذه المرحلة بما يخدم منظومة الأهداف الذاتية السودانية، المرتبطة في الأساس بإيجاد حل سريع وفعال قائم على تبني صيغة سياسية داخلية متوازنة بين الأطراف الداخلية الفاعلة لتجاوز المرحلة الانتقالية.