تحرص حكومات الدول الكبرى، من آنٍ إلى آخر، على إصدار تقارير لتقييم الأوضاع على الساحة الدولية من وجهة نظرها. وبطبيعة الحال تأتي الولايات المتحدة والصين على رأس الدول التي تحرص على إصدار تقارير حول القضايا المعاصرة، لكن عادةً ما تأتي هذه التقارير كحلقة في سلسلة التنافس الدولي؛ حيث غالباً ما تعكس التقارير الصادرة عن وزارتي الخارجية الأمريكية والصينية، رؤية واشنطن وبكين لمصالحهما والأولويات المختلفة والمتضاربة للبلدين. في حين أن كلا البلدين قد يشتركان في بعض المصالح، مثل تعزيز النمو الاقتصادي والاستقرار؛ فغالباً ما يكون لديهما وجهات نظر مختلفة حول كيفية تحقيق هذه الأهداف، وما يشكل سلوكاً مقبولاً على الساحة العالمية. ومن هنا أثيرت التساؤلات حول دور تقارير وزارتي الخارجية في تشكيل العلاقات الأمريكية–الصينية.
مصالح متضاربة
تتعدد المجالات التي تُظهر حالة الصراع والتنافس الدولي وأولوية المصلحة الشخصية بين الولايات المتحدة والصين. ويمكن رصد هذا التضارب في المصالح، الذي يتبدى في التقارير الصادرة عن الدولتين، من خلال ما يأتي:
1– معركة الروايات حول حقوق الإنسان: تُصدِر وزارة الخارجية الأمريكية بانتظام تقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الصين – وهي من أبرز نقاط التضارب في المصالح – فقد وثَّق التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية الصادر في مارس 2023 حالة احترام حقوق الإنسان وحقوق العمال في 198 دولة وإقليماً؛ حيث أصدرت وزارة الخارجية تقريرها السنوي حول ممارسات حقوق الإنسان لأكثر من 40 عاماً.
وبوجه خاص، انتقد التقرير السنوي لوزارة الخارجية الأمريكية سِجل حقوق الإنسان في الصين، لا سيما فيما يتعلق بمعاملتها للأقليات العرقية والدينية، مثل الإيجور والتبتيين؛ حيث سلط التقرير الضوء على قضايا مثل العمل الجبري، والاحتجاز التعسفي، وتجارة الأعضاء، والقيود المفروضة على حرية التعبير، وحرية التنقل، والدين والاضطهاد، بما في ذلك السخرة، فضلاً عن الإجهاض القسري، والاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي.
وأضاف التقرير أن بعض النشطاء والمنظمات اتهموا حكومة بكين بانتزاع الأعضاء بالقوة من سجناء الرأي، بمن فيهم أتباع دينيون وروحيون، مثل أتباع الفالون جونج، والمعتقلين المسلمين في شينجيانج، وهو ما نددت به “إيرين باركلي” القائمة بأعمال مساعد وزيرة الخارجية لشؤون الديمقراطية وحقوق الإنسان والعمل بوزارة الخارجية؛ حيث أكدت مواصلة بلادها التركيز على ذلك باعتباره قضية تشمل مجموعة واسعة من قضايا حقوق الإنسان والاتجار.
لكن في المقابل، ترفض وزارة الخارجية الصينية هذه الاتهامات وتؤكد أن الصين قد أحرزت تقدماً كبيراً في تحسين مستوى المعيشة لمواطنيها وتعزيز التناغم الاجتماعي، كما تتهم الصين الولايات المتحدة بالنفاق وازدواجية المعايير في سجلها الخاص بحقوق الإنسان، وجادلت بأن سياسات الصين في شينجيانج كانت ضرورية لمكافحة التطرُّف والإرهاب.
2– صدام في وجهات النظر بشأن التجارة: حدد التقرير السنوي للممثل التجاري للولايات المتحدة، الصين دولةً ذات أولوية على قائمة المراقبة فيما يتعلق بانتهاكات الملكية الفكرية والممارسات التجارية غير العادلة، كما يثير أيضاً هذا الاتهام مخاوف بشأن الإعانات الصينية للشركات المملوكة للدولة والممارسات التنظيمية التمييزية.
ورداً على ذلك، اتهمت وزارة الخارجية الصينية الولايات المتحدة بالحمائية وانتهاك واشنطن قواعد منظمة التجارة العالمية، كما أصدرت الصين تقريرها الخاص حول التجارة، الذي يؤكد فوائد السياسات الاقتصادية للصين، وأكدت أهمية التجارة الحرة والعولمة، كما اتهمت الصين الولايات المتحدة باستخدام التجارة أداةً للحفاظ على هيمنتها.
3– المعركة من أجل الفضاء الإلكتروني: اتهمت الولايات المتحدة الصين بالضلوع بالتجسس الإلكتروني وسرقة الملكية الفكرية، بينما أثارت المخاوف بشأن شركات الاتصالات الصينية مثل “هواوي” ثم منصة “تيك توك”، متهمةً إياها بالتجسس واستخدام بيانات عملائها.
فيما نفت وزارة الخارجية الصينية هذه الاتهامات، وتجادل بأن الولايات المتحدة تستخدم مخاوف الأمن القومي ذريعةً لقمع التطور التكنولوجي للصين، كما اتهمت الصين الولايات المتحدة بالضلوع بهجمات إلكترونية ومراقبة، مشيرةً إلى ما كشف عنه “إدوارد سنودن” باعتباره دليلًا على نفاق الولايات المتحدة.
4– رفض صيني للهيمنة الأمريكية: أصدرت وزارة الخارجية الصينية في فبراير 2023 تقريراً بشأن الهيمنة الأمريكية ومخاطرها، بهدف فضح إساءة استخدام الولايات المتحدة للهيمنة في مختلف المجالات واستقطابها؛ لذلك تُوجِّه وزارة الخارجية الصينية انتباه المجتمع الدولي إلى فهم أكبر لمخاطر الممارسات الأمريكية على السلام والاستقرار في العالم أجمع، من خلال التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وإحداث التخريب والفوضى الدولية، وتعمد شن الحروب والإضرار بالمجتمع الدولي بأسره.
5– التركيز على اعتلال الديمقراطية الأمريكية: اتهمت الصين، في تقريرها المعنون “الديمقراطية الأمريكية في اعتلال مزمن”، الصادر في مارس 2023، الولايات المتحدة بإصدار أحكام تعسفية فيما يتعلق بتقييم مستوى الديمقراطية في البلدان الأخرى، وتلفيق روايات كاذبة عن “الديمقراطية مقابل الاستبداد” للتحريض على القطيعة والانقسام والمنافسة والمواجهة.
ويقول التقرير إن ما يحتاجه العالم اليوم ليس “قمة من أجل الديمقراطية” تثير المواجهة، ولا تساهم بأي شيء في الاستجابة الجماعية للتحديات العالمية، بل مؤتمر تضامن يركز على اتخاذ إجراءات حقيقية لحل التحديات العالمية البارزة. وأوضحت وزارة الخارجية الصينية أن الديمقراطية الأمريكية كانت في حالة من الفوضى في الداخل، وأن الولايات المتحدة خلفت وراءها سلسلة من الخراب والكوارث، بينما كانت تروج وتفرض ديمقراطيتها في جميع أنحاء العالم.
وبناءً عليه، اتهمت الولايات المتحدة بتوجيه هذه القمم لصالح صراعها الأشمل ضد الصين، فضلاً عن اتهامها بأن النسخة الجديدة من القمة المُقرر عقدها في 29 و30 مارس 2023، تهدف إلى مواجهة دول مثل روسيا باعتبارها خصماً، والصين باعتبارها منافساً، لا إلى الديمقراطية.
تداعيات متعددة
يمكن أن يكون للتقارير الدولية المتضاربة الصادرة عن وزارتي الخارجية الأمريكية والصينية عدة تداعيات، يمكن رصد أبرزها على النحو التالي:
1– تصعيد التوترات الدبلوماسية: يمكن للتقارير المتضاربة التي توجهها كل من الدولتين إلى الأخرى، أن تؤدي إلى تفاقم التوترات وإثارة الصراعات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين. وهذا يمكن أن يؤدي إلى انقطاع الاتصال والتعاون بين البلدين في مختلف القضايا؛ ما قد يكون له آثار مضاعفة على الاقتصاد العالمي والأمن والاستقرار.
2– تعزيز تباينات الرأي العام: يمكن لتلك التقارير أن تخلق رأياً عاماً متبايناً في الولايات المتحدة والصين؛ ما يجعل من الصعب على صانعي السياسة إيجاد أرضية مشتركة، والتوصل إلى توافق في الآراء بشأن القضايا الحاسمة، كما يمكن أن يؤدي هذا إلى انتشار المعلومات المضللة وسوء الفهم.
3– تعقيد مسارات التعاون الدولي: يمكن للتقارير المتضاربة أن تجعل من الصعب على الدول الأخرى أن تنحاز إلى جانب وأن تدعم دولة على أخرى. وهذا يمكن أن يعقد التعاون الدولي ويخلق نهجاً هشاً لمواجهة التحديات العالمية المعاصرة والحرجة، وهو ما حدث بالفعل؛ فعلى سبيل المثال، فإنه منذ عام 2020، تتهم وزارة الخارجية الأمريكية الصين بعرقلة الاستجابة العالمية لوباء COVID–19 من خلال حجب المعلومات ونشر المعلومات المضللة. في المقابل تُصدر الصين تقاريرها الخاصة التي تنتقد الولايات المتحدة لتسييس الوباء وتقويض التعاون العالمي. وأدت هذه التقارير المتضاربة إلى تعقيد الجهود الدولية للتصدي للوباء وتقويض الثقة بالمؤسسات العالمية.
4– تقويض الثقة بين بكين وواشنطن: يمكن للتقارير المتضاربة أن تقوض الثقة بين الولايات المتحدة والصين؛ ما يجعل من الصعب عليهما التعاون في تحقيق الأهداف المشتركة والتغلب على الخلافات سلمياً؛ فعلى سبيل المثال، اتهمت وزارة الخارجية الأمريكية الصين، في عام 2019، بالتراجع عن التزاماتها باحترام الحكم الذاتي لهونج كونج، بينما أصدرت الصين تقريرها الخاص الذي تتهم فيه الولايات المتحدة بالتدخل في شؤونها الداخلية؛ لذلك قوَّضت هذه التقارير المتضاربة الثقة بين البلدين وجعلت من الصعب عليهما العمل معاً في القضايا المتعلقة بهونج كونج وتايوان وغيرها من الموضوعات الحرجة.
5– توظيف التقارير في التحولات الراهنة في النظام الدولي: يحتمل أن تُوظَّف التقارير الصادرة عن كل من واشنطن وبكين في التحولات الراهنة في النظام الدولي، وخصوصاً في مرحلة ما بعد الحرب الأوكرانية؛ فالصين تنظر إلى التقارير التي تصدرها بأنها قادرة على تقويض صورة واشنطن لدى العديد من الدول التي باتت غير مقتنعة بالتماهي مع وجهة النظر والسياسات الأمريكية، كما تدرك بكين أن استمرار انتقاد التقارير الأمريكية الرسمية للأوضاع الداخلية في الدول الأخرى يزيد استياء هذه الدول، وخصوصاً أن هناك نبرة متصاعدة في الكثير من الدول تنتقد سياسات واشنطن، وهكذا قد تشكل هذه المعطيات فرصة للصين لتعزيز حضورها والتقارب مع الدول المستاءة من واشنطن.
وإجمالاً لما سبق، توضح هذه الأمثلة كيف أن لوزارتي الخارجية الأمريكية والصينية وجهات نظر مختلفة حول القضايا الرئيسية؛ ما يؤدي إلى تقارير متضاربة تعكس أولويات وجداول أعمال كل منهما. وفي حين أن الجانبين كليهما قد يشتركان في بعض الأهداف، مثل تعزيز النمو الاقتصادي والاستقرار، فإن وجهات نظرهما المختلفة حول وسائل تحقيق هذه الأهداف يمكن أن تؤدي إلى التوتر والصراع؛ لذلك يمكن للتقارير الدولية المتضاربة الصادرة عن الجانبين أن تكون لها آثار بعيدة المدى على العلاقات الثنائية، والاستقرار الإقليمي، والتعاون العالمي. وبناءً عليه، من الضروري لكلا البلدين الدخول في حوار بناء، والتحول من تبني مبدأ “المباراة الصفرية” إلى تبني مبدأ “Win–Win Game” من خلال العمل من أجل إيجاد أرضية مشتركة بشأن القضايا الحاسمة لمنع المزيد من تصعيد التوترات.