اجتمع زعماء الاتحاد الأوروبي في العاصمة البلجيكية بروكسل خلال يومَي 23 و24 مارس الجاري؛ حيث ناقش القادة عدداً من الملفَّات الهامة، وعلى رأسها استمرار دعم الاتحاد الأوروبي لأوكرانيا، ومناقشة إجراءات تجنُّب أزمة الغذاء العالمية، فضلاً عن وسائل تعزيز القدرة التنافسية لدى الاقتصاد الأوروبي، ولا سيما مناقشة ملف الهجرة وتعزيز التكامل الأوروبي في مواجهة التنافس الأمريكي–الصيني؛ وذلك وسط توترات بين ألمانيا وفرنسا حول عدة مسائل، على رأسها الطاقة النووية، وتعرُّض الاقتصاد الأوروبي للعديد من الصدمات الخارجية، بجانب الانقسام حول آليات تقديم الدعم إلى أوكرانيا.
ملفات القمة
هيمنت على القمة الأوروبية العديد من الملفات التي تقع على عاتق صانعي ومُتخذي القرار الأوروبيين، ويمكن إيجاز أبرزها على النحو التالي:
1– مواصلة الدعم الأوروبي لأوكرانيا: بجانب توفير دول الاتحاد الأوروبي نحو 73 مليار دولار لأوكرانيا منذ بداية الحرب في فبراير 2022، صادق القادة على خطة أوروبية – تمت الموافقة عليها مسبقاً – بإرسال مليون طلقة من ذخيرة المدفعية إلى أوكرانيا خلال العام المقبل؛ وذلك لمساعدة البلاد في مواجهة القوات الروسية.
هذا وقد أعلن منسق السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل” أنه قد حصل على الموافقة على حزمة مساعدات عسكرية بقيمة مليارَي يورو لكييف، منها مليار يورو لتشجيع الدول الأعضاء على توفير قذائف مدفعية من مخزوناتها الحالية وأي طلبات معلقة، بجانب مليار يورو أخرى لتسريع الطلبات الجديدة، وتشجيع البلدان على العمل معاً في عمليات شراء الأسلحة لدعم أوكرانيا في حربها.
2– أزمة الغذاء العالمية: أجرى زعماء الاتحاد الأوروبي محادثات مع الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو جوتيريش”، بشأن أزمة الغذاء العالمية؛ حيث جاءت القمة الأوروبية بعد أيام من تجديد الاتفاق الذي توسَّطت فيه الأمم المتحدة وتركيا بشأن التصدير الآمن للحبوب الأوكرانية عبر البحر الأسود، الذي يُنظَر إليه على أنه حاسم للتغلُّب على أزمة الغذاء العالمية.
وفي هذا الصدد، أوضح المستشار الألماني أولاف شولتز، أن الكتلة تريد ضمان ألا تؤدي الحرب الروسية–الأوكرانية إلى انعدام الأمن الغذائي في العالم؛ وذلك من خلال ضمان استمرار صادرات الحبوب. في المقابل، حذر رئيس الوزراء الإستوني “كاجا كالاس” من أي تخفيف للعقوبات على موسكو باعتبار ذلك مقابلاً لاتفاق الحبوب، بل دعا إلى تشديد سقف أسعار صادرات النفط الروسية، لفرض مزيد من الضغط على روسيا في حربها.
3– الاعتراف بالطاقة النووية النظيفة: هناك ضغط فرنسي من أجل اعتراف الاتحاد الأوروبي بأن الطاقة النووية لها دور تلعبه في مستقبل أوروبا الأخضر؛ إذ يُعتبَر الاعتراف بالطاقة النووية مصدراً للطاقة منخفض الكربون معركة أساسية لفرنسا؛ حيث تحاول ضمان توجيه المزيد من التمويل نحو أسطولها النووي الحالي؛ وذلك في إطار طرح التكتل استراتيجية صناعية جديدة تهدف إلى تملُّك الاتحاد 40% من التكنولوجيا الرئيسية التي تحتاجها لمكافحة تغير المناخ، مثل الألواح الشمسية وتوربينات الرياح التي يتم بناؤها داخل حدوده بحلول عام 2030؛ لذا تحرص فرنسا على وجه الخصوص على إضافة الطاقة النووية إلى قائمة المشاريع الأكثر تفضيلاً المعترف بها في إطار الاستراتيجية الصناعية، خاصةً في ظل المقاومة الشرسة من قبل دول مثل ألمانيا وإسبانيا والنمسا والدنمارك وأيرلندا ولوكسمبورج.
4– التعامل مع مشكلات اللجوء والهجرة: تحدَّث رئيس المجلس الأوروبي “شارل ميشال” باقتضاب عن ملف الهجرة أثناء القمة، وأوضح أنه خلال القمة الأوروبية التي عُقدت في فبراير الماضي، تم تكليف المجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية بمراجعة تنفيذ استنتاجات الكتلة بشأن ملف الهجرة، باعتباره تحدياً يتطلَّب استجابة أوروبية؛ وذلك بما يتماشى مع مبادئ الاتحاد الأوروبي وقيمه والحقوق الأساسية، مع التركيز على زيادة العمل الخارجي، والسيطرة الفعالة على الحدود الخارجية للاتحاد، باعتبار ذلك سبيلاً لمواجهة التدفق المتزايد للمهاجرين.
5– تعزيز التكامل الأوروبي في مواجهة الولايات المتحدة والصين: اتفق زعماء الاتحاد الأوروبي على دعم تجديد السوق الموحدة، وتبسيط اللوائح وتقليل الأعباء البيروقراطية، مثل تسريع إجراءات منح التصاريح للمشاريع الخضراء أو الرقمية، وخطوات أخرى لضمان قدرة الاتحاد على منافسة الولايات المتحدة والصين بصفته رائداً صناعياً في التقنيات الخضراء والرقمية، خاصةً بعد أن أثيرت مخاوف من الاتحاد الأوروبي من هجرة الصناعة الأوروبية؛ وذلك نتيجة إصدار الرئيس الأمريكي جو بايدن، قانون خفض التضخم الأمريكي، الذي يقدم 369 مليار دولار من الإعانات الخضراء للصناعة في الولايات المتحدة.
6– ضرورة الاستجابة للتحديات الاقتصادية والمالية: قلَّل قادة الاتحاد الأوروبي من مخاطر حدوث أزمة مصرفية ناجمة عن الاضطرابات المالية العالمية الأخيرة، وتضر بالاقتصاد بدرجة أكبر من أزمة الطاقة المرتبطة بالحرب الأوكرانية؛ حيث يسعى هؤلاء القادة إلى تهدئة المخاوف بشأن مخاوف المستهلكين الأوروبيين من المشاكل المصرفية في الولايات المتحدة وسويسرا، مُدَّعين بعد اجتماع بروكسل أن المقرضين في أوروبا يتمتَّعون بأوضاع جيدة تُمكِّنهم من تحمُّل مزيج من ارتفاع أسعار الفائدة وتباطؤ النمو الاقتصادي.
بيد أنه في علامة على توتر السوق المصرفية في أوروبا، تراجعت أسهم دويتشه بنك أكبر بنك في ألمانيا، بنسبة 14% في فرانكفورت في يوم الجمعة الماضي ثاني أيام القمة، وهو التراجع الذي أدى بدوره إلى انخفاض أسهم المقرضين الأوروبيين الآخرين، في أعقاب الارتفاع الحاد في تكلفة المشتقات المالية المعروفة باسم “مقايضات التخلف عن السداد”، التي تؤمن حاملي السندات ضد تخلف البنك عن سداد ديونه، في حين رفض المستشار الألماني فكرة وجود نقاط ضعف أساسية في دويتشه بنك، بل يعتبر أنه لا مبرر يدعو إلى القلق.
والجدير ذكره أن الاقتصاد الأوروبي يشهد تباطؤاً سريعاً منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، التي غذت بدورها التضخم نتيجة انخفاض إمدادات النفط والغاز الطبيعي والفحم الروسي التي كانت وفيرة في السابق، وأدت إلى إضعاف ثقة المستهلك ومجتمع الأعمال الأوروبي. وتتوقع المفوضية الأوروبية أن يتباطأ النمو الاقتصادي في الكتلة المكونة من 27 دولة إلى 0.8% هذا العام مقارنة بـ3.5% في عام 2022.
دوافع الخلاف
بالرغم من التوافق الأوروبي على بعض الملفات، فإن القمة الأخيرة كشفت عن مدى عمق الخلاف الداخلي بين الدول الأعضاء في التكتل، وهو ما ظهر جلياً في العديد من المؤشرات؛ قد يكون أبرزها:
1– التباين حول الدعم الأوكراني: رفضت المجر المشاركة في خطة إمداد أوكرانيا بالذخيرة، مشيرةً إلى التزامها بالسلام، لكنها قالت إنها لن تمنع الأعضاء الآخرين من القيام بذلك، كما منعت المجر الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي من إصدار بيان مشترك حول مذكرة توقيف دولية ضد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وفي الشهر الماضي، اتهم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، الاتحاد الأوروبي بأنه مسؤول جزئياً عن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، من خلال فرضه عقوبات على روسيا، وتزويد أوكرانيا بالمال والأسلحة، بدلاً من السعي للتفاوض على السلام مع موسكو، كما استبعد الرئيس البلغاري رومين راديف، تسليم القذائف لأوكرانيا، معلناً أن بلاده ستدعم أي جهود دبلوماسية أوروبية لاستعادة السلام.
2– انقسام الحكومات الأوروبية حول الطاقة النووية: انقسم الاتحاد الأوروبي إلى معسكرين فيما يخص اعتبار الطاقة النووية طاقة خضراء: الأول مُعارِض بشدة، ويضم دولاً مثل ألمانيا والنمسا ولوكسمبورج؛ حيث عارض رئيس وزراء لوكسمبورج “كزافييه بيتيل” الطاقة النووية بشدة، وقال إنه سيكون من الوهم وضع علامة خضراء على هذا القطاع، باعتباره ليست آمناً، ولا رخيصاً ولا صديقاً للمناخ.
أما المعسكر الثاني فمؤيد، ويشمل دولاً مثل التشيك وبولندا؛ إذ أيد رئيس الوزراء البولندي “ماتيوز مورافيكي” منح الطاقة النووية المكانة التي تتمتع بها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح؛ حيث تكون مؤهلة للحصول على تمويل من الاتحاد الأوروبي، خاصةً أن التكتل لا يمتلك التكنولوجيا الكافية لتخزين مصادر الطاقة المتجددة.
3– الخلاف حول الصفقة الأوروبية الخضراء: هدد الخلاف المتنامي بين فرنسا وألمانيا، الذي أشعلته الخلافات حول الطاقة النووية ومحركات الاحتراق، القمة الأخيرة؛ إذ فاجأت ألمانيا الدبلوماسيين الأوروبيين عندما شنت حملة معارضة؛ لمنع الموافقة النهائية على اللائحة المقترحة التي من شأنها أن تفرض خفضاً بنسبة 100% على انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للسيارات والشاحنات المَبيعة؛ وذلك من خلال حظر أي مبيعات للسيارات التي تعمل بالوقود الأحفوري اعتباراً من عام 2035؛ حيث يعتبر القانون أحد الأجزاء الرئيسية في الصفقة الأوروبية الخضراء، كما يعد مفتاح خطة بروكسل الطموحة لتصبح اقتصاداً “محايداً مناخياً” بحلول عام 2050. وبالرغم من أن القانون قد كان مثيراً للجدل منذ بدايته، فإنه نجح في البقاء على قيد الحياة أثناء المفاوضات التي جرت بين مجلس الاتحاد الأوروبي والبرلمان الأوروبي.
بيد أنه في اللحظة الأخيرة، خرجت ألمانيا – التي تستضيف صناعة سيارات عالمية المستوى – لتُعبِّر عن معارضتها القانون، وطالبت بإعفاء الوقود الإلكتروني، وهي تقنية ناشئة تجمع بين الهيدروجين وثاني أكسيد الكربون، لإنتاج أنواع وقود جديدة يمكن صبُّها في الوقود التقليدي، بل تطالب الاتحاد الأوروبي بتقديم تأكيدات بأن القانون سيسمح ببيع السيارات الجديدة بمحركات الاحتراق التي تعمل بالوقود الاصطناعي، كما تهدف وزارة النقل الألمانية إلى الحصول على ضمانات بأنه يمكن بيع سيارات محركات الاحتراق الجديدة بعد ذلك التاريخ، إذا كانت تعمل بالوقود الإلكتروني، وهو طلب تدعمه شركات قطع غيار صناعة السيارات القوية في ألمانيا.
وفي هذا الصدد، أعلن الاتحاد الأوروبي وألمانيا، يوم 25 مارس الجاري، عن التوصل إلى اتفاق يضع حداً للخلاف حول مشروع حظر إنتاج السيارات العاملة بالوقود الأحفوري، ويسمح الاتفاق بتسجيل المركبات الجديدة العاملة بهذه المحركات حتى بعد عام 2035، بشرط استخدامها لوقود محايد مناخياً فقط.
4– الجدل حول تأمين الحدود الأوروبية من المهاجرين: في خلاف حول تفسير كلمة “تأمين الحدود الخارجية”، تبنَّى جناح تمثله ألمانيا، فكرة التعاون مع الدول على حدود التكتل من الناحية الشرقية؛ للحد من حالات العبور، والاتفاق على آلية مشتركة لتوزيع المهاجرين العابرين للحدود بشكل متناسب على جميع دول التكتل؛ لتخفيف العبء على دول دون غيرها. بيد أن هناك جناحاً آخر، تمثله دول مثل النمسا والمجر، يتبنَّى مقاربة أكثر تشدداً، ترمي إلى وضع إجراءات أمنية غير مسبوقة تمنع عبور اللاجئين تماماً؛ إذ يريد مستشار النمسا كارل نيهامر، تشييد سياج مرتفع وفعَّال، مشابه للذي يُبنَى بين الولايات المتحدة والمكسيك، على الحدود الشرقية للاتحاد الأوروبي، على أن يُراقَب تقنياً وبشرياً باستمرار؛ من أجل احتواء الهجرة غير الشرعية.
بيد أن المقترح النمساوي سيُثير كثيراً من المشاكل في الاتحاد الأوروبي أكثر ما يحل أزمة الهجرة؛ لأن قضية الجدار ارتبطت منذ أن طرحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب باعتبارها حلاً لقضية الهجرة غير الشرعية، بكثير من الانتقادات والاتهامات بانتهاك حقوق الإنسان والفصل، لا سيما أن فكرة الجدار لا تزال حساسة في أوروبا منذ سقوط جدار برلين عام 1989.
ختاماً.. من المستبعد القول بأن الخلافات الداخلية الناشئة بين الدول الأعضاء للاتحاد الأوروبي قد تهدد من استمراريته، بيد أنها تكشف عن تضخم حجم التحديات التي يواجهها التكتل، والتي من شأنها عرقلة جهوده في تعزيز أطر التكامل الداخلية به، خاصةً في ظل تعرضه لمجموعة من التهديدات الجيوسياسية الناجمة عن الحرب الأوكرانية، ناهيك عن الأزمة المصرفية القائمة في العديد من دول العالم. ومن ثم، من المتوقع أن يُعجِّل الاتحاد خطواته التنفيذية لاستيعاب تلك المخاطر والمشكلات الداخلية؛ حتى لا تتفاقم أزماته إلى حدود خارجة عن سيطرته.