شهدت الأيام الماضية تقديم قادة الدول الثلاث الكبرى ما يمكن تسميتها الرؤى الاستراتيجية القصيرة المدى التي سيُشكَّل على أساسها مسار العلاقات الدولية خلال الربيع القادم؛ فبعد أيام قليلة من انعقاد مؤتمر ميونخ للأمن العالمي، ألقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خطابه السنوي الأوَّلي منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، الذي أكد فيه أن روسيا لن تقبل الخروج مهزومة من الحرب، وأن مرحلة القبول بما تمليه الولايات المتحدة على العالم قد ولَّت دون رجعة، مع تعليق العمل بمعاهدة "نيو ستارت" للحد من انتشار الأسلحة الاستراتيجية.
وبدوره، رد الرئيس الأمريكي جو بايدن على الخطاب الروسي بزيارة مفاجئة إلى العاصمة كييف، أتبعها بإلقاء خطاب في وارسو ذكر فيه اسم الرئيس بوتين علانيةً لعشر مرات، وأطلق عليه لقب الدكتاتور الذي يحلم ببناء إمبراطورية لن تسمح الولايات المتحدة بقيامها، مع تأكيد رفع واشنطن شعار الذود عن الديمقراطية ضد النظم الدكتاتورية التوسعية. وبين هذا التصعيد المتبادل بين موسكو وواشنطن، خرجت الصين بمبادرة جديدة، تؤكد من خلالها رغبة بكين الملحة في إنهاء الحرب، وتشير من ناحية أخرى إلى المسار السياسي الثالث (الطريق الثالث) الذي تسعى لخلقه في نظام دولي يعيش أجواء مشابهة لفترة ما قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية.
استجابات متباينة
كشف وزير خارجية الصين وانغ يي خلال مشاركته في أعمال مؤتمر ميونخ للأمن (الذي انعقد خلال الفترة 17–19 فبراير الفائت) عن اعتزام بكين تقديم مقترح لإنهاء الحرب الدائرة في أوكرانيا. ويعد هذا الإعلان هو الأول من نوعه من جانب الصين منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية الذي يتزامن أيضاً مع الذكرى الأولى لها. ولم يُفصِح المسؤول الصيني عن أي تفاصيل لهذه المبادرة بعد، لكنه صرح بأن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء ما يحدث، وستقدم تسوية سياسية لدعم السلام والحوار البناء، وأعلن أيضاً أنه سيذهب إلى موسكو بعد الانتهاء من الاجتماعات في “ميونخ” من أجل التحدث مع الروس بشأن هذه الوثيقة.
وأشار الوزير الصيني أيضاً إلى أن هذه المبادرة ستكون مستندة إلى المبادئ التي وضعها الرئيس الصيني مسبقاً، ووفقاً لميثاق الأمم المتحدة، من تأكيد وحدة الأراضي وسيادة جميع البلدان، لكنه في الوقت نفسه أكد احترام المصالح الأمنية المشروعة لروسيا.
بعد هذه التصريحات بأيام، أصدرت بكين، يوم 24 فبراير الفائت، وثيقة بعنوان “موقف الصين من التسوية السياسية للأزمة الأوكرانية” مُكوَّنة من 12 نقطة، تمَّت صياغتها كمبادئ عامة، على غرار التزام الأطراف المختلفة بعدم اللجوء إلى السلاح النووي، واحترام سيادة الدول، وعدم استهداف المدنيين والمنشآت المدنية، والتخلي عن عقلية الحرب الباردة، ووقف العقوبات من جانب واحد، والحفاظ على استقرار عمل سلاسل التوريد.
واستدعت التحركات الصينية في هذا الصدد، ردود فعل دولية متباينة، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1– ترحيب روسي بتحركات بكين: عبَّرت موسكو عن موقف إيجابي من التحركات الصينية في الصراع الأوكراني. وعقب صدور المبادرة الصينية، يوم 24 فبراير الفائت، نشرت وزارة الخارجية الروسية بياناً قالت فيه: “نُشاطِر بكين طرحَها للتسوية، وملتزمون باحترام ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي والإنساني والأمن الشامل، بما لا يعزز أمن دولة على حساب دولة أخرى، أو فريق من الدول على حساب آخر”. وأضاف البيان: “نرى، بجانب الصين، أن أي قيود تُفرَض خارج نطاق مجلس الأمن الدولي غير شرعية، وأداة في المنافسة غير المتكافئة والحرب الاقتصادية”. وأكدت الخارجية الروسية أن “موسكو منفتحة على تحقيق أهداف العملية العسكرية بالوسائل السياسية والدبلوماسية”، وإن أكد البيان أيضاً ضرورة اعتراف كييف “بالحقائق الجديدة المتصلة بالأراضي الأوكرانية” التي أعلنت موسكو ضمها.
2– تفاعل أوروبي مشروط مع المبادرة الصينية: قُوبلت المبادرة الصينية بترحيب من جانب بعض الدول الأوروبية وإن جاء هذا الترحيب مشروطاً؛ فقد ذكرت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بربوك التي قالت إن الصين بصفتها عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، عليها الالتزام باستخدام نفوذها لتأمين السلام العالمي. وبالرغم من قولها إن من الضروري استغلال كل فرصة لتحقيق السلام، فإنها أكدت ضرورة تحقيق السلام العادل، الذي يفرض على “من انتهك وحدة الأراضي – في إشارة إلى روسيا – ضرورة سحب قواته من الدولة المحتلة”، وأنه “بدون الانسحاب الكامل لجميع القوات الروسية من أوكرانيا، لا فرصة لإنهاء الحرب”. وقد حذرت أيضاً من أن “ألمانيا لن تقبل الاقتراح الصيني إذا تضمَّن تعليق إمدادات الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا”. وقالت إن "الحرب ستنتهي إذا توقفت روسيا عن القتال".
كما شكك الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير، في تصريحات له يوم 24 فبراير الفائت، في المبادرة الصينية، وقال: “أي اقتراح بناء من شأنه أن يؤدي إلى سلام عادل سيكون موضع ترحيب، ولكن من المشكوك به أن السلام وفقاً للمقترحات الصينية سيلعب مثل هذا الدور البناء، هذا الأمر لا يزال موضع تساؤل. وبما أن الأمر كذلك فيجب على بكين التحدث ليس فقط مع موسكو، بل ومع كييف” وفق تعبيره، وأعرب الرئيس الألماني، عن اعتقاده بأنه ليس على الغرب أن ينضم إلى مبادرة السلام الصينية، بل يجب على الصين أن تنضم إلى “الأغلبية الساحقة من الدول” تحت رعاية الأمم المتحدة.
وجاء في تصريح لرئيسة المفوضية الأوروبية أوروسلا فون دير لاين، أن الصين ما زال عليها تقديم المزيد من الأدلة التي تفيد بأنها لا تعمل لصالح روسيا، لكنها أكدت في الوقت نفسه أن القارة الأوروبية مطمئنة إلى حد ما بأن الصين ليست طرفاً مشارِكاً في هذه الحرب.
3– تشكيك واشنطن في أهداف بكين: قوبلت المبادرة الصينية بتشكيك أمريكي؛ فقد أبدت نائبة الرئيس الأمريكي كاميلا هاريس قلقها من تعميق الصين علاقاتها بروسيا منذ بداية الحرب، وقالت إن أي خطوة تُقدِّمها الصين لروسيا من شأنها فقط أن تكافئ موسكو لمواصلة عملياتها العسكرية؛ ما يزيد تعقيد الوضع. وقال وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إن بكين تنظر في إمكانية مد روسيا بالأسلحة لتعزيز قدراتها الهجومية تحضيراً لمعركة الحسم في مارس الجاري.
وعقب صدور الوثيقة الصينية، يوم 24 فبراير الفائت، وصف الرئيس الأمريكي جو بايدن المبادَرة بأنها غير عقلانية، وذكر أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يُصفِّق لها، فكيف يمكن أن تكون جيدة؟!، وأضاف: "“لم أرَ في الخطة ما يُشير إلى أن هناك شيئاً سيكون مفيداً لأي شخص غير روسيا".
4– غلبة الطابع السلبي على تغطية الإعلام الغربي للمبادرة: وعلى المستوى الإعلامي، أفردت الصحف والمجلات العالمية فقرات وصفحات كاملة لمناقشة هذه المبادرة الصينية الأولى من نوعها، إلا أن أغلبية التفاعلات هيمن عليها الطابع السلبي، والتشكك في النوايا الصينية؛ فعلى سبيل المثال، علقت صحيفة “الغارديان” البريطانية على الخبر بالقول بأنه من غير الواضح غاية بكين من هذه المبادرة، والشكل النهائي الذي ستكون عليه، وإذا ما كانت الخطة ستقتصر على وضع بعض الخطوط العريضة التي ترفع السلمية شعاراً لها – كعادة الدبلوماسية الصينية – دون تحديد الآليات والخطوات المحددة التي سيتم اتباعها لتحقيق هذا السلام المأمول.
وذكرت بعض المنصات الإعلامية أن من الصعب أن تقنع الصين العالم بأنها جهة فاعلة محايدة يمكنها المساعدة في إنهاء الحرب في أوكرانيا، بعد مرور عام على دخولها في شراكة غير محدودة مع روسيا. واعتبر البعض أن المبادرة الصينية قد تكون خطة لتعطيل الحرب لفترة لتعمل خلالها روسيا على إعادة تشكيل تمركزها وأسلحتها واستعادة هيبة قوتها العسكري لتُعيد الهجوم من جديد على الأراضي الأوكرانية.
5– استجابة أوكرانية حذِرة للمبادرة الصينية: حيث علق الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على المبادرة بقوله إنه سيبحث المبادرة مع الرئيس الصيني، وقال في تصريحات صحفية، يوم 24 فبراير الفائت: “أنوي لقاء شي جين بينغ. سيكون ذلك مهماً للأمن العالمي. الصين تحترم وحدة الأراضي، ويجب أن تفعل كل شيء لضمان مغادرة روسيا أراضي أوكرانيا”، وأضاف: "أريد أن أصدِّق أن الصين ستكون إلى جانب عالم عادل؛ أي إلى جانبنا".
ومن جانبه، رفض وزير الخارجية الأوكراني دميترو كوليبا، بشكل قاطع، أي خسارة لأراضي بلاده مقابل إبرام سلام مع روسيا، وصرَّح على هامش مؤتمر ميونخ الدولي للأمن بأن من مصلحة أوكرانيا أن تلعب الصين دوراً في إبرام السلام بين كييف وموسكو، إلا أن قضية وحدة أراضي أوكرانيا تُعَد أمراً غير قابل للتفاوض.
محركات جوهرية
أوضح وزير الخارجية الصيني وانغ يي، في مؤتمر صحفي ببكين يوم 21 فبراير الفائت، أن بلاده "قلقة للغاية" من النزاع الدائر في أوكرانيا الذي "يتفاقم بل يخرج عن السيطرة"، مشيراً إلى أن بكين ستعمل على "تعزيز حوار السلام". وفي هذا السياق، يمكن القول إن المبادرة الصينية لتحقيق السلام في أوكرانيا مدفوعة بعدد من المحفزات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:
1– تقويض الاتهامات الأمريكية لبكين بتسليح روسيا: فخلال الشهور الماضية، كانت هناك تقارير غربية تتهم بكين بدعم روسيا في الحرب، ولكن في شهر فبراير الفائت تحوَّلت هذه التقارير إلى اتهامات رسمية من قبل واشنطن؛ حيث ذكر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في تصريحات لشبكة سي بي إس نيوز الأمريكية، أن الصين تدرس منح روسيا أسلحة وذخيرة من أجل مواصلة حربها في أوكرانيا، وقال إن “الشركات الصينية تقدم بالفعل دعماً غير قاتل (بدون أسلحة قتالية) لروسيا”، وأن "المعلومات الجديدة تشير إلى أن بكين يمكن أن تقدم دعماً قاتلاً".
هذه الاتهامات الأمريكية تشكل أحد المحركات الجوهرية للمبادرة الصينية، وخصوصاً أن بكين رفضت أكثر من مرة الاتهامات الأمريكية في هذا الشأن، حتى إن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانج وينبن، قال في مؤتمر صحفي، يوم 22 فبراير الفائت، إن بكين لا ترسل الأسلحة، وذكر: “الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى تنشر معلومات الآن باستمرار أن الصين قد تزود روسيا بالأسلحة، وهي حيلة تم استخدامها وضبطها في بداية الأزمة الأوكرانية”، ووصف الولايات المتحدة ودول الناتو الأخرى بأنها "أكبر مصدر للأسلحة بساحة المعركة في أوكرانيا".
2– تهدئة التوترات مع الدول الغربية: يبدو أن بكين بهذه الخطوة في الملف الأوكراني تحاول أن تخفف حدة التوترات المتصاعدة مع الدول الغربية في الآونة الأخيرة على خلفية حادث بالون التجسس الصيني الذي أسقطته الولايات المتحدة، كما اتهمت عدد من الدول الأوروبية الصين بممارسة أنشطة تجسس ضدها؛ فعلى سبيل المثال اتهمت ألمانيا الصين بممارسة “التجسس السياسي” ضدها؛ حيث أعرب رئيس جهاز المخابرات الداخلية الألماني توماس هالدنفانج عن خشيته من توسيع الصين أنشطة التجسس ضد برلين. وحذر هالدنفانج من تطوير الصين أنشطة تجسس ونفوذ واسعة النطاق، داعياً إلى الاستعداد لزيادة هذه الأنشطة في السنوات القادمة.
3– توجيه رسائل غير مباشرة بشأن تايوان: يحتمل أن المبادرة الصينية بشأن الصراع الأوكراني، تستبطن رسالة مفادها أن بكين لن تستخدم القوة العسكرية ضد تايوان مثلما تروج الدول الغربية؛ فقد سخر وزير الخارجية الصيني وانغ يي – خلال مشاركته في مؤتمر ميونخ للأمن العالمي – من المقارنة بين الحالة الأوكرانية في الوقت الحاضر، وبين مستقبل تايوان القريب، وحث الدول على التوقف عن إثارة القلق العالمي حول مصير تايوان، ورفع شعار "أوكرانيا اليوم، وتايوان غداً".
4– بناء نظام دولي صيني جديد ودعم صورة بكين: يمكن تفسير إقدام الصين أيضاً على تبني هذه المبادرة، بسعيها لإرساء قواعد السلام في العالم، وحماية قوة النظام الدولي المتمركز حول مقاصد ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وبهذا فهي تشير بصراحة إلى منافسها اللدود؛ الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها المسؤول الأول عن زعزعة السلام واستقرار العالم.
وفي هذا السياق، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ وينبن، خلال إفادته الصحفية الدورية للتعليق على أعمال مؤتمر ميونخ للأمن العالمي، إن “الصين تحاول دائماً الدفاع والحفاظ على النظام الدولي، وهو ما يظهر جلياً في محاولاتها الجادة لدعم عملية السلام بين أوكرانيا وروسيا. وعلى العكس من ذلك، تسيء الولايات المتحدة لهيمنتها السياسية والعسكرية بالاستخدام الجائر للقوة، وهو ما حدث أثناء الحروب والعمليات العسكرية التي شنتها الولايات المتحدة باسم محاربة الإرهاب في أفغانستان وسوريا والعراق، التي أودت بحياة أكثر من 900 ألف شخص، وخلقت 37 مليون لاجئ حول العالم”. وقد تابع المتحدث باسم وزارة الخارجية إفادته بالقول إن واشنطن تسيء استخدام هيمنتها الاقتصادية وسيطرتها على المنظمات الاقتصادية والمالية الدولية، عبر القمع المتعمد لخصومها بالإكراه ومضاعفة العقوبات الأحادية.
5– مواجهة التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الحرب الأوكرانية: تستبطن المبادرة إدراكاً صينياً بأن استمرار الحرب ليس في صالحها، لا سيما مع التداعيات الاقتصادية التي أفضت إليها الحرب عالمياً، وهو ما ينعكس بالسلب على الاقتصاد والمصالح الصينية. لقد كان للحرب بعض الانعكاسات الاقتصادية على الصين، وخاصةً أن بكين تعتمد بشكل كبير على روسيا وأوكرانيا في بعض المنتجات الاستراتيجية، مثل واردات الحبوب وخام الحديد والطاقة؛ لذلك أشارت تقارير إعلامية، بعد فترة وجيزة من اندلاع الحرب العام الماضي، إلى أن القيادة الصينية أصدرت تعليماتها إلى لجنة التنمية والإصلاح الوطنية بتشجيع الشركات المملوكة للدولة على البحث عن مصادر بديلة لواردات الحبوب وخام الحديد والطاقة لتعويض الانخفاض المحتمل في الإمدادات من روسيا وأوكرانيا.
وكان للحرب أيضاً بعض التأثيرات غير المباشرة على الاقتصاد الصيني، تجلت في ارتفاع أسعار المواد الخام للشركات الصينية؛ ما زاد الضغط التضخمي على الاقتصاد الصيني. وأدت الحرب والاضطرابات التي أعقبتها في سوق الأسهم العالمية إلى تقلبات في سوق الأسهم الصينية. علاوةً على ذلك، كانت حرب أوكرانيا، وحرب الصين التجارية التكنولوجية مع الولايات المتحدة، وإجراءات إغلاق كوفيد المحلية، هي العوامل الرئيسية الثلاثة التي تعوق النمو الاقتصادي الصيني هذا العام، والتي يمكن أن يكون لها عواقب بعيدة المدى على الوظائف والاستقرار الاجتماعي.
6– تخوف بكين من هزيمة روسيا: بعد مرور عام على الحرب الأوكرانية، بات المشهد أكثر تعقيداً؛ فروسيا التي كان يُعتقَد في البداية العمليات العسكرية أنها ستحسم الحرب لصالحها، لم تنجح في ذلك الأمر، وراح الغرب يسارع ويضاعف مساعداته العسكرية لكييف. هذا التشابك الغربي الروسي داخل أوكرانيا، جعل هزيمة روسيا أحد السيناريوهات المحتملة للحرب. وبطبيعة الحال فإن هذا السيناريو يشكل هاجساً كبيراً بالنسبة إلى بكين؛ لأن موسكو حليف مهم لها في مواجهة الغرب.
لقد عبَّر عن هذه المخاوف الصينية الكاتب الشهير توماس فريدمان، في مقابلة على قناة إن بي سي الأمريكية في 19 فبراير الفائت، بقوله إن “الصين ترغب – أولاً وقبل كل شيء – في إطالة أمد الحرب؛ لأنها تُبقِينا مقيدين، ونحرق جميع أسلحتنا وجميع مخزوناتنا العسكرية. أعتقد أيضاً أن بكين تفضل روسيا الضعيفة التي أُجبرت على الاعتماد عليها اقتصادياً، لكنها لا تريد روسيا المنهارة”، وأضاف أنه إذا "تمكن الغرب من القضاء على روسيا فستكون الصين قلقة من جراء ذلك، وسيكون ذلك مؤشراً سيئاً للغاية لتايوان، وسيؤدي إلى حرب عالمية حقيقية، وستتأثر كل الأسواق العالمية".
وعطفاً على هذا، قد تكون المبادرة الصينية الأخيرة بشأن تسوية الصراع الأوكراني محاولة من جانب بكين لتهدئة مسار الحرب، وإعطاء فرصة للنظام الروسي لالتقاط أنفاسه، وتخفيف حدة الضغوط عليه، لا سيما أن الدول الغربية مُصِرَّة على مسار تسليح كييف بأسلحة نوعية.
فرص النجاح
تكشف مختلف المؤشرات الاقتصادية والأمنية عن أن أوروبا هي المتضرر الأكبر من توابع هذه الحرب، خاصةً فيما يتعلق بأزمة الغاز الطبيعي والتضخم؛ لذلك فهي تدعم أي مبادرة من شأنها أن تنهي الحرب القائمة في أوكرانيا حالياً. ويدفع تفاقم هذه الأزمات قادة الدول الأوروبية لمحاولة إيجاد حل بديل بعيداً عن المظلة الأمريكية ولو بصورة نسبية. وقد أكدت زيارة المستشار الألماني للصين في نوفمبر الماضي، والإعلان الفرنسي عن زيارة مرتقبة للرئيس ايمانويل ماكرون لبكين، على هذا التوجه.
من ناحية أخرى، تعاظمت الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا خلال عام 2022، ويتوقع أن تمتلك الصين الأدوات اللازمة للتأثير على القيادة السياسية في موسكو. وبالرغم من ذلك، فإن غياب وجود سوابق ناجحة للدبلوماسية الصينية في مجال الوساطة الدولية لإنهاء الصراعات والحروب الطويلة الأمد، وإعلان كل طرف رفضه القاطع التنازل عن أيٍّ من مطالبه، التي هي المحرك الرئيسي للحرب، تُضعِف فرص نجاح المبادرة الصينية. ويبقى الأمل مرتبطاً بالموقف الأمريكي من هذه المبادرة، ومدى اقتناع واشنطن بنوايا الصين في السعي لتحقيق السلام، والتأثير على “بوتين” لقبول المطالب الغربية.