تصاعدت معضلة الحضور الفرنسي في أفريقيا، وخصوصاً في منطقة الساحل الأفريقي، خلال السنوات الماضية؛ حيث تتنوع أشكال التعبير عن تصاعد الإدانة الشعبية للدور الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي، التي تراوحت بين حوادث سرقة تستهدف المصالح الاقتصادية والمؤسسات التجارية الفرنسية، واتهامات للجانب الفرنسي بالحصول على عقود مريبة وبفرض أسعار باهظة، وكذلك اعتراض المواكب العسكرية ومحاصرتها، علاوةً على انتشار تظاهرات منددة بالوجود العسكري الفرنسي منقولة بالصوت والصورة عبر وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، تتخللها هتافات تنادي بإسقاط فرنسا.
اتجاهات دعائية
تتجسد الدعاية المناهضة التي تتناول دور فرنسا في دول الساحل الأفريقي في عدة نقاط يجري الترويج لها بقوة، ونشير إلى أهمها فيما يأتي:
1– الترويج لدور باريس في زعزعة استقرار الدول: أصبح قادة الدول الأفريقية الفرانكفونية يجدون أنفسهم محاصَرين بين المطالب الداخلية التي تناشِد المزيد من التحرر عن فرنسا وكف يدها عن التدخل في تسيير شؤونهم الداخلية، وبين الضغوط التي تمارسها السلطات الفرنسية من أجل تحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية، خصوصاً أن أغلب هؤلاء القادة موجودون في مراكزهم منذ عقود بدعم فرنسي، ويعلمون جيداً مغبة معارضة الإرادة الفرنسية التي غالباً ما يؤدي عدم الاستجابة لها إلى زعزعة أركان حكمهم أو حتى الإطاحة بهم.
وفي هذا الصدد، تروج الدعاية المضادة لفرنسا أن معارضة باريس قد تعني زعزعة استقرار الحكم الداخلي، ويتم استدعاء بعض الشواهد التاريخية على ذلك، كالذي حصل – على سبيل المثال – مع الرئيس الغيني السابق أحمد سيكو توري Ahmed Sikou Touré الذي تجرأ بالقول أمام الجنرال ديجول بأنه “يُفضِّل الفقر مع الحرية على الغنى في ظل العبودية”، ومن ثم قررت الاستخبارات الفرنسية العمل على إضعافه بعد ظهور استدارته نحو الاتحاد السوفييتي، وأيضاً من خلال ما حصل مع الرئيس البوركيني السابق توماس سانكارا Thomas Sankara الذي كان مقرباً من الاتحاد السوفييتي وكوبا، والذي حوَّل اسم بلاده من فولتا العليا إلى بوركينا فاسو. ويشار إلى أن المخابرات الفرنسية دعمت انقلاباً ضده في عام 1987، كما لا يزال حاضراً في الأذهان تدخل فرنسا العسكري في 2011 في ساحل العاج لإيصال الحسن وتارا إلى كرسي رئاسة الدولة، بعد أزمة دموية ذات خلفية انتخابية تم تفسيرها على أنها تصفية حسابات مع منافسه الرئيس السابق لوران جباجبو. واللافت أن بعض قادة الدول الأفريقية بدؤوا يُفضِّلون، في الآونة الأخيرة، إغضاب فرنسا على إظهار التعاون معها؛ لاتقاء شر النقمة الشعبية الداخلية؛ نظراً إلى ترسخ الشعور المُعادي لفرنسا.
2– اعتبار الوجود العسكري الفرنسي كقوة احتلال: شهدت النظرة إلى الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا تحولاً بارزاً؛ حيث إن الاعتراض عليه خرج من دائرة النخب والمفكرين ليصبح منتشراً لدى العامة وفي الشارع؛ فالجنود الفرنسيون الذين كانوا يُنظَر إليهم كأبطال في عام 2013 بعد تمكُّنهم من إيقاف تمدد الحركات الجهادية في مالي، أصبحوا بعد عشر سنوات من التدخل غير مُرحَّب بهم في العديد من الدول، وخصوصاً مالي وبوركينا فاسو؛ إذ أُجبرت فرنسا على الإعلان عن إخلاء قواعدها العسكرية من هاتين الدولتين في 17 فبراير 2022 (5500 جندي فرنسي في مالي ضمن عملية برخان) وفي 23 يناير2023 (400 جندي في بوركينا فاسو)، حتى إن عملية إعادة توزيع هذه القوات التي نُقلت إلى الدول الأخرى التي تعتبر أنها ما زالت حليفة لفرنسا في تلك المنطقة، لم تَخْلُ من التعقيدات؛ حيث طالبت أربع نقابات عمالية كبرى في النيجر(إحدى وجهات إعادة التوزيع)، من خلال بيان موحد في فبراير 2023، بتفكيك القواعد العسكرية الأجنبية في أقرب فرصة، وبترحيل كل قوى الاحتلال الموجودة بشكل غير شرعي على الأراضي النيجرية؛ وذلك دون أي شرط.
3– شبهة التواطؤ مع الإرهابيين: تذهب بعض الانتقادات التي تُوجَّه إلى فرنسا إلى حد اتهامها بالتآمر مع الحركات الإرهابية؛ بهدف إحكام سيطرتها أكثر على دول الساحل. وتنطلق هذه الانتقادات من تساؤلات حول كيفية تفسير فشل فرنسا في هزيمة الجماعات المسلحة، على الرغم من كل الإمكانات العسكرية والمخابراتية التي تتمتع بها. هذه الشبهة بالتواطؤ تُدين – في عقول المعتقدين بها – الاستراتيجية التي تدَّعي فرنسا اتباعها في العلن لمواجهة الحركات الجهادية، القائمة على مقاربة “الأمن الكلي” Tout sécuritaire التي ترفض اللجوء إلى خيار الحل السياسي لمعالجة الأزمة التي تضرب دول الساحل، والمتمثلة في تزايد الهجمات الإرهابية؛ فكيف لفرنسا أن ترفض في العلن التفاوض مع هذه المجموعات المسلحة على اعتبار أنها إرهابية، ولأنه لا حوار مع الإرهاب، في حين أنها في الخفاء تتواطأ معها؟!
بالإضافة إلى ذلك، فإن النظام الحاكم في مالي قدم شكاوى إلى الأمم المتحدة في أكتوبر 2022 يتهم فيها فرنسا بتسليح الإرهابيين، مدعياً أنه يمتلك أدلة على ذلك، وكان قد سبق ذلك، في ديسمبر 2019، انتشار فيديوهات مركبة على وسائل التواصل الاجتماعي تحاول الإيحاء بتسليم القوات الفرنسية دراجات نارية لمقاتلي إحدى الحركات الإرهابية في مالي. وعلى الرغم من نفي كل من الجيشَين المالي والفرنسي، فإن ذلك لم يمنع من تزايد شعبية هذه الفكرة.
4– استحضار الماضي الاستعماري لفرنسا: تحاول الدعاية المضادة لباريس ضرب المصداقية الفرنسية بإظهار افتقار مواقف فرنسا إلى الترابط، واندراجها تحت خانة الكيل بمكيالين، والخطاب المزدوج؛ فمثلاً، تحت حجة احترام القيم الديمقراطية، شككت فرنسا في شرعية الأنظمة المنبثقة عن الانقلابات العسكرية في مالي وبوركينا فاسو مؤخراً، فيما اعترفت بمحمد إدريس ديبي رئيساً لتشاد رغم قيامه أيضاً بانقلاب عسكري في أبريل 2021؛ ما يثير تساؤلات حول حقيقة الدعم الفرنسي الذي يبدو أنه يُمنَح أو يُحجَب وفقاً لاصطفاف الأنظمة حيال المصالح الفرنسية.
هذه الصورة مع غيرها، تُحيل الأجيال الجديدة في غرب أفريقيا إلى استذكار ماضي فرنسا الاستعماري، الذي يرتكز عليه البعض من أجل التعبئة ضد فرنسا عبر تحميلها مسؤولية تأخر تلك الدول وإعاقة تقدمها؛ حيث إن زرع هذه الفكرة في الأذهان، كفيل بتحفيز النضال الشعبي ضد أي مظهر من مظاهر الوجود الفرنسي، سواء كان عسكرياً أو دبلوماسياً أو حتى تجارياً.
مقاربة فرنسية
تحاول باريس استقراء تصاعد الموجة الدعائية المناهضة لها؛ وذلك لمحاولة تفسيرها والتعامل معها. ويمكن تلخيص أبرز وجهات النظر الناتجة عن محاولات الاستقراء هذه، فيما يأتي:
1– التعامل مع الدعاية من زاوية المنافسة على النفوذ: انتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في القمة الفرانكفونية بتونس في نوفمبر 2022، بعض “القوى” التي تريد أن تفسد صورة فرنسا في أفريقيا، فيما أشارت وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، بوضوح إلى دور لروسيا في هذه المسألة، حين اعتبرت في ديسمبر 2022 أن تلويح المتظاهرين بالأعلام الروسية بعد عدة أيام من الانقلاب الأخير في بوركينا فاسو، وترديدهم شعارات معادية لفرنسا؛ أمر مثير للقلق.
وتَعتبر أغلب الأوساط الفرنسية المتابعة لتفاقم الشعور المعادي لفرنسا Sentiment Anti Français أن دور الدعاية الروسية، على الرغم من أهميته، لا ينبغي أن يؤدي إلى تجاهل ما تفعله دول أخرى مثل الصين وتركيا في هذا المجال؛ حيث إن الصين تتبنى خطاباً مشابهاً للخطاب الروسي في أفريقيا، لكنها تقوم بدعاية أقل، فيما تركز تركيا على اتهام فرنسا برهاب الإسلام Islamophobie، واستغلت قضية اغتيال صمويل باتي بشكل كبير لاتهام فرنسا بالعنصرية.
ولكن تبقى روسيا هي الأنشط والأكثر كفاءةً (حسب وجهة النظر السابقة) في الضغط على النفوذ الفرنسي من خلال وسائل إعلامها ووسائط التواصل الاجتماعي التي تُديرها وتدرب ناشطين على إدارتها؛ وذلك باللجوء إلى ذكر مصادر وهمية لا يمكن التأكد منها، وكذلك بالتركيز على مواضيع تثير الجدل، كتغطية موضوع ضلوع جنود فرنسيين بعمليات اغتصاب في جمهورية أفريقيا الوسطى.
هذا وتجدر الإشارة إلى أن روسيا كثفت حملاتها الدعائية في أفريقيا ضد فرنسا وعلى الغرب بمجمله، مع بداية الحرب في أوكرانيا، مركزةً على مسألة ترك الطلاب الأفارقة عالقين ومعزولين عن أي مساعدة بعد اندلاع الصراع العسكري في أوكرانيا. أما المقابل الذي تسعى روسيا إلى الحصول عليه من وراء هذه الحملات فليس أقل من تجنُّب محاولات عزلها على الساحة الدولية، وتقليص دائرة الدول التي تقبل بمجاراة الغرب في فرض عقوبات عليها. وربما تجلى ذلك في التصويت على القرار الذي يطالب بإدانة روسيا وبسحب قواتها فوراً من أوكرانيا في الأمم المتحدة في مارس 2022؛ حين جاءت نصف الدول تقريباً التي لم تؤيد هذا القرار من أفريقيا.
2– تأكيد اختراق تيار الوحدة الأفريقية: يرى جزء واسع من المراقبين الفرنسيين، أن الانتقادات الأكثر قسوةً تجاه السياسة الفرنسية في أفريقيا، تخرج من ناشطين أفارقة ينضوون تحت لواء تيار فكري واسع ينادي بتطوير الوحدة الأفريقية، وتقوية أواصر التضامن بين الأفارقة، وهو تيار الوحدة الأفريقية Pan–africanism أو الأمة الأفريقية. وبعض هؤلاء الناشطين ينسقون مواقفهم فيما بينهم على شبكات التواصل الاجتماعي ومن خلال إطلالاتهم التلفزيونية لسرد الممارسات والأساليب النيو–استعمارية التي تستخدمها فرنسا؛ وذلك للتأثير على عشرات الآلاف من متابعيهم من فئة الشباب.
ويجزم بعض المحللين الفرنسيين بأن استراتيجية بعض هؤلاء الناشطين رُسمت بدقة للتركيز على هدف محدد فقط هو تشويه صورة فرنسا، راسمين علامات استفهام حول مدى ارتباط هؤلاء بروسيا. ويبرز تبني فرنسا فكرة تلاعب بعض الأطراف بأبناء أفريقيا من خلال اعتبار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أثناء اللقاء الذي جمعه بسفراء فرنسا في سبتمبر 2022، أن القارة الأفريقية أصبحت المختبر المفضل لشن الهجمات على فرنسا.
3– صياغة سياسات جديدة للوجود: هناك وجهات نظر فرنسية تدعو إلى التعلم من سلسلة الإخفاقات السياسية والدبلوماسية في أفريقيا، وإلى ترجمة ذلك إلى خطوات عملية، مثل عدم الوجود في الصف الأمامي من المواجهات العسكرية؛ حتى لا يتم النظر إلى هذا الوجود على أنه قوة احتلال، وكذلك عدم القيام بـأي تحرك على الأرض من دون الحصول على موافقة السلطات المحلية، كما يجب التنبه إلى مدى الحساسية الذي أصبح يثيره مظهر الجندي الفرنسي الذي يرتدي لباسه الرسمي خلال مهمات التعاون داخل الدول الأفريقية.
كما أن الأجيال الشابة في أفريقيا لا تريد تكرار تجربة فرانس–أفريك Françafrique أي أن تتعامل فرنسا مع مستعمراتها السابقة كأنها وصية عليها، وتتدخل في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية لتحويل كل ما يمكن تحويله من مكاسب ومواد أولية لمصلحة الطرف الفرنسي وحلفائه. وربما تحاول السياسة الأفريقية الجديدة التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي في فبراير 2023 خلال مؤتمر صحفي، الإيحاء بهذا التحول؛ حيث تضمنت هذه السياسة خطة لخفض عدد الجنود الفرنسيين في أفريقيا بشكل وازن في الأشهر القادمة، وإعادة تسمية القواعد والمرافق العسكرية، وتحويل بعضها إلى أكاديميات تدار بالشراكة مع الدول الأفريقية التي توجد على أراضيها.
4– الحرص على الاستمرارية بصورة مغايرة: يرى البعض أن ما أعلنه الرئيس ماكرون ليس قطعاً مع الماضي بقدر ما هو استمرارية لكن بشكل مختلف؛ أي أن ماكرون بقي وفياً لنفسه ولسياسة “في الوقت نفسه” En meme temps؛ أي أنه وازن بين رؤية الدبلوماسيين والنخب بضرورة القطع مع الماضي العسكري لفرنسا في القارة السمراء الذي يسيء لعلاقة فرنسا مع الدول الأفريقية، وبين مصالح فرنسا الاستراتيجية التي لا تريد أن ترى نفسها تخسر دوائر نفوذ أخرى داخل حديقتها الخلفية Pré–Carrée بعد مالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى؛ حيث إنه لم يغلق القواعد العسكرية نهائياً.
5– التوجه نحو دول أفريقية غير فرانكفونية: أمام المعاناة والانتكاسات الكبيرة التي منيت بها فرنسا داخل حيز نفوذها التاريخي في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، ونظراً إلى صعوبة مواجهة تصاعد الشعور المعادي لها داخل هذا الحيز، ربما يكون الخيار الفرنسي هو التوجه لبناء شراكات جديدة مع دول أفريقية غير فرانكفونية لم تكن خاضعة من قبل للاستعمار الفرنسي.
وانطلاقاً من هذا الافتراض، توقف المراقبون كثيراً أمام شمول جولة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” الأفريقية الأخيرة في مارس 2023، دولة أنجولا التي تعد ثالث أكبر اقتصاد في القارة الأفريقية. وربما يقود نجاح تجربة التعاون الفرنسي مع أنجولا إلى تعميم هذا النموذج وتوسيعه بشكل أكبر؛ حيث يمكن لفرنسا أن تقدم لأنجولا أو للدول الأفريقية المشابهة لها، خبراتها في المجالات الزراعية والصناعية مقابل حصولها على مكاسب على صعيد الطاقة والانتشار داخل أفريقيا.
وختاماً.. فإنه في الوقت الذي تُفضِّل فيه بعض المقاربات الفرنسية ألَّا ترى انتشار الشعور المعادي لفرنسا في أفريقيا إلا نتيجةً لدعاية مضادة يقوم بها المنافسون على النفوذ ولا سيما روسيا؛ ترى مقاربات أخرى أن جزءاً من المسؤولية في حصول ذلك يقع على الأداء الفرنسي في تلك المنطقة، وأن المطلوب هو تصحيح هذا الأداء، والاستعاضة عن احتلال الأرض باحتلال العقول والقلوب.