تأتي زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الصين بين 5 و7 أبريل 2023 لتتوج سلسلة من اللقاءات الدبلوماسية بين الطرفين: اجتماع الرئيسين الفرنسي والصيني في بالي في نوفمبر 2022 على هامش قمة مجموعة العشرين، وزيارة وزير الخارجية الصيني السابق وانج يي إلى باريس في فبراير 2023، ولقاؤه وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا، بالإضافة إلى مجموعة من الاتصالات المكثفة تكفَّل بإجرائها مستشار الرئيس الفرنسي إيمانويل بون. وعلى الرغم من كون هذه الزيارة هي الثالثة لماكرون إلى الصين منذ عام 2017، فإنها تأتي هذه المرة في سياق الحرب على أوكرانيا ومناقشة تداعياتها المشتركة على الدولتين. وسترافق رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين الرئيس الفرنسي في زيارته هذه لإظهار أن أوروبا تتكلم بصوت واحد، ولقطع الطريق أمام محاولات اللعب على الانقسامات الأوروبية.
محددات رئيسية
تكشف زيارة الرئيس الفرنسي إلى الصين عن مساعي باريس إلى تعزيز حضورها على الساحة الدولية، وتقديم نفسها طرفاً فاعلاً في الملفات المختلفة، وخاصةً أن الزيارة تأتي في وقت تتصاعد فيه حدة الأزمات بين بكين والدول الغربية. وفي هذا الصدد، يمكن استشراف الطريقة التي تُقيِّم بها فرنسا علاقتها بالصين، في ضوء الحرب في أوكرانيا، من خلال التوجهات التالية:
1. التباين مع واشنطن حول الصين: على الرغم من ظهور عدم واقعية خيار فصل روسيا عن الصين – وهو الخيار الذي ارتكز عليه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال ولايته الأولى؛ من أجل تبرير محاولاته فتح حوار مع روسيا؛ حيث ثبت أن هذا الخيار كان قبل كل شيء خياراً استراتيجياً معتمَداً من كلتا الدولتين – فإن وجهة النظر الفرنسية في التعاطي مع الصين ما زالت تختلف عن وجهة النظر الأمريكية. ويبرز ذلك من خلال عدة نقاط: النقطة الأولى هي عدم اقتناع باريس بجدوى الخطاب الأمريكي المتمثل في وضع الصين وروسيا ضمن سلة واحدة هي سلة الأنظمة الاستبدادية؛ لأن ذلك لا يخدم محاولات تشجيع الصين على إيقاف دعمها لروسيا.
والنقطة الثانية هي ترحيب باريس بالخطة الصينية لتحقيق السلام في أوكرانيا المُعلَنة في فبراير 2023؛ حيث اعتبر الرئيس ماكرون أن “مشاركة الصين في جهود السلام هو أمر جيد جداً”، في حين لم ترَ فيها واشنطن إلا تقديم خدمات إلى روسيا وحدها، بالإضافة إلى قيامها بالتشكيك في حيادية الصين التي تزامن إعلانُها عن الخطة مع امتناعها عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يدعو روسيا إلى سحب قواتها من أوكرانيا، كما تزامن مع تسرب معلومات عبر مجلة دير شبيجل الألمانية عن اعتزام الصين تزويد روسيا بالأسلحة. أما النقطة الثالثة فهي أن فرنسا – على عكس الولايات المتحدة – تصنف الصين شريكاً Partenaire وكمنافساً منهجياً Rival Systémique، وليست عدواً أو مصدر تهديد، وتَعتبِر فرنسا أن هذا الاعتدال في التعامل يجعلها شريكاً تستمع إليه الصين.
2. تشجيع الصين على القيام بوساطة في أوكرانيا: كان الرئيس الفرنسي ماكرون قد طلب أثناء اجتماعه مع الرئيس الصيني شي جين بينج في قمة مجموعة العشرين في بالي خلال نوفمبر 2022 بدخول الصين في وساطة من أجل خفض التصعيد في أوكرانيا. وعلى الرغم من تشكيك بعض وجهات النظر الفرنسية والأوروبية والأمريكية في حيادية الصين بصفتها وسيطاً في عملية السلام بين روسيا وأوكرانيا – بناءً على تبني الصين وجهة النظر الروسية باعتبار أوكرانيا تهديداً لأمنها، وبناءً أيضاً على زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج إلى موسكو والتقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد صدور قرار المحكمة الجنائية في حقه، وكذلك استقبال الرئيس “بينج” الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو في بكين في مارس 2023، في حين أنه لم يقم بأي مبادرة تواصل مباشر مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي منذ بداية الحرب في أوكرانيا؛ الأمر الذي دفع كييف إلى رد ذلك إلى تصلُّب بكين – فإن بعض الأوساط الفرنسية تعتبر أن من أهداف زيارة ماكرون إلى الصين في أبريل 2023 هو إقناع الرئيس الصيني بالاجتماع مع زيلينسكي أو على الأقل محادثته هاتفياً.
كما أن هذه الأوساط تتجاوز مسألة عدم وقوف الصين على مسافة متساوية بين طرفَي النزاع في أوكرانيا، معتبرةً أنه في مرحلة لاحقة، إذا تم العثور على حل سلمي لحرب أوكرانيا، فإنه يمكن للصين أن تلعب دور الضامن الأكبر لمصالح روسيا بين ضامنين آخرين لأوكرانيا. وبالنسبة إلى فرنسا فإن أي جهد يسير في اتجاه السلام هو جهد مُرحَّب به، ويسير في الاتجاه الصحيح؛ لأن الصراع في نهاية المطاف لن ينتهي إلا عبر الوسائل الدبلوماسية والتفاوض.
3. الضغط على الصين من أجل عدم إرسال الأسلحة إلى روسيا: لم تظهر أي دلائل حول مساعدة صينية للمجهود الحربي الروسي في أوكرانيا أكثر من شُبهة توفير أشباه الموصلات للمعدات العسكرية الروسية، على عكس إيران وكوريا الشمالية التي ثبت تزويدُها لروسيا بالأسلحة والذخيرة. ويتخوَّف الغرب من دخول السلاح الصيني إلى ساحة المعركة في أوكرانيا؛ لأنه سيُشكل عاملاً لكسر التوازن الذي عمل الغرب على ترسيخه خلال العام الأول من الحرب في أوكرانيا على طول جبهات القتال. وسيحاول الرئيس الفرنسي ماكرون إبلاغ جين بينج بوضوح أن أوروبا لن تقبل بأن تقدم بكين سلاحاً صينياً لاستخدامه على الأراضي الأوروبية (أي في أوكرانيا). وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين التي ستُرافق ماكرون في زيارته إلى الصين، قد استبقت هذه الزيارة باعتبار أن الطريقة التي ستتصرف بها الصين حيال حرب بوتين على أوكرانيا ستشكل عاملاً حاسماً في مستقبل العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين. ويندرج التشدد الفرنسي إزاء هذه المسألة في إطار قطع الطريق أمام أي نية صينية مستقبلية قد تظهر لتسليح روسيا، حتى في حال رؤيتها تخسر بما يمثل ذلك من نكسة استراتيجية لها.
وعلى الرغم من أن الصين قد تستفيد بشكل غير مباشر من الحرب في أوكرانيا من حيث إن هذه الحرب تشغل الولايات المتحدة الأمريكية، وتُشتِّت جهودها في محاصرة بكين في شرق آسيا وفي بحر الصين الجنوبي، ومن حيث إن إمداد روسيا بالسلاح قد يساعدها على إطالة ذلك الانشغال، فإن تذكير الصين من قِبل فرنسا وأوروبا بأن هذا الأمر لا يخص الأمريكيين فقط، وأن مستقبل علاقاتها الاقتصادية مع أوروبا على المحك، قد يكون له دور مؤثر في جعل الصين تُفكِّر كثيراً قبل الإقدام على أي خطوة من هذا النوع. وفي هذا السياق، اعتبر المفوض الأوروبي للسوق الداخلية والصناعة تييري بريتون – وهو فرنسي – في أبريل 2023، أن على الرئيس الفرنسي ماكرون أن يُذكِّر الصينيين بمدى حيوية السوق الأوروبية بالنسبة إليهم وبالشروط الأوروبية الصارمة للغاية للدخول إليها.
كما أن مواجهة الصين بتناقضاتها مع نفسها، في حال عزمت على إرسال أسلحة إلى روسيا، يمكن أن يشكل ورقة تستخدمها باريس، وخصوصاً أن بكين حريصة على اتخاذ مواقف على الصعيد الدولي لا تنقلب عليها فيما بعد؛ فكيف لها أن تفسر رفضها أي دعم عسكري تقدمه أي دولة إلى تايوان باعتبار أن تايوان أرض صينية تابعة لها، وفي الوقت نفسه تقوم هي بتقديم الأسلحة إلى روسيا التي تتدخل عسكرياً في دولة مستقلة ذات سيادة هي أوكرانيا؟!
4– وقف التلويح الروسي باستخدام الأسلحة النووية: تقرأ بعض الأوساط الفرنسية إعلان الصين رفضها استخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا، الذي لوحت به روسيا عدة مرات، على أنه نوع من أنواع الحياد. وكانت الصين قد ضمنت هذا الموقف في خطتها لتحقيق السلام في أوكرانيا عبر تبنيها فكرة تقليص الأخطار الاستراتيجية، وعدم استخدام الأسلحة النووية، وتجنب خوض حروب نووية، ومعارضة حتى التهديد باستخدام الأسلحة النووية أو نشرها.
ولقد رحَّب الرئيس الفرنسي ماكرون بهذه الخطة، داعياً الصين إلى المساعدة في الضغط على روسيا؛ حتى لا تستخدم أبداً أي سلاح كيميائي أو نووي، مشيداً في الوقت نفسه بجهود الصين لإدانة أي استخدام لهاتين الوسيلتين. وقد يستغل ماكرون قرار روسيا نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا مؤخراً لاختبار مدى جدية بكين في تبني هذه الفكرة، والمدى الذي يمكن أن تصل إليه في معارضتها لموسكو تجاهها، خصوصاً بعد إعلان الرئيس البيلاروسي لوكاشينكو ترحيبه باستقبال الأسلحة النووية التكتيكية والاستراتيجية الروسية على الأراضي البيلاروسية.
5– استمرار حضور فكرة الطريق الثالث في السياسة الفرنسية: يميل الأوروبيون، وخاصة الفرنسيين، وتحت وطأة السياسة الواقعية، إلى الارتياب بشأن استمرار مراعاة السياسات الأمريكية لمصالحهم، على الرغم من محاولات الرئيس الأمريكي بايدن القطيعة مع سياسات سلفه ترامب في هذا المجال، ولكن لا شيء يضمن استمرار ذلك في المستقبل. والحقيقة أن الصين يناسبها استغلال هذا الارتياب من أجل إضعاف التحالف الأطلسي، وتخفيض مستويات التعاون فيه، عبر تصويره للأوروبيين أنه ضار بمصالحهم.
والهدف الرئيسي للصين يكمن في تأمين علاقاتها التجارية مع الاتحاد الأوروبي (الصين هي الشريك التجاري الأول للاتحاد الأوروبي)، وتفادي أي عقبات اقتصادية أو تجارية مناهضة للصين يتبناها الاتحاد، ومن ثم فإنه كلما كان التقارب بين الولايات المتحدة (المناهِضة للصين) وأوروبا أقوى، زاد ذلك احتمالَ تبني أوروبا مثل هذه العراقيل؛ لأن الولايات المتحدة لن تتوقف عن سياسة احتواء الصين؛ لذلك فإن الصين يناسبها أوروبياً انتشار أفكار مثل فكرة “الاستقلالية الاستراتيجية” لأوروبا Autonomie Stratétgique européenne التي طرحها ماكرون في عام 2017 ويتبناها بقوة اليوم.
وفي المقابل، لم ينجح المعسكر الغربي في إقناع أغلب الدول التي تنتمي إلى ما يسمى ‘الجنوب العالمي” Sud Global بإدانة التدخل الروسي في أوكرانيا؛ لذلك فإن المحاولات التي يقوم بها “ماكرون” لتشجيع الصين على القيام بوساطة لتحقيق السلام، تهدف إلى إظهار نفسه (وفرنسا من خلفه) كالقادر على إحداث خرق في هذه الجبهة، ومن ثم العودة إلى رسم خط “الطريق الثالث” Troisième voie الذي اشتُهر به الجنرال ديجول الذي كان أول رئيس دولة غربية تعترف بالصين الشعبية في عام 1964، في تحول تاريخي لا بد أنه ما زال راسخاً في وجدان الصينيين. ولا غرابة أن خطاب ماكرون في زيارته الأولى إلى الصين في عام 2018، احتوى على هذه الجملة: "لم يكن الجنرال ديجول مخطئاً عندما قرر في عام 1964 الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية".
كما أن العديد من قراءات المحللين اعتبرت أن عدة بنود في الخطة الصينية المطروحة لتحقيق السلام هي بنود موجهة لمحاكاة أوروبا عبر التلويح الضمني بإحياء هذا الخيار الثالث، كبند رفض عودة الحرب الباردة، والبند الذي يتكلم عن عدم توسيع الأحلاف؛ حيث حاولت الصين عبرها إيصال فكرة إلى الأوروبيين مفادها أنها تُقدِّر وتستوعب ضخامة المُشكلة التي تُشكِّلها لهم الحرب في أوكرانيا.
اختبارُ جِدية
ستسمح زيارة ماكرون إلى بكين باختبار مدى جدية الصين في مناقشة مسألة إطلاق مفاوضات جِدية لإنهاء الصراع، وهي المسألة التي ستبقى مرهونة بتوقيت وإرادة لاعبين آخرين، كالرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي لا يريد البدء في التفاوض إلا بعد نجاح هجومه المضاد، الذي يعتبر الكثيرُ من المحللين أن كلمة السر الأخيرة في هذا المجال تأتيه من الولايات المتحدة الأمريكية لا من أوروبا، في الوقت الذي لا يميل فيه الرئيس الروسي بوتين إلى البدء في التفاوض إلا بعد الاعتراف بالمكاسب التي حقَّقها على الأرض، وهي المكاسب التي يرفض الاعترافَ بها حتى أقرب أصدقائه – وهي الصين – إلى الآن.