• اخر تحديث : 2024-05-02 13:29
news-details
قراءات

لماذا تصاعد الخلاف داخل الحزب الجمهوري حول دعم أوكرانيا؟


تعدَّدت المناسَبات التي أكد فيها البيت الأبيض ثبات الدعم الأمريكي لأوكرانيا، بل طالب بعض الجمهوريين المؤثرين (مثل زعيم الأقلية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل) بإرسال مزيد من المساعدات إلى كييف، منتقدين إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ لرفضها إرسال طائرات مقاتلة من طراز “إف–16” إلى أوكرانيا. وفي اتجاه مضاد لذلك، تعالت بعض الأصوات الجمهورية المُشكِّكة في الالتزام الأمريكي المُوسَّع تجاه أوكرانيا، في إطار تحوُّل بارز داخل الحزب بعيداً عن الدعم المحافظ للتدخلات الأجنبية، ليتجلى بذلك الانقسام الواضح بين صفوف الجمهوريين؛ الأمر الذي وصفته صحيفة "واشنطن بوست" الاميركية بالحرب الباردة.

مظاهر الانقسام

يرى عدد واسع من أعضاء الحزب الجمهوري ضرورة استمرار إمداد أوكرانيا بالمساعدات الفتاكة؛ لكونها أداة رادعة لكل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والصين؛ فهم يؤمنون بضرورة استمرار الحرب، بل يرون أن الرئيس بايدن لا يشن حرباً كافية. وفي اتجاه مضاد لذلك، تعالت الأصوات الجمهورية التي تنتقد الدعم الأمريكي لأوكرانيا؛ الأمر الذي يمكن الوقوف على أبرز ملامحه من خلال النقاط التالية:

1رفع بعض الجمهوريين شعار “أمريكا أولاً”: في مأدبة عشاء سُمِّيت باسم الرئيس ريجان، وفي وقتٍ سابق من شهر مارس الجاري، دفعت المرشحة لمنصب حاكم ولاية أريزونا كاري ليك في الاجتماع السنوي لمؤتمر العمل السياسي للمحافظين “CPAC”بأن الدعم الأمريكي لأوكرانيا لا يسهم إلا في بدء حرب عالمية ثالثة؛ حيث قالت “ليك” في خطابها الرئيسي: “نحن نعيش على كوكب مجنون؛ حيث يتم إرسال مئات المليارات من الدولارات من أموالنا، التي حصلنا عليها بشق الأنفس إلى الخارج. هذه ليست معركتنا.. سياستنا هي أمريكا أولاً”. ولا شك أن تلك التصريحات تسببت في نفور عدد واسع من الجمهوريين ممن رأوا أنها يمكنها أن تهدد وحدة حلف شمال الأطلسي؛ لأنها لا يتبناها سوى حفنة قليلة من المحافظين.

2رفض المرشحين المحتملين الدعم الأمريكي: رفض المرشح الجمهوري المحتمل للرئاسة وحاكم ولاية فلوريدا رون دي سانتيس اعتبار الحرب الروسية–الأوكرانية نزاعاً إقليمياً، وقد أخبر تاكر كارلسون (محاوره في “فوكس نيوز”) أن مساعدة أوكرانيا في مواجهة روسيا ليست مصلحة أمنية حيوية للولايات المتحدة، مشيراً إلى أن تلك المصالح الحيوية تشمل تأمين الحدود الأمريكية، ومعالجة أزمات الجيش الأمريكي، وضمان أمن الطاقة، والتحقق من القوة الاقتصادية والثقافية والعسكرية للحزب الشيوعي الصيني.

كما رفض اعتبار تلك الحرب “نزاعاً إقليمياً”، ورأى أن الولايات المتحدة لا ينبغي لها تقديم مساعدات تستوجب نشر القوات الأمريكية خارج حدودها؛ لأن ذلك قد يجر البلاد صراحةً إلى صراع ساخن بين أكبر قوتين نوويتين في العالم. وقد طالب “دي سانتيس” الرئيس بايدن بالتفاوض على “اتفاق سلام”، ليصبح بذلك أحدث عضو جمهوري رفيع المستوى يقترح أن تتراجع الولايات المتحدة عن دعمها لأوكرانيا؛ لأنه لا يعدو كونه إلهاءً عن التحديات الخطيرة الأخرى، منتقداً إدارة “بايدن” التي قدمت “شيكاً على بياض” إلى كييف.

3تعالي انتقادات ترامب للسياسات الأمريكية تجاه أوكرانيا: تشكك ترامب في تورط الولايات المتحدة في أوكرانيا، قائلاً إن معارضة روسيا في أوكرانيا ليست مصلحة استراتيجية حيوية للولايات المتحدة، مطالباً الدول الأوروبية بتقديم المزيد من الدعم المالي لأوكرانيا، وسداد بعض ما قدمته واشنطن لها. كما واصل “ترامب” تأكيد أن تلك الحرب لم تكن لتحدث أبداً لو كان في منصبه، وأنه يمكنه وقفها خلال يوم واحد إذا ما أعيد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة، متوعداً بمحو ما وصفها بـ”الدولة العميقة” في بلاده، مؤكداً قدرته على منع حرب عالمية ثالثة بسهولة بالغة.

4تعدُّد المطالبات بالتوقف عن إرسال المساعدات إلى أوكرانيا: دعت النائبة الجمهورية ماجوري تايلور جرين الإدارة الأمريكية إلى التوقف عن إرسال المساعدات التي تقدر بمليارات الدولارات الأمريكية إلى أوكرانيا. والجدير بالذكر أن نائبة ولاية جورجيا برزت بوصفها صوتاً مؤثراً في مجلس النواب الأمريكي، بعدما بنت علاقة وثيقة مع رئيس المجلس كيفين مكارثي الذي تعهد أثناء تنصيبه رئيساً لمجلس النواب الأمريكي في وقت سابق بأن المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن تكون بالكم نفسه.

وقد خرجت أصوات جمهورية قبل ذلك تحث إدارة بايدن على التوقف عن الدعم غير المشروط لأوكرانيا؛ بسبب التضخم وارتفاع تكاليف المعيشة. وقد اتهمت النائبة الجمهورية – في تصريحات خلال تجمُّع انتخابي بولاية أيوا – الديمقراطيين بأنهم لا يعيرون اهتماماً لأمريكا وشعبها بقدر اهتمامهم بالحدود الأوكرانية. وهذه المرة ليست الأولى التي يدلي فيها نواب جمهوريون بتصريحات تؤكد تخليهم عن أوكرانيا؛ فقد سبقها زعيم الأقلية الذي رفض دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي التي وجهها إليه لزيارة أوكرانيا.

أسباب رئيسية

تتأسس أصوات الجمهوريين الرافضة لاستمرار الدعم الأمريكي لأوكرانيا للعام الثاني على التوالي على جملة من الأسباب؛ يأتي في مقدمتها تراجع تأييد الناخبين الجمهوريين للموقف الأمريكي من تلك الحرب، وتغير توجهات السياسة الخارجية الأمريكية، وغير ذلك من أسباب يمكن الوقوف عليها من خلال النقاط التالية:

1تلاشي نموذج “ريجان”: دأب الحزب الجمهوري على تبني سياسة خارجية قوية لخَّصها الرئيس الأسبق “رونالد ريجان” في “السلام من خلال القوة”. وفي اتجاه مضاد لذلك، يتصدر الحزب الجمهوري في الوقت الراهن نخبة جمهورية تدلل على وجود خلافات حادة متزايدة في أوساطه، وهي النخبة التي تدعو إلى عدم التدخل وعدم دعم الحلفاء، على نحو يدلل على تلاشي نموذج “ريجان” الذي يتبنى “قيادة الولايات المتحدة للعالم الحر” والاضطلاع بدور أكثر تأثيراً في العالم على نحو يحول الولايات المتحدة الأمريكية إلى “مدينة على التل”، في إشارة إلى “إشراق يلهم البلدان الأخرى”. وقد لعبت تلك السياسات دوراً بارزاً إبان الحرب الباردة، حين ألغى “ريجان” سياسة الانفراج الدولي، وبنى جيشاً هائلاً للولايات المتحدة، واقترح تدشين مبادرة الدفاع الاستراتيجي لحماية الولايات المتحدة من أي هجوم.

2تزايد الأموال المخصصة لدعم أوكرانيا: يرجع الخلاف المتزايد داخل أروقة الحزب الجمهوري إلى حجم الدعم المالي الضخم الذي قدمته الولايات المتحدة والشركاء الغربيون إلى أوكرانيا، والذي يُقدَّر بعشرات المليارات من الدولارات منذ بداية حربها ضد روسيا، وهو ما برز في صورة ذخيرة وأنظمة تسلح تَمثَّل الهدف منها في كسر الجمود في ساحة المعركة وتحقيق النصر الحاسم؛ ففي اتجاه مضاد لذلك الدعم المالي، يلوح شبح حرب استنزاف في الأفق، وتتزايد احتمالات وقوع مواجهة نووية خطيرة مستقبلاً، لا سيما مع عجز روسيا عن تحقيق النصر العسكري الحاسم، وهو ما يعني تزايد إمكانية إهدار الأموال الأمريكية من ناحية، والدخول في صراع أوسع يُكلِّف بدوره مليارات الدولارات من ناحية ثانية.

3تأثير الانسحاب الكارثي من أفغانستان: خلَّف مشهد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان حاجزاً نفسياً يحول دون الوثوق بالقيادات العسكرية الأمريكية الحالية، كما تسببت تلك الحرب في ترسيخ الشعور القومي بضرورة الاهتمام بالتحديات الداخلية الأمريكية، لا سيما الأوضاع الاقتصادية، وبخاصة معدلات التضخم المرتفعة، بدلاً من التصدي لقضايا الخارج. وما يدلل على ذلك عدد واسع من اللقاءات التي يجريها المشرعون الجمهوريون في عدد من الولايات الأمريكية؛ فعندما يتحدث المشرعون إلى الناخبين عن ضرورة وقف التورط الأمريكي في الخارج، يتلقون تصفيقاً حاداً، وهو الأمر الذي يعكس نظرة المواطنين إلى أوكرانيا والعالم وصراع القوى الكبرى، كما يعكس نظرة الجمهوريين إلى ناخبيهم.

4تنامي معدلات السخط الشعبي: يعكس عدد واسع من استطلاعات الرأي رغبة المواطنين الأمريكيين في تجنب حرب طويلة لا يمكن تحقيق النصر الحاسم فيها؛ لذا تتزايد أهمية حث النخبة السياسية على تجنبها وعدم خوض غمارها. وفي هذا الإطار، يرى قطاع واسع من المواطنين الأمريكيين أن أوكرانيا فاسدة، وأنها تقع في فناء روسيا الخلفي، وأنها سبب مباشر في تصعيد الصراع مع روسيا النووية؛ وذلك في الوقت الذي ينبغي فيه للولايات المتحدة أن توجه اهتمامها إلى الصين التي تمثل تهديداً حقيقياً للولايات المتحدة.

وفي هذا الإطار، يمكن الإشارة إلى نتائج استطلاع الرأي الذي أجراه مركز “بيو” في مارس 2022؛ حين قال 74% من الأمريكيين إن إدارة “بايدن” كانت تقدم المقدار الصحيح من المساعدات أو ينبغي أن تقدم المزيد، بينما قال 7% فقط منهم إن الولايات المتحدة تفعل “الكثير”. ومنذ ذلك الحين، ارتفعت نسبة الأمريكيين الذين يقولون إن الولايات المتحدة قدمت مساعدات “أكثر من اللازم” لأوكرانيا بشكل مطرد، لتصل إلى 26% في شهر يناير الماضي.

5انسداد أفق الحرب الأوكرانية: بعد أكثر من عام على الحرب بين روسيا وأوكرانيا، يرى كثير من الجمهوريين أن تلك الحرب وصلت إلى طريق مسدود؛ حيث تقاتل القوات الروسية والأوكرانية على طول خط أمامي يبلغ طوله 600 ميل في جنوب وشرق البلاد دون أن تسهم تبرُّعات الولايات المتحدة والشركاء الغربيين في كسر الجمود في ساحات المعارك، بيد أن احتمالات تحقيق نصر حاسم من قبل أي من الجانبين تبدو أقل احتمالاً بالمقارنة بحرب استنزاف طاحنة، كما لا يمكن توقع نتيجة الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة وروسيا في العام القادم ودلالاتها على تلك الحرب.

ختاماً، تتحول سياسات الحزب الجمهوري من “سياسات ريجان” إلى سياسات “واقعية” عمادها ضبط النفس؛ الأمر الذي يدلل على انقسام حزبي أقرب ما يكون إلى “الحرب الأهلية” الدائرة بين كلا التوجهين (“الولايات المتحدة أولاً” مقابل “الانعزالية”، على الرغم من تحفظ بعض المحافظين على المصطلح الأخير). ولا شك أن الحرب الروسية–الأوكرانية ساهمت في تأجيج ذلك، لينقسم الجمهوريون على أنفسهم بين من يطالب بمزيد من الانخراط في تلك الحرب، ومن يرى ضرورة التراجع عنها، ومن يرى أن روسيا هي العدو الحقيقي للولايات المتحدة ومن يرى أن الصين هي العدو.