• اخر تحديث : 2024-11-15 12:27
news-details
تقدير موقف

حظوظ متقاربة: انتخابات رئاسية وبرلمانية حاسمة في تركيا


وقَّع الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في العاشر من هذا الشهر، مارس/آذار 2023، المرسوم الخاص بعقد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة. بهذا، وطبقًا لتوقعات سابقة، ستُعقد الانتخابات يوم الأحد 14 مايو/أيار؛ وإن لم يستطع أي من مرشحي رئاسة الجمهورية الحصول على ما يفوق الخمسين بالمئة من الأصوات في الجولة الأولى، فستُعقد الجولة الثانية والحاسمة بعد ذلك بأسبوعين. ويشترط لفوز المرشح البرلماني في دائرة ما، أن يتجاوز الحزب الذي ينتمي إليه المرشح عتبة السبعة بالمئة من مجموع الأصوات.

خلال الأسابيع القليلة التي تلت زلزال 6 فبراير/شباط المدمر في جنوب تركيا والشمال السوري، صدرت تكهنات عن دوائر مختلفة في البلاد حول عزم الرئيس تأجيل الانتخابات، حتى إلى ما بعد آخر موعد دستوري مفترض في 20 يونيو/حزيران. ولأن أوساط المعارضة التركية قدَّرت أن عواقب الزلزال ستوقع ضررًا بحظوظ أردوغان وحزبه الانتخابية، فقد سارع قادة معارضون إلى التحذير من التأجيل. أردوغان نفسه لم يُنقل عنه أصلًا ما يوحي بالتأجيل، ولا يبدو أنه كان من أنصار الفكرة من البداية. وقد جاء المرسوم القاضي بإجراء الانتخابات في الموعد الذي كان أشار له قبل وقوع الزلزال توكيدًا على أنه لم يغير من موقفه، وعلى أنه ربما يعتقد أن أداء حكومته ووزرائه منذ ما بعد الزلزال سيصب لصالحه.

أجواء المعارضة، من ناحية أخرى، لا تقل تفاؤلًا، بل تبدو وكأنها تحلق في أجواء مرتفعة من التفاؤل، بالرغم من أنها تبدأ حملتها الانتخابية بعد أسبوع من الأخذ والرد الداخليين، ومن تباين مواقف قادتها. ثمة ستة وثلاثون حزبًا حازت تصديق اللجنة العليا للانتخابات بخوض المعركة الانتخابية؛ ولكنَّ طرفي الساحة السياسية الرئيسيين يتشكلان من تحالف الشعب، الذي يضم حزب العدالة والتنمية الحاكم، وحزب الحركة القومية، وحزب الوحدة الكبرى، المحافظ وصغير الحجم، وغير الممثل في البرلمان. ومنذ تأكد موعد عقد الانتخابات، بدأ تحالف الشعب مباحثات مع عدة أحزاب صغيرة أخرى، مثل حزب الرفاه الجديد، إسلامي التوجه، وحزب الوطن الأم المحافظ، بهدف الانضمام للتحالف، أو التعاون في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. وكان حزب الحرية والدعوة، الكردي الإسلامي، قد أعلن بالفعل تأييده لأردوغان واستعداده للتعاون مع تحالف الشعب.

في الجانب الآخر، يقف تحالف الأمة، المشكَّل من ستة أحزاب، والذي عُرف منذ لقاء هذه الأحزاب للمرة الأولى في فبراير/شباط 2022 بطاولة الستة. يجلس حول هذه الطاولة حزبان رئيسان: حزب الشعب الجمهوري، الحزب الكمالي التاريخي، الذي يقود المعارضة البرلمانية منذ عقدين، والحزب الجيد، قومي التوجه، الذي انشق عن حزب الحركة القومية قبل خمسة أعوام. أما أحزاب الطاولة الأربعة الأخرى: حزب المستقبل، وحزب التقدم والديمقراطية، وحزب السعادة، والحزب الديمقراطي، والتي تُحسب في مجملها، وبدرجات متفاوتة، على المعسكر المحافظ، فهي أحزاب صغيرة، ليس لأي منها أي تمثيل في البرلمان، يقود اثنين منها سياسيان بارزان، انشقَّا عن العدالة والتنمية الحاكم، هما: رئيس الحكومة الأسبق، أحمد داوود أوغلو، والوزير ونائب رئيس الحكومة الأسبق، علي باباجان.

ليس ثمة مشتركات كبرى تجمع أحزاب طاولة الستة سوى خصومتها لأردوغان وسعيها لإسقاطه. تسعى الأحزاب الصغيرة في التحالف لأن تتمثل في البرلمان المقبل وتصبح شريكة، بصورة من الصور، في الحكم، بقوة الرافعة الانتخابية لحزب الشعب والحزب الجيد. أما الحزبان الأخيران فيعرفان أنهما لا يستطيعان معًا، مهما بلغا من قوة، إسقاط أردوغان وحزبه. ولذا، فقد وجدا في الأحزاب الأربعة الصغيرة شركاء ضرورة ليس لإضافة ثلاث أو أربع نقاط إلى حظوظهما الانتخابية وحسب، ولكن أيضًا لوضع المعارضة في إطار وطني جامع، إطار يضم كافة توجهات الشعب التركي السياسية.

توافقت طاولة الستة على برنامج طويل من الوعود الانتخابية، لعل أهمها التعهد بالعمل على العودة بالبلاد إلى نظام الحكم البرلماني؛ كما توافقت على نوع من تقاسم السلطة إن فازت في الانتخابات. ولكن الاتفاق على مرشح رئاسي واحد للتحالف لم يكن سهلًا. أخفقت جلسة طاولة الستة في 2 مارس/آذار، في التوافق على مرشح مشترك للرئاسة، لأن كمال كاليتشدار أوغلو، رئيس حزب الشعب، أصر على تسميته مرشحًا وحيدًا. وقد أدى إصرار كاليتشدار أوغلو على موقفه إلى معارضة ميرال أكشنر، رئيسة الحزب الجيد، ومن ثم خروجها من التحالف. قالت أكشنر: إن كاليتشدار أوغلو غير مؤهل للفوز على أردوغان، وطرحت اسمي عضوي حزب الشعب البارزين، منصور يافاش وأكرم إمام أوغلو، رئيسي بلديتي أنقرة وإسطنبول، مرشحين بديلين.

شهدت الأيام القليلة التالية معركة سياسية حادة، وتبادل الاتهامات، بين حزب الشعب والحزب الجيد، كشفت عن هشاشة تحالف الستة. وظل الخلاف إلى 6 مارس/آذار حيث جرى إقناع أكشنر بالعودة إلى طاولة الستة، والحفاظ على التحالف من الانهيار، بعد أن تعهد كاليتشدار أوغلو باختيار رئيسي بلدية أنقرة وإسطنبول نائبين إضافيين للرئيس، أو مستشارين مميزين له، إن تحقق له الفوز في الانتخابات، وعلى أن يصحباه في جولاته خلال الحملة الانتخابية. ولكن الأرجح أن عودة أكشنر للتحالف لم تأت بفعل الوساطات ووعود ما بعد الانتخابات، بل بفعل خشيتها من أن تُحمل مسؤولية فشل طاولة الستة، وما يمكن أن يتركه ذلك من أثر سلبي على حظوظ حزبها الانتخابية.

خلف تحالفي الشعب والأمة، يقف حزب الشعوب الديمقراطي، كردي التوجه والمتهم بالارتباط بحزب العمال الكردستاني، ملقيًا بظله الثقيل على المشهد السياسي. تشير التوقعات إلى أن حزب الشعوب الديمقراطي قد يحصل على حوالي 11 بالمئة من الأصوات، مما يضع ثقله الانتخابي في مستوى واحد مع الحزب الجيد. وقد كانت قيادات في حزب الشعوب قد أشارت إلى أنه لن يطرح مرشحًا للانتخابات الرئاسية إن أبدى كمال كاليتشدار أوغلو استعدادًا لبدء مباحثات للتوصل إلى اتفاق تعاون بين طاولة الستة وحزب الشعوب. يدرك كاليتشدار أوغلو حاجته الملحة لدعم الشعوب الديمقراطي وناخبيه، ولكن المؤكد أن عليه الموازنة دائمًا بين شروط الحصول على مثل هذا الدعم، والاحتفاظ بتأييد قطاعات ملموسة من ناخبي حزب الشعب والحزب الجيد، ذوي التوجه القومي، الذين يرون أن الشعوب الديمقراطي ليس سوى حزب انقسامي، يمثل تهديدًا لوحدة الدولة التركية واستقرارها.

ثمة تحالفات أخرى ستخوض الانتخابات أيضًا، ولكنها في العموم ترتكز إلى أحزاب ميكروسكوبية، لا يتوقع لها أن تترك أثرًا ملموسًا على نتائج الانتخابات. ولكن مرشحين اثنين آخرين للرئاسة، إلى جانب أردوغان وكاليتشدار أوغلو، أعلنا مؤخرًا عزمهما خوض الانتخابات، يمكن أن يسهما في تأجيل حسم الرئاسيات إلى الجولة الثانية؛ الأول منهما هو محرم إنجه، مرشح المعارضة في انتخابات 2018 الرئاسية وعضو حزب الشعب البارز السابق. غادر إنجه حزب الشعب وأسس حزب البلد، وباسم هذا الحزب سيخوض الانتخابات، مرتكزًا إلى ما حققه من أصوات في انتخابات 2018. أما الثاني، سنان أوغان، فهو أكاديمي مستقل قومي التوجه، وسيخوض الانتخابات بدعم من حزب الظفر، القومي العنصري.

يصعب تقدير موقفي إنجه وأوغان في هذه المرحلة المبكرة، وإن كان من الواضح أن حظوظ إنجه الانتخابية تفوق تلك التي يمكن أن يحققها أوغان. وهناك بين المحيطين بكاليتشدار أوغلو من يأمل بأن يصب إنجه جهوده لصالح مرشح طاولة الستة ما أن يدرك استحالة فوزه، أو في الجولة الثانية إن لم يستطع أي من مرشحي الرئاسة تجاوز الخمسين بالمئة من الأصوات في الجولة الأولى.   

توازنات الانتخابات الرئاسية

هذه هي الانتخابات الرئاسية الثالثة منذ إقرار التعديل الدستوري الذي يقتضي اختيار الرئيس بالاقتراع الشعبي المباشر، بعد أن كان رئيس الجمهورية يتم اختياره من البرلمان؛ وهي الانتخابات الثانية منذ انتقلت تركيا من النظام البرلماني إلى نظام الحكم الرئاسي. وكما الانتخابات الرئاسية المباشرة السابقة، يخوض المنافسة هذه المرة أكثر من مرشح. ولكن، وبخلاف الانتخابات الرئاسية السابقة، تجتمع كتلة حزبية معارضة رئسية وكبيرة خلف مرشح واحد، مرشح يقود أثقل أحزاب المعارضة وزنًا منذ عشر سنوات. ليس كمال كاليتشدار أوغلو شخصية سياسية معروفة، وحسب، ولكنه مؤيَّد من قبل ستة أحزاب، ويُتوقع له أن يحصل على تأييد حزب سابع، هو حزب الشعوب الديمقراطي.

ثلاثة من هذه الأحزاب: حزب الشعب، والحزب الجيد، وحزب الشعوب الديمقراطي، تنتمي إلى تقاليد سياسية مختلفة، لكنها أحزاب وازنة، وإن كان لكل منها سقف انتخابي يصعب تجاوزه بنسبة كبيرة مهما كانت طبيعة الحملة الانتخابية. أما الأحزاب الأخرى التي تبنَّت ترشح كاليتشدار أوغلو: حزب السعادة، وحزب المستقبل، وحزب الديمقراطية والتقدم، والحزب الديمقراطي، فهي أحزاب صغيرة بلا شك، ولا يتوقع لأي منها الحصول على أكثر من واحد بالمئة من الأصوات، ولكن أهمية هذه الأحزاب الأربعة أنها توفر لكاليتشدار أوغلو غطاء محافظًا وإسلاميًّا، يمكن أن يساعد في تطمين الناخبين المحافظين والإسلاميين، أو أن يشجع قطاعًا منهم على التصويت له.

بيد أن من الخطأ دائمًا في حسابات السياسة التركية ترجمة مجموع أصوات ناخبي عدد من الأحزاب إلى أصوات للمرشح الرئاسي الذي تدعمه هذه الأحزاب. ينظر الناخب التركي إلى المعايير التي يفترض أن يتمتع بها الرئيس بصورة مختلفة عن تلك التي يجب توافرها في النائب البرلماني؛ وهذا ما يثير بعضًا من الأسئلة المهمة حول صلاحية كاليتشدار أوغلو للقيام بهمام رئاسة الجمهورية في مرحلة ما بعد الزلزال، وفي مواجهة تحديات تفرضها أزمات كبرى في الجوار الإقليمي.

هل يستطيع كاليتشدار أوغلو، الذي لا يُعرف له سجل إنجازات ما، لا قبل ولا بعد توليه قيادة حزب الشعب الجمهوري، القيام بمهام إعادة البناء، التي فرضها زلزال 6 فبراير/شباط، ليس في منطقة الزلزال وحسب، بل وفي أنحاء البلاد الأخرى، التي تتطلب إعادة بناء ملايين الوحدات السكنية بمواصفات تمنع الدمار الذي قد يحمله زلزال قادم؟ إلى أي حد يمكن لكاليتشدار أوغلو التعامل بصورة آمنة مع الحرب في أوكرانيا، ومع الوجود العسكري التركي في أذربيجان وسوريا وليبيا، وهو الذي يفتقد الخبرة والمهارة الدبلوماسية، ويقود حزبًا لم يُتح له تسلم مقاليد الحكم منذ عقود؟

ولا يقل أهمية أن كاليتشدار أوغلو أصبح مرشحًا لتحالف الستة على أساس أنه سيصبح رئيسًا بخمسة نواب رئيس، هم قادة الأحزاب الخمسة الأخرى في التحالف، وبمستشاريْن فاعليْن، هما رئيسا بلدية أنقرة وإسطنبول، وأن خارطة طريق التحالف تفرض عليه العودة إلى نواب الرئيس فيما يتعلق بالقرارات والسياسات الإستراتيجية. فإلى أي حد سينجح كاليتشدار أوغلو في إقناع عموم الناخبين بأن رئاسته ستجلب الاستقرار للدولة، التي طالما عانت من اضطراب الحكومات الائتلافية، سيما أن الجميع يعرف أن ليس ثمة كثير مما يجمع بين الأحزاب الستة، سياسيًّا وأيديولوجيًّا؟

الأكثر حساسية، والذي يجري تداوله في الجلسات الخاصة، أن كاليتشدار أوغلو ينتمي إلى الأقلية العلوية (النصيرية)، التي تنظر الأغلبية التركية السنية إلى إسلامها بقدر كبير من الشك. والمؤكد، أن علويًّا لم يقد هذه المنطقة من العالم، التي أصبحت تُعرف بتركيا، منذ أصبحت جزءًا من بلاد الإسلام فبل ألف عام. ثمة دوائر قريبة من أكشنر تقول: إن معارضة رئيسة الحزب الجيد لترشح كاليتشدار أوغلو لم تتعلق بتقديرها لعدم قابليته للفوز وحسب، ولكن أيضًا لخلفيته العلوية. فإن كانت هذه هي الحسابات التي حددت موقف أكشنر، حليفة كاليتشدار أوغلو الوثيقة في طاولة الستة، فكيف سيكون موقف أغلبية الناخبين المحافظين والإسلاميين؟

ولا تقل حظوظ رجب طيب أردوغان، الرئيس الحالي ومرشح تحالف الشعب، تعقيدًا عن حظوظ منافسه الأبرز. يتمتع أردوغان بكاريزما بالغة التأثير وقدرة غير مسبوقة على التماهي مع عموم الأتراك. وهو فضلًا عن ذلك مرشح محافظ، لا يخشى اللجوء إلى التعبيرات الإسلامية والقومية، في بلاد تتجاوز فيها نسبة الأتراك المحافظين الستين بالمئة من مجموع الناخبين. لأردوغان سجل لا ينازع في البناء والإنشاء، وهو ما يجعله أقرب إلى ثقة الناخبين عندما يعد بإعادة بناء المناطق التي دمرها الزلزال خلال عام واحد. كما أن مسارعة أردوغان إلى نشر أذرع الدولة التركية بكافة مؤسساتها للتعامل مع آثار الزلزال، والطريقة التي وفرت بها الدولة الرعاية للناجين، بما في ذلك الدعم المالي، أظهرت مصداقية سياسة البناء والتطوير التي اتبعتها حكوماته في العقدين الماضيين. وربما يجد قطاع ملموس من الأتراك، بمن في ذلك بعض منتقدي الرئيس، أن من الخطر الآن المغامرة بتغيير الرئيس والبلاد لم تتعاف بعد من عواقب الزلزال.

ليس ثمة شك في أن الموقف المتوازن الذي اتبعه أردوغان من الحرب في أوكرانيا (بعد سنوات من الإنجازات في أذربيجان وليبيا وسوريا)، أعاد التوكيد على السردية التي تعزو إلى الرئيس النجاح في استعادة موقع تركيا في الإقليم وعلى المسرح الدولي.

ولكن أردوغان يواجه، على الرغم من ذلك كله، عددًا من التحديات، التي تجعل من هذه الجولة الانتخابية الأصعب في حياته السياسية كلها. يحكم أردوغان تركيا، رئيسًا للحكومة ورئيسًا للجمهورية، منذ أوائل 2003؛ وليس من الغريب أن يشعر كثيرون، حتى بين مؤيديه، أن البلاد بحاجة إلى التغيير، وإن لمجرد التغيير فقط. حتى مصطفى كمال أتاتورك، يقول دعاة التغيير، لم يحكم تركيا لعشرين سنة متصلة. والواضح أن مطالب التغيير هي الأعلى صوتًا بين الشباب، سيما أولئك الذين يفترض أن يمارسوا حقوقهم الانتخابية للمرة الأولى، والذين لا يذكرون تركيا ما قبل أردوغان، ولا يشعرون بأنهم مدينون للرئيس ونمط قيادته بأية صورة من الصور.

تحاول تركيا منذ 2018 التعامل مع سلسلة من الأزمات الاقتصادية متفاوتة الوقع، أدت إلى انخفاض مطرد في قيمة العملة التركية وإلى تصاعد كبير في مستوى التضخم. وعلى الرغم من نجاح حكومة أردوغان في تخفيض معدل التضخم خلال الأشهر القليلة الماضية، وأن الليرة التركية أصبحت أقرب إلى الاستقرار النسبي، فإن كثيرًا من الأتراك يرى أن المعجزة الاقتصادية التي عاشتها البلاد في ظل حكم أردوغان وحزبه طوال عقد ونصف العقد وصلت إلى نهاية الطريق. لعدد من هؤلاء، ثمة إيحاءات متكررة من الخارج بأن المؤسسات المالية الغربية ودوائر الاستثمار الأجنبي الضخمة ستصبح أكثر دعمًا للاقتصاد التركي في حال أطيح بأردوغان.

وبالرغم من أن الجدل حول مسألة اللاجئين تراجع نسبيًّا بعد الزلزال، إلا أنه لم يختف ولم يزل بإمكان المعارضة إثارته من وقت إلى آخر، وتذكير عموم الناخبين، سيما في المناطق الفقيرة وفي أوساط الطبقة العاملة، بأن سياسات حكومات أردوغان المتتالية هي المسؤولة عن عبء اللاجئين الهائل الملقى على كاهل تركيا. تبنَّت أنقرة خلال الأشهر القليلة الماضية سياسة تطبيع مع النظام السوري بهدف تهيئة الأجواء لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، كما أقرت إجراءات حازمة لوقف تدفق اللاجئين الأفغان. ولكن مسيرة التطبيع مع دمشق تسير بخطوات بالغة البطء، نظرًا لتعقيدات الأزمة السورية وطبيعة الانخراط التركي في الشأن السوري. كما أن تعزيز أمن الحدود التركية الشرقية لم ينجم عنه سوى انخفاض نسبي في معدل توافد اللاجئين الأفغان، وليس وقفه كلية.

بكلمة أخرى، يحتاج كل من أردوغان وكاليتشدار أوغلو تجاوز عقبات ملموسة في الطريق إلى الفوز، عقبات ذات صلة مباشرة بحسابات السياسة التركية ومعاش الأتراك، وليس مجرد فرضيات نظرية. وبالرغم من أن أوراق اعتماد كل منهما لا يمكن التقليل منها، فإن صيحات الفوز التي تتصاعد في معسكريهما تبدو مبكرة إلى حد كبير، وليست أكثر من محاولة للالتفاف على الواقع السياسي. هذا، إن كان الهدف هو الفوز من الجولة الأولى. أما إن مضت الانتخابات الرئاسية إلى الجولة الثانية، فستصبح حسابات الفوز والخسارة أكثر تعقيدًا.

أسئلة الفوز في الانتخابات البرلمانية

أولى المهام التي يستوجب على التحالفين الرئيسين المتنافسين التعامل معها هي إعداد قوائم المرشحين البرلمانيين. وهذه لم تعد مهمة سهلة بأي حال من الأحوال. فالمعروف أن الأحزاب الأربعة الصغيرة في طاولة الستة تنتظر أن يمد لها حزب الشعب والحزب الجيد يد العون لدخول البرلمان. والمؤكد أن أيًّا من الأحزاب الأربعة الصغيرة لن يستطيع تجاوز عتبة السبعة بالمئة من الأصوات، التي يشترطها القانون لتمثيل حزب ما في البرلمان. ولذا، فعلى تحالف الستة، وخلال أسابيع قليلة فقط، حسم الموقف من طريقة العمل على تمثيل كل من الأحزاب الأربعة الصغيرة في البرلمان، والاتفاق على حجم هذا التمثيل.

هل تعد قائمة واحدة باسم التحالف ككل؟ وإن كان هذا هو الخيار، فكيف ستوزع المقاعد على مرشحي الأحزاب الستة؟ وإن كان من المتفق عليه أن كلًّا من حزب الشعب والحزب الجيد يستطيع خوض الانتخابات بمفرده، فأي عدد من المقاعد الآمنة يمكن منحها لمرشحي كل من الأحزاب الأربعة الشريكة في التحالف؟ وهل يتم التعامل مع الأحزاب الأربعة بميزان واحد، أم أن أحدها لابد أن يعتبر أثقل وزنًا من الآخرين؟ الخيار الآخر، بالطبع، هو أن يتبرع كل من حزب الشعب والحزب الجيد بحمل عدد من مرشحي الأحزاب الأربعة على قوائمه. ولكن الأسئلة المتعلقة بهذا الخيار لا تقل تعقيدًا عن أسئلة الخيار الأول، كما أن قيد بعض من المرشحين المحافظين أو الإسلاميين على قوائم حزب الشعب والحزب الجيد قد يثير استهجانًا من ناخبي الحزبين على السواء.

في الجانب الآخر، يبدو تحالف الشعب في وضع أفضل من خصومه في تحالف الستة/ الأمة من جهة إعداد قوائم المرشحين. أولًا: لأن الأرجح أن يقوم حزبا التحالف الرئيسان، العدالة والتنمية والحركة القومية، بخوض الانتخابات بصورة منفردة، على أن يشجعا ناخبي الحزبين لانتخاب مرشح الحزب الآخر في الدوائر التي يعرف أن حزبًا معينًا يتمتع بحظوظ انتخابية أعلى. وثانيًا: لأن الأحزاب الصغيرة الأخرى المنضوية في التحالف، أو التي توشك على الالتحاق به، تحسب هي الأخرى على المعسكر المحافظ أو الإسلامي، ولن يكون من الصعب مكافئة أي منها بإدراج عدد من مرشحيه على قوائم حزب العدالة والتنمية أو الحزب القومي. وحتى إن اختار التحالف خوض الانتخابات بقائمة واحدة، فإن التقارب السياسي والفكري بين أحزابه تجعل التوافق على القائمة أقل تعقيدًا.

ما عدا ذلك، تطرح الانتخابات البرلمانية عددًا من التحديات أمام كل من الأحزاب الرئيسة الممثلة في البرلمان السابق، وصاحبة الثقل في التحالفين.

يحتاج العدالة والتنمية وحليفه، حزب الحركة القومية، في تحالف الشعب، بدعم من الأحزاب الصغيرة الشريكة الأخرى، المحافظة على الأغلبية البرلمانية التي تمتع بها التحالف في البرلمان المنتهية ولايته. ما تعنيه الأغلبية في هذه الحالة أن تظل حصة العدالة والتنمية من الأصوات فوق الـ 40 بالمئة، وحصة الحركة القومية فوق الـ 9 بالمئة. بدون توافر أغلبية برلمانية، وحتى إن فاز أردوغان بالرئاسة، فسيكون من الصعب عليه حكم البلاد. قد تساعد الشراكة مع أحزاب صغيرة مثل الوحدة الكبرى والرفاه الجديد والوطن الأم والدعوة والحرية على تعزيز أصوات تحالف الشعب. كما أن اتفاقًا بين العدالة والتنمية والحركة القومية على خارطة توزيع تكتيكية للمرشحين قد يسهم في تحسين حظوظ عدد ملموس من مرشحي الحزبين.

المؤكد أن موقف العدالة والتنمية الانتخابي شهد تراجعًا واضحًا في العامين الماضين، سواء لفقدان الحزب زمام المبادرة بفعل وجوده في الحكم منذ سنوات طويلة، أو لانخفاض مستوى نواب الحزب وكوادره. كما خسر حزب الحركة القومية قطاعًا ملموسًا من قاعدته الانتخابية لصالح الحزب الجيد، الذي ولد أصلًا من انشقاق في الحركة القومية. لمعالجة هذا التراجع، يتجه حزب العدالة والتنمية إلى الدفع بعدد كبير من المرشحين الجدد؛ بينما يأمل حزب الحركة القومية أن يفضي اضطراب موقف أكشنر من ترشح كاليتشدار أوغلو وعودتها المهينة لطاولة الستة إلى عودة الكثير من الناخبين القوميين إلى حزبهم الأم.

ولكن، ومهما بلغت قيمة توسيع نطاق التحالفات ودرجة التوافق بين العدالة والتنمية والحركة القومية حول كيفية خوض المعركة الانتخابية، فإن حظوظ تحالف الشعب ستعتمد بشكل أساسي على مدى اقتناع عموم الناخبين بأن الاقتصاد بدأ في التحسن فعلًا، وأن التضخم في طريقه إلى التراجع، وأن جملة الإجراءات المالية التي اتخذتها الحكومة، مثل رفع مستوى الحد الأدنى للأجور ومستوى دخل المتقاعدين، كانت كافية لمساعدة المواطنين على مواجهة الأزمة. كما ستعتمد، من جهة أخرى، على رضا الناخبين عن أداء الحكومة ووكالاتها في التعامل مع الزلزال وعواقبه.

أما تحالف الأمة، فإن تقدير وضعه من منظور خارطة طريق ما بعد الفوز التي أعلنها، يرجح أن المهمة الملقاة على عاتق أحزابه الستة أكبر بلا شك. طبقًا لخارطة الطريق، اتفقت أحزاب تحالف الأمة على الانتقال بالبلاد إلى "النظام البرلماني المعزز" خلال عامين من استلام الحكم. ما يعنيه هذا أن على أحزاب تحالف الأمة، وشريكها غير الرسمي، حزب الشعوب الديمقراطي، ليس الفوز بالأغلبية البرلمانية، وحسب، بل والفوز بأغلبية الثلثين، الأغلبية التي يشترطها الدستور لدعوة الشعب إلى الاقتراع على أي تعديل دستوري. وهذا هدف يبدو من الصعب تحقيقه. بمعنى، أن مجموع ما يمكن أن تحققه الأحزاب الستة، إضافة إلى حزب الشعوب الديمقراطي، ومهما كانت الحسابات، لا يمكن أن يتجاوز 45 بالمئة من الأصوات. للحصول على أغلبية الثلثين البرلمانية، تحتاج المعارضة أداءً أفضل بكثير في هذه الانتخابات، أو انهيارًا بالغًا في حظوظ التحالف الحاكم الانتخابية.

وحتى إن أرادت المعارضة مجرد الفوز بأغلبية بسيطة، توفر الدعم الضروري للرئيس (على افتراض فوز كاليتشدار أوغلو بمقعد الرئاسة)، فلابد للمعارضة أولًا من إقناع الناخبين بقدرتها على تمثيل عموم الشعب التركي بكافة فئاته وتوجهاته، وقدرتها على الإمساك بدفة الدولة وإدارة شؤون البلاد في انسجام كاف للمحافظة على استقرار الحكم ومواجهة المخاطر الأمنية والتحديات الإقليمية. وعلى المعارضة، فوق ذلك كله، تقديم تصور لمستقبل تركيا المنظور، سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الأمني، تصور يمكن تحقيقه، ويفوق ذلك الذي يعد به التحالف الحاكم، وليس توجيه الانتقادات إلى الرئيس وحكومته وحسب.

انتخابات مصيرية

خلال العقدين الماضيين، لم تكن ثمة مخاطرة كبيرة في توقع نتائج الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية في الأسابيع الستة أو السبعة المتبقية على موعد إجراء الانتخابات. ولكن خارطة التحالفات السياسية التركية تغيرت في العام الماضي بصورة لم تعرفها البلاد منذ سنوات طويلة. كما أن الحسابات المتعلقة بحظوظ أي من المرشحين الأبرز للرئاسة، أو التحالفين الحزبيين الأكبر، أصبحت أكثر تعقيدًا، بل وعرضة للانقلاب بين يوم وآخر بفعل التناحرات البينية والمواقف المتباينة، بل والولاءات فوق السياسية.

وليس من السهل الاعتماد على استطلاعات الرأي، بالرغم من أنه لا يكاد يمر يوم بدون صدور نتائج أحدها. معظم شركات ومراكز استطلاع الرأي التركية ذات ارتباطات سياسية معلنة أو مستبطنة، وأغلبها تستخدم مناهج تحليل ليست محل ثقة علمية بالضرورة. والأهم، أن تركيا بلد كبير ومتسع، ديمغرافيًّا وجغرافيًّا، تلعب سياسات الهوية دورًا مهمًّا في تحديد توجهات معظم شعبه.

كل الانتخابات التركية هي انتخابات مهمة. قد لا يكون الحكم في تركيا ليبراليًّا بالمعنى الذي ينطبق على دول أوروبا الغربية وأميركا الشمالية. ولكن تركيا بالتأكيد دولة ديمقراطية، تشهد انتخاباتها معدلات تصويت لا تعرفها أية دولة غربية، ويقرر فيها صندوق الاقتراع، بدون عبث أو تلاعب، مصير الحاكمين. ولكن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة ربما تعد بين إحدى أهم الجولات الانتخابية في تاريخ الجمهورية.

منذ تأسيس الجمهورية وإلى 2002، قادت تركيا طبقة حاكمة واحدة، استطاعت إعادة توليد نفسها بين كل انتخابات وأخرى، أو انقلاب وآخر. حتى قادة الحزب الديمقراطي، مثل عدنان مندريس وجلال بايار، الذين أطاحوا بالشعب الجمهوري ووضعوا حدًّا لحكم الحزب الواحد، مثَّلوا في الأصل انشقاقًا عن حزب الشعب. ولكن حزب العدالة والتنمية استطاع، باحتفاظه بالحكم لعقدين كاملين، إحداث تغيير جوهري في الاجتماع السياسي التركي، وإدخال طبقة حاكمة جديدة، من خلفية اجتماعية وسياسية مختلفة، إلى الساحة السياسية، وليست الساحة السياسية وحسب، بل والاقتصادية – الصناعية، والثقافية والتعليمية.

إن خسر العدالة والتنمية وأردوغان هذه الانتخابات، فستعود الطبقة القديمة إلى سدة الحكم بروح انتقامية ثقيلة الوطأة، مسلحة بأدوات الدولة القانونية والقهرية، لن تجدي كل محاولات كاليتشدار أوغلو وحلفاؤه في طاولة الستة في كبحها. أما إن فاز أردوغان وتحالف الشعب في الانتخابات، فستكون أمامه خمسة أعوام كاملة لإعداد ورثة أكْفاء، يستطيعون الحفاظ على المكتسبات التي حققتها الأغلبية التركية المحافظة في

العقدين الماضيين، والمضي في ذات الطريق الذي شقَّه العدالة والتنمية، سواء فيما يتعلق بأولويات الداخل التركي، أو السياسة الخارجية.