• اخر تحديث : 2024-11-23 11:50

تضعنا اللحظة الراهنة وما تعكسه من تحولات دولية وإقليمية، أمام تحديات كبرى ذات تأثير عميق على مجتمعاتنا العربية. تحديات ترتبط ببنيتها ودرجة تماسكها بعد أن تعرضت تلك البنية إلى الكثير من معاول الهدم، الأمر الذي زاد من هشاشة القوى الاجتماعية وثقافاتها التقليدية وأضعفت آليات الضبط الاجتماعي، في نفس الوقت الذي لم تتطور المجتمعات بمؤسساتها وثقافتها لتتواكب مع ما فرضته الحداثة وما بعدها من سياقات ثقافية ومادية، لنكون أمام تحديات تتقاطع مع تلك التحديات التي تواجهها المجتمعات الغربية بما فرضته قيم الحداثة من ذاتية ومادية واختلالات مجتمعية وأفكار متشددة وشاذة تصل ببعض مفكريهم للحديث عن الموت البيولوجي والأخلاقي للحضارة الغربية.

وإذا ما أضفنا ما تطرحه الثورة التكنولوجية الرابعة من مخاوف إنسانية وقيمية وأفكار حول طبيعة علاقة الفرد بالوطن والدولة، لاتضح حجم التحدي الذي يفرضه هذا الواقع بكل تجلياته الإيجابية والسلبية على واقع العقل العربي ومجتمعاتنا وخصوصيتنا الثقافية ومستقبل منطقتنا.

العقل العربي والوعي بالذات

هناك العديد من زوايا الرؤية المطلوب الوقوف عندها وتأملها ودراسة حجم تطورها واتجاهها، وهى إشكاليات ليس من السهل حلها أو استمرار التعايش معها بدون رؤية لطبيعة الدولة والمجتمع وموقع المواطن فيهما؛ فالمعادلات والتوازنات القديمة لم تعد صالحة لمواجهة التحولات الاجتماعية والجيلية، وما سيفرضه الاستقطاب الثقافي (بين نموذجين غربي وآسيوي) وآلياتهما الضخمة الممثلة في التطور التكنولوجي والذكاء الصناعي من الاتجاه نحو مزيد من الاستلاب الثقافي والقيمي لأجيالنا الصاعدة، وبالتالي يبقى الحديث عن التماسك المجتمعي والعمق الحضاري والخصوصية الثقافية جميعها محل رهان يرتبط بالقدرة على التفاعل مع "جيل زد" و"جيل ألفا" بمنظور ورؤية مختلفة لبناء الإنسان العربي، وأن تستند تلك الرؤية على فلسفة وثقافة تنبع من خصوصيتنا وتراثنا الحضاري بالقدر الذي يساهم في ترسخ الوعي الذاتي العربي وصياغة العقل الجمعي عبر روافد متعددة تأخذ بمقومات العلم والثقافة والتقدم وفقاً للمنظور الأخلاقي والقيمي الإنساني والديني، للوصول إلى نموذج الدولة الحديثة المستندة إلى القانون والمؤسسية، والمواطنة وبالقدر الذي يعظم من ثراء الوجدان العربي، والشعور بالذات الداعمة لمجتمع متماسك، تمثل فيه المحلية السبيل إلى التقدم والعالمية وليس العكس حتى لا نكون أمام مجتمعات يشوبها الكثير من التشوهات الثقافية والقيمية وتتنازعها الصراعات الأيديولوجية والطائفية والعرقية والدينية.

تنطلق الرؤية من تصور يعالج التناقضات التي خلفتها محاولة المزج بين الثقافة التقليدية الناتجة عن استمرار المجتمع التقليدي العربي وبين الأطر الحداثية وأبنيتها الثقافية والقيمية وما أحدثته من شقوق وتفكيك وتشوه في البنية الاجتماعية لغالبية المجتمعات العربية، حيث كان السعي للتوفيق بين الثقافتين وهياكلهما، بدون تحديد لماهية المجتمعات وجوهر ثقافتها التقليدية والدينية سبيلاً لهذا الكم من التناقضات التي يمكن رصدها عبر تطور الفكر الجيلي العربي وخمول العقل العربي عن تجديد مشروعه الفكري ونموذجه المعرفي ومشاركته في صناعة المستقبل، رغم توافر الإمكانيات والموارد.

حالة الحداثة القشرية في مجتمعاتنا العربية ومحاولة توافقها مع الثقافة التقليدية والدينية، ساهمت الى حد كبير في التنازع حول الهوية وتجاوز العمق الحضاري، ومن ثم كان التراجع والتمحور حول الروابط التقليدية والولاءات الأولى والانتماءات إلى ما دون الدولة كسبيل لمواجهة تلك التناقضات والمحافظة على الذات والوعي بالمصالح والمكانة.

ويقودنا ذلك إلى حتمية بناء هذه الرؤية، وأن تكون على درجة ومستوى عالٍ من الوعي والشعور بالذاتية كمكون حاكم في بناء الشخصية العربية وعبر معالجات جديدة ومنطلقات فلسفية وثقافية وتعليمية تأخذ فى الاعتبار رؤية وإدراك الأجيال الشابة لسبل المحافظة على هويته وموقعه من العالم، وتجاوز حالة الاستقطاب الثقافي والقيمي المرشح للتزايد (بين نموذج غربي ونموذج أسيوي) بعد أن تسيد النموذج الغربي بثقافته وقيمة العولمية الفترة السابقة، فكلا النموذجين يمتلك من مقومات الانتشار والآليات ما يساعده على تقديم ثقافته وقيمه، واختراق العقول قبل الوجدان.

لذا يبقى التساؤل حول معدلات تزايد الاستلاب الثقافي والقيمي في الواقع العربي ولدى الأجيال الشابة، كمحدد لواقع مستقبلي نفتقد فيه للعديد من مكونات وعناصر قوته، وهو ما يعنى أن المعادلات القديمة وركائز السياسات العامة المرتبطة برؤية وفلسفة التقدم تحتاج إلى مراجعة وحسم للعديد من القضايا المرتبطة بالهوية والوعي وعناصر التقدم ومساراته.

كما أن هناك حاجة ملحة لمداخل جديدة ومرحلية لتطوير بنية المجتمعات العربية ومؤسساته، للانتقال من الطابع التقليدي إلى الحديث، وهو ما يتطلب بدوره توافر الإرادة السياسية والمجتمعية بالقدر الكافي، وتفهم وإدراك حجم التحولات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية التي تتشابك بدرجة كبيرة وتفرض تأثيراتها.

ونحن هنا لا نتحدث عن بعض المفاهيم الغربية وما تتطلبه من سياسات وإجراءات شكلية تعزز عملية التماسك الاجتماعي والتعايش المشترك وبناء السلام الاجتماعي، وإدارة التنوع والتعدد، ولكن نتحدث عن فلسفة ورؤية لإعادة بناء الإنسان العربي نتجاوز بها المسطرة أو النموذج الغربي أو الأسيوي. فلسفة تنبع من جوهر فلسفة الحياة وأعمار الأرض وشرائع الأديان السماوية، وتأخذ بتحديات اللحظة وتأثيراتها على العقل العربي وما تشهده غالبية المجتمعات العربية من مخاطر ممتدة ذات تأثير سلبي على تماسكه وهويته.

المخاطر الثمانية ومواجهة مداخل التفكيك

بطبيعة الحال، لا يهدف هذا الجزء إلى تشريح وتحليل الواقع العربي أو يتعرض لكل التحديات ومؤشرات المخاطر التي تشير إليها غالبية التفاعلات في معظم مجتمعاتنا العربية، ولكن الهدف هو محاولة لرسم خريطة للمخاطر والتهديدات التي تحيط بمجتمعاتنا، وقراءتها في إطار متطلبات البناء ومرتكزات مواجهاتها.

المدخل الأول، يتعلق بسبل تعامل الدول العربية، خاصة مراكز الثقل العربي، مع مسارات واتجاهات هندسة المنطقة، ومحاولة فرض صياغات جديدة ضمن سياقات دولية وإقليمية تستهدف بالأساس تغيير هويتها وإعادة تشكيل توازنات القوى واستنزاف مواردها وثرواتها، وبالتالي فهي لا تستهدف السياسات والتوجهات الرسمية فقط ولكنها تستهدف أيضاً المجتمعات والعقل العربي.

من هنا، تأتى أهمية تنمية الوعي المجتمعي والارتقاء بالإدراك الوطني لتجنب مخاطر ومداخل المكون الثقافي والقوة الناعمة التي توظفها العديد من القوى الدولية والإقليمية مثل الحديث عن الهويات المتعددة والدين الإبراهيمي وغيره من أفكار تمس الهوية العربية والدينية في جوهرها. كما تأتى أهمية الوقوف على ما فرضته تباينات الرؤى لأطراف القوى العربية، ودرجات الاستجابة بين الدول العربية لمشاريع القوى الإقليمية (إسرائيل وتركيا وإيران وأثيوبيا) كجزء مما يعتصر العالم من تحولات استراتيجية وصراعات على طبيعة النظام الدولي، الأمر الذي زاد من وتيرة الاستقطاب وعدم الاستقرار في المنطقة.

المدخل الثاني، يرتبط بالقدرة على بناء نموذج معرفي عربي نتجاوز به حالة التشتت الفكري والجهود الفردية في الاشتباك مع القضايا والتساؤلات الفكرية الكبرى، نموذج معرفي يكون قادراً على الاشتباك وطرح الرؤى مع حالة الاستقطاب الثقافي المتزايدة بين نموذج غربي سائد (حتى الآن) ونموذج صيني/ أسيوي صاعد تتباين بينهما المنطلقات والقيم والأفكار، وهو ما يزيد من حالة الانقسامات الثقافية في المنطقة العربية ولدى أجيالنا الصاعدة، فضلاً عن قدرة هذا النموذج على تعزيز الخصوصية والهوية تجاه ما فرضته العولمة من قضايا فكرية وفلسفية وتحديات تتعلق بالهوية والانتماء وشكل الدولة والسيادة، وطرح التقاطعات مع ما يسمى بالمجتمع العالمي، والمواطن العالمي، وسيادة النموذج الغربي وتفوقه، وهى أطروحات أصابها الكثير من الخلل كما ترجمتها تداعيات وباء كورونا الذي اجتاح العالم، وما يطرحه حالياً تنامي تيار الـمابعديات (ما بعد الدولة، ما بعد المجتمع، ما بعد الديمقراطية، ما بعد الإنسان ..) من تحديات على شكل وطبيعة حياة الإنسان ومستقبله وعلاقته بالطبيعة وتفاعلاته الإنسانية.

المدخل الثالث، يتصل بالتطور التكنولوجي والثورة الصناعية الرابعة (والخامسة المتوقعة) وما ينتجه من تأثيرات على مستقبل مجتمعاتنا وعلاقتنا بالعالم بدون امتلاك مقومات التعامل مع هذه القفزة كمشارك وفاعل بوعي وليس كمستهلك فقط. فهذه النقلة التكنولوجية وما ستفرضه من فلسفة وقيم وأفكار تقودها شركات ومؤسسات عملاقة تمتلك ما يفوق قدرات الدول تشير إلى حجم التحدي الذي سيفرض على الدول النامية وتلك التي لن تستطيع الاحتفاظ بذاتيها، وتؤمن بعمقها الحضاري من ذوبان وضياع في متاهة عالم جديد تحكمه عناصر قوة جديد ومنظومة تتجاوز فكرة المجتمع، وتركز على الفرد، وذاتيته وماديته وكونه نموذجاً استهلاكياً يعيش في عالم خاص به، منظومة تعلى من مقومات ميكنة الإنسان، وتربط العالم الافتراضي بالعالم الواقعي من خلال   الميتافيرس، منظومة تربط ثقافة التقدم بأدوات وممارسات تتنازع مع فطرة الإنسان ورسالته في الأرض .

المدخل الرابع، يتعلق بالجيل z والجيل ألفا أي التعامل مع المستقبل القريب.. أجيال تمتلك رؤيتها وسماتها الخاصة المعبرة عن كبر حجم التحولات التي تشهدها وستشهدها مجتمعاتنا العربية، فهي أجيال معبرة عن عصرها، وهي تحرص على الحرية والذاتية والمعرفة، وترفض السلطة أياً كان شكلها، وله رؤيته للهوية والانتماء والدولة والمجتمع. أجيال تتفاعل مع سرعة العصر بالقدر الذي أصبح عمر الجيل 12 سنة، وهو ما يترك بصمة وتحدياً عميقاً في مجتمعاتنا تنعكس الآن في كبر الفجوة بين الأجيال، وهى فجوة أعمق وأكثر اتساعاً من الفجوات التي مرت بها الأجيال خلال حقب سابقة، فمجتمعاتنا التي تعانى من تنوع وتعدد وانقسامات حول إدراك القيم وأسلوب العيش، سوف تعانى بشدة من هذا التنوع في ظل فقدان البوصلة الثقافية وضعف الوعى الذاتي، وافتقادنا لذلك المزج المطلوب بين ميراث حضاري وذاتي قديم وبين ثقافة جديدة تتوافق مع التقدم وموقعنا على خريطته، فالعمل على توافر هذا المزيج هو الضامن الوحيد لتماسك مجتمعاتنا وعدم زيادة اغتراب أجيالنا الصاعدة.

المدخل الخامس، يتمثل في ترسيخ آليات بناء السلام الاجتماعي في جوهرها ترتبط بحجم القدرة على توفير البيئات التمكينية والقدرة على تحجيم سمات الضعف في بنية المجتمعات العربية وإدارة الصراعات والخلافات الداخلية، وذلك عبر نشر وتفعيل القيم والثقافات الحاكمة لهدف التعايش المشترك والتواصل من أجل تعزيز الاستقرار وتحقيق التنمية، وبالتالي يبقى التساؤل عن الكيفية التي يمكن من خلالها بناء مقومات هذه البيئات التمكينية عبر مراحل من التطور التدريجي الداعم لبناء الثقة وتحقيق التنمية وتوزيع ثمارها بشكل عادل على كافة أرجاء المناطق، وتقوية البنيان الاجتماع  للقوى الاجتماعية من خلال الوعي بأهمية تلك القوى في المجتمعات التقليدية مع الارتقاء بهذه القوى وتنظيماتها في هيكل ومؤسسات الدولة الوطنية وهويتها الوطنية الجامعة.

المدخل السادس، يركز على القدرة على إعطاء أولوية للثقافة والفكر والمعرفة لتجاوز العديد من الإشكاليات التي قيدت حركة وتطور مجتمعاتنا ودولنا العربية، فالنظرة العلمية المستندة لمنظومة قيم حاكمة يجب أن تكون عاكسة لأهمية الارتباط بين العلم وحركة المجتمع، بحيث لا تعمق الموجه الجديدة من العلم والتكنولوجيا من مشكلة ضعف النظم الاجتماعية كما تعانى منه المجتمعات المتقدمة، فأهمية العلم لا تنفى أهمية المصادر الأخرى التي تغذى وتبنى المجتمعات مثل الدين والثقافة والوجدان والإبداع والفن، وهو ما يضعنا أمام تحدى التقدم العلمي وعلاقته بقوة وتطور التنظيمات الاجتماعية، وعلاقة ذلك بواقع ودرجة تطور مجتمعاتنا التقليدية وما تمتلك من  ملامح حداثة، وانعكاسات هذا المزج المصطنع، فضلاً عن واقع التعليم في غالبية البلدان العربية وما فرضه من مستويات تعليم وثقافة متعددة بلا تجانس، مقابل أمية وموروث اجتماعي بها الكثير من السلبيات.

المدخل السابع، يتصل بتوجيه بوصلة المواطن العربي وتحديد موقعه من معادلة البناء والتوافق مع روح العصر مع الحفاظ على هويته وخصوصيته وعلاقته بالمجتمع والدولة، وهو ما يرتهن بالمسئوليات والأدوار والأدوات التي تقوم بها المؤسسات والتنظيمات الرسمية وغير الرسمية، وقدرتها على مواجهة تحديات وإشكاليات قديمة وممتدة ترتبط ببنية المجتمع والدولة في غالبية الدول العربية من ناحية، وضعف القدرة على مواكبة التطورات المتسارعة من ناحية أخرى. فبنظرة سريعة، نجد أننا أمام مجتمع مدني ضعيف وهش، مجتمع أهلي خيري ورعائي، وسيولة مجتمعية، واستقطاب سياسي وديني، وضعف الطبقة الوسطى وتفككها إلى شرائح متعددة، وعقول ورؤى عربية متعددة حتى داخل الدولة الواحدة، وأجيال صاعدة في معظمها منفصلة عن واقعها الثقافي والحضاري.

المدخل الثامن، ينصرف إلى التنوع الثقافي والقبول بهذا التنوع في إطار الثقافة الأم التي تطرح بدورها أهمية دعم ثقافة الحوار المجتمعي والقبول بالتنوع والتعدد من منظور الثراء الاجتماعي لمواجهة حجم التشوهات التي أصابت ما يمكن تسميته بـ"الشخصية العربية" وما فرضته تحديات الأمية الفكرية والثقافية، وضعف التفكير العلمي والعقلاني، وانخفاض مستوى الوعي الاجتماعي، من تحديات أمام الارتقاء بالمحصلة الثقافية والمعرفية والارتقاء بروحها ووجدانها، وهو ما يفرض بلورة سياسات تكاملية تدعم دور المؤسسات التقليدية باعتبارها مؤسسات معنية بتربية النشء والشباب بعد أن تراجع دورها بشدة، جنباً إلى جنب مع دعم المؤسسات الثقافية المعنية بالفنون والإبداع  والفكر والقيم الإيجابية.

الفرص ومنطلقات البناء

تهدف جملة التحولات الاستراتيجية وتلك العاكسة لمسارات التغير في مجتمعاتنا العربية، والتي تشير إلى بعضها المخاطر ومداخل التفكيك- السابق الإشارة إليها والهادفة- إلى إعادة هندسة المجتمعات العربية ودولها بما يتوافق ورؤية القوى العولمية ومنظومتها الثقافية والقيمية، وهو ما يتجلى بوضوح في تنامي العديد من الأفكار والممارسات الدافعة لتغيير الوجدان وروح الشخصية العربية وثقافتها، وبلورة توجهات فكرية لا تعبر عن السياق الثقافي والديني والحضاري العربي، الأمر الذى يضع المواطنين والمجتمعات أمام رحى الهواجس والمخاوف المشروعة والواقعية من تفكيك قيم حاكمة وتقليدية (مع الإقرار بأن بها ما يتطلب التغيير) وبين الغرق في منظومة جديدة لا نمتلك مقومات ترشيدها أو الانتقاء مها.

وعلى ضوء ذلك، فإن منطلقات البناء تتطلب ضرورة تبني الآليات التالية:

1- السياق العام، أو البيئة المحيطة بالمجتمعات العربية ودولها، فرغم تباين تأثيراتها ووقع التحولات والتحديات والمخاطر على كل دولة، إلا أننا يمكن الوقوف على عدد منها والتي تترك بصماتها على كثير من التفاعلات السياسية والمجتمعية، مثل:

أ- إعادة صياغة مفهوم العروبة في ظل استقطاب عالمي ثقافي وسياسية وأيديولوجي متزايد، وهو أمر لا مفر منه، فهو مطلب بقاء واستدامة لمشروعات عربية للمنطقة تحافظ بها على الهوية والخصوصية أمام مشروعات إقليمية ودولية، ولكن النظرة المطلوبة يجب أن تساير الواقع وتتجاوز دوافع العاطفة والأحلام القديمة، نظرة تعبر عن مقومات القوة والتميز وتتلافى سمات الضعف والفرقة.

ب- الاهتمام بمفهوم ومكونات الأمن الإنساني العربي في مواجهة التأثيرات السلبية للسياق الدولي والإقليمي على قضية السلام والصراعات الطائفية والعرقية التي تعاني منها العديد من دول المنطقة، وتنامى مؤشرات مجتمع المخاطر في العديد من البلدان العربية، وهو ما يلقى بالكثير من التحديات والمسئوليات على الدولة والمجتمع والمواطن لتحقيق الأمن الإنساني ومنع الصراعات.

ج- الوقوف على حجم التغيرات المجتمعية وانعكاساتها على الشخصية العربية، وهو ما يعد واحداً من المتطلبات الضرورية لصياغة منهاجية جديدة تتبناها القوى المجتمعية ومؤسساتها، ومنظمات المجتمع المدني بالاستناد للمنهاج التنموي القائم على أسس حقوقية كسبيل لبناء الدولة الوطنية الحديثة المستندة للقانون والمواطنة.

د- الحد من حالة الاستقطاب السياسي والديني التي تفرض نفسها على كثير من ملامح المشهد السياسي والاجتماعي في معظم المجتمعات العربية، وتظهر أهمية مواجهتها عبر رؤى ومشروعات وبرامج تهدف لزيادة عملية تحصين الإنسان العربي وبناء معارفه ومهاراته القادرة على مواجهة تحديات الطائفية والتعصب.

2- ثلاثية البناء، وتقوم على مسارات متكاملة تشمل تمكين المواطن، وتحصين المجتمعات، وترسيخ مفهوم الدولة الوطنية الحديثة، وهنا يجب التأكيد على دور العلم والمعرفة والثقافة كسبيل للبناء وتشكيل العقل الجمعي، فالتأثيرات التكنولوجية على مجتمعاتنا (والعالم) من السرعة بحيث تجاوز تلك التأثيرات التي تركتها الثورات الصناعية الثلاثة السابقة، وهو ما يتطلب تعليماً جيداً لا يستند الى الثقافة الغربية وقيمها ولكن تعليماً وطنياً يأخذ بمقومات المعرفة ويحافظ على الهوية بدون انبهار بالنموذج الغربي أو الأسيوي، تعليم يهدف الى التعلم الذى يوسع الإدراك والوعي بحجم التغير، وبالقدر الذى يوسع مدركات الفهم لجذور المشاكل كمحدد لإعادة النظرة في سبيل تنظيم العلاقات الاجتماعية والعلاقات مع المؤسسات التقليدية للتنشئة لعدم تكرار الأخطاء التي أعاقت تطور مجتمعاتنا، وهنا يمكن الإشارة لعدد من النقاط:

أ- تفرض قضية التنمية الثقافية نفسها على الواقع العربي والمصري الحالي، بنفس الدرجة التي تثيرها قضية الأبعاد التنموية الأخرى في جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فتكامل أنماط التنمية يوفر بناءاً سليماً للإنسان ودوره كمواطن فعال في مجتمعه وتجاه دولته. من هنا تأتي أهمية دراسة العلاقة الارتباطية بين مقومات تعزيز فرص التنمية الثقافية لتطوير المجتمع من جانب، ومتطلبات إعادة صياغة تفاعلات المجتمع بالقدر الذي يزيد من فاعليته على مواجهة الاختلالات والتوترات الاجتماعية القائمة من جانب آخر.

ب- تنمية وتفعيل الدور الثقافي والتنويري للمجتمع المدني ومنظماته، وذلك عبر إعادة تنظيم المنظمات الأهلية من حيث الفلسفة والقيم والأدوار وبالقدر الذي يسهم في دعم الإسهام التنموي المستند إلى الحقوق كركيزة وفلسفة تحكمه، هذا التحول من شأنه أن يسهم في بناء مجتمع مدني قوي قادر على المشاركة في دعم عملية الحداثة، وبناء مجتمع عصري، قادر على مواجهة صراع القيم والخصوصية، وما تثيره الحالة الثقافية وأزمتها ومظاهرها المتجسدة في إشكاليات مثل: الدين والسياسة، والهوية والانتماء، والعقلانية والانغلاق والانعزالية، مظاهر لأسباب عديدة منها، حالة الثنائية والانفصام القائمة بين ثقافة النخبة وثقافة الجماهير من ناحية، والانفصام بين قيم العولمة الحاكمة لرؤية العالم وبين قيم وأفكار معبرة عن درجة تطور المجتمع والخوف على الخصوصية من ناحية ثانية، الأمر الذى يتطلب تنمية الوعي الاجتماعي، وتجديد الموروث الثقافي، وبذل المزيد من الجهد لإعادة بناء الثقافة الشعبية بما يتوافق مع نسق القيم الخاص بالمواطنة والتعددية والمشاركة الشعبية.

ج-العلاقة الارتباطية بين تحقيق التنمية المستدامة وبناء الانسان تتجلى بوضوح في واقع المجتمعات الفقيرة والمهشمة، وهو ما يتطلب تحقيق العدالة الاجتماعية وعدالة التوزيع جغرافياً لثمار التنمية وتوفير الحوافز التنموية جنباً إلى جنب مع قيم الحوار والحريات، حتى تتنامى قيم المواطنة والمسئولية المجتمعية وقيم الانتماء بالقدر الذي يكفل مواجهة التداعيات التي خلفتها "ثقافة الفقر والعشوائيات" من تأثيرات وقيود مجتمعية.

3- بناء الوعي والمعرفة وتحقيق الذات، وهي ثلاثية تتكامل مع ثلاثية الربط بين التنمية والحوار والحقوق، وذلك لتحقيق بناء السلام الاجتماعي وتقوية بنية المجتمعات العربية عبر مواجهة مباشرة لأسباب تآكل التماسك الاجتماعي والمتجسدة في الصراعات القومية والدينية والمذهبية والطائفية وعدم الاكتفاء بالتعامل مع النتائج المتمثلة في العديد من الصور مثل العنف والتطرف والحروب الأهلية.

وتمثل صياغة أجندة وطنية تعزز الهوية وتغذى الروح الوطنية وتفعل الصفات الحاكمة للعمق الحضاري العربي، الضمان لاستقرار المجتمعات وتماسكها وتحفيز دور المواطنين، وهو ما يتطلب عقداً اجتماعياً محدداً للعلاقة بين المواطن والمجتمع والدولة، وداعماً للتنمية وللحقوق، وداعماً للقيم وللمسئوليات والأدوار المختلفة للمؤسسات الرسمية وغير الرسمية.

تحتاج هذه الأجندة أيضاً إلى:

أ- رؤية تكاملية للسياسات العامة.

ب- تشابك بين القطاعات الثلاث (الحكومي والأهلي والخاص) على قاعدة التنمية بالمشاركة، وتفعيل مقومات المسئوليات الاجتماعية.

ج- تفعيل عملية البناء والنهوض استناداً إلى حوكمة الموارد.

د- تحليل واقعي لأبعاد الأزمات الاجتماعية والثقافية.

هـ- دراسة وتحليل العلاقات بين الموروث الثقافي وبناء القوة في المجتمع، مع تحديد دور الثقافة الأم في المجتمع، وصياغتها في إطار الخصوصية التي لا تتعارض مع المشاركة والانفتاح على العالم.

و-التأكيد على أهمية دور منظمات المجتمع المدني وتكاملها مع منظمات المجتمع الأهلي، كمدخل حتمي لتعزيز التماسك الاجتماعي وتقوية البنية المجتمعية.