توجَد قواعد عالمية حاكمة في النظام الدولي الحالي، وهي قواعد مستقرة وراسخة منذ عقود، باعتبار أن التفاعلات المعقدة لعالم معولم لا يمكن إدارتها بدون معايير وإجراءات متفق عليها. وهذه القواعد تختلف الدول حول تطبيقها في ضوء التفسيرات المختلفة، وخصوصية الحالات التطبيقية. وفي ضوء هذا نشر موقع مجلة "فورين بوليسي" الاميركية مقالاً بعنوان "بعض قواعد السياسة العالمية تهم أكثر من غيرها" للكاتب ستيفن والت، وهو كاتب عمود في المجلة وأستاذ روبرت ورينيه بيلفر للعلاقات الدولية في جامعة هارفارد؛ ويمكن تناول أبرز ما جاء فيه على النحو التالي:
– 1مركزية قاعدة عدم الاستيلاء على أراضي الدول الأخرى: بالنسبة إلى الكثيرين في الغرب، فإن العنصر الأساسي الحاكم للنظام العالمي اليوم هو رفض “الغزو الإقليمي”؛ إذ أشار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الصيف الماضي، إلى أن تدخل روسيا في أوكرانيا قد تحدَّى “المبادئ الأساسية للسلام والأمن” وأضاف أن “أي بلد لا يمكنه ببساطة تغيير حدود دولة أخرى بالقوة أو إخضاع دولة ذات سيادة لإرادته أو أن يملي عليها خياراتها أو سياساتها”. وبحسب المقال، لم يختلق بلينكن هذا المبدأ؛ إذ ينص الفصل الأول من ميثاق الأمم المتحدة على أنه "يجب على جميع الأعضاء الامتناع في علاقاتهم الدولية عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة".
كما يُلزم الميثاق الدول كذلك بحل النزاعات بالوسائل السلمية. علاوةً على ذلك، تمنع اتفاقية جنيف الرابعة الدول من طرد سكان الأراضي المحتلة أثناء الحرب أو من نقل مواطنيها إلى هذه الأراضي، ومن ثم إقامة حاجز معياري آخر أمام الحصول على الأراضي بالقوة؛ فليس من المستغرَب أن تصبح الرغبة في التمسك بهذا المعيار مبرراً متكرراً للدعم الخارجي لأوكرانيا، خاصةً بعد ضم روسيا أربع مقاطعات أوكرانية.
2– ضبابية قاعدة “عدم التدخل” في الشؤون الداخلية للدول: بحسب المقال، تعود قاعدة عدم التدخل إلى قرون، لكنها مبدأ أكثر ضبابيةً، ومتنازَعٌ عليه أكثر من قاعدة منع الاعتداء؛ إذ إنه في عالم من الدول المترابطة، لا مفر من درجة معينة من التدخل؛ فعلى سبيل المثال، عندما يرفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي أسعار الفائدة، ستتأثر اقتصادات العديد من البلدان الأخرى بغض النظر عن السبب.
علاوةً على ذلك، يختلف الأشخاص (والحكومات المختلفة) حول ما يشكل تدخلاً غير لائق. ويعتقد الكثيرون أن هناك حالات يكون فيها التدخل مبرراً أو حتى مطلوباً، مثل منع الإبادة الجماعية، أو عندما تكون الحكومات الحالية غير قادرة على رعاية مواطنيها. وعلى القدر نفسه من الأهمية، كانت معظم الحكومات غير راغبةً في التخلي تماماً عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. ولم يمنع معيار “عدم التدخل” الحكومة الأمريكية من استخدام الأسلحة الإلكترونية، أو دعم الجماعات المناهضة للنظام في المنفى، أو فرض عقوبات اقتصادية، أو تنفيذ اغتيالات مستهدفة لمسؤولين أجانب. وفي سياق متصل، تشارك روسيا – وفقاً للمقال – في أنشطة الدعاية ووسائل التواصل الاجتماعي التي تهدف إلى تعطيل السياسات المحلية في البلدان الأخرى، وقد ابتعدت الحكومات في جنوب الكرة الأرضية عن الالتزام الصارم بعدم التدخل الذي تبنَّاه العديد منهم عقب إنهاء الاستعمار مباشرةً؛ فلقد تدخَّلت الحكومات الأفريقية مراراً وتكراراً؛ بعضُها في السياسات الداخلية لبعض، على الرغم من أن ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية ينص صراحةً على "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول".
3– تدخل أطراف ثالثة لدعم الدول المُعتدَى عليها: وفقاً للمقال، لم تُقنِع قاعدة “عدم الاعتداء” الدول بعدم الذهاب إلى الحرب أو حتى محاولة كسب الأراضي والتوسع. وبالنسبة إلى الغالبية، فقد امتنعت الدول عن أعمال الغزو الواسعة النطاق؛ بسبب أن النزعة القومية وقلة الأسلحة تجعل حكم السكان الأجانب عادةً مكلفاً وصعباً. ومع ذلك، يرى المقال أنه قد تلعب قاعدة عدم الاعتداء دوراً، إذا كان العدوان الواسع النطاق يجعل من المرجح أن تأتي أطراف ثالثة لمساعدة الدولة التي تعرَّضت للهجوم. ومن الأمثلة على ذلك التحالف الدولي ضد استيلاء العراق على الكويت في عام 1990، وكذلك ما فعله حلف “الناتو” منذ بدء الحرب الأوكرانية في فبراير 2022. وكما هو الحال مع معظم المعايير، يعتقد “والت” أن ما يحدث حقاً هو أن الدول تبحث عن طرق للتغلب عليها؛ فقد كانت الولايات المتحدة مستعدة تماماً لانتهاك وحدة أراضي الدول الأخرى، على سبيل المثال، لكنها لا تقسمها إلى أجزاء أو تضمها بعد استسلام جيش العدو. وبدلاً من ذلك، تشكل حكومة جديدة مستقلة رسمياً. وهذه المناورة تسمح لواشنطن بالتظاهر بأنها استطاعت أن تستبدل قادةً أكثر امتثالاً للقواعد مكانَ عدد قليل من القادة "الأشرار".
4– التفاف بعض الدول بالاستيلاء على أراضٍ محدودة: بحسب المقال، تراجعت محاولات غزو وإخضاع بلدان بأكملها منذ عام 1945 (لكن كان استيلاء الصين على التبت في عام 1950 استثناءً وواضحاً)؛ وذلك لسببين رئيسيين: أولاً– أن احتلال بلد بأكمله يُجبِر المنتصر على حكم شعب مضطرب وساخط، وعادةً ما تتجاوز تكاليف القيام بذلك الفوائد، وثانياً– تؤدي مثل هذه المحاولات في كثير من الأحيان إلى قلق الأطراف الثالثة بشأن طموحات المعتدي على المدى الطويل، ومن ثم تُشجِّع هذه المحاولات تلك الأطراف على توحيد قواها لمساعدة الضحية و/ أو احتواء المُعتدِي في المستقبل.
وبدلاً من محاولة استيعاب دولة بأكملها، من المُرجَّح أن تنخرط الدول في عمليات استيلاء محدودة على الأراضي، على أمل ألَّا تؤدي هذه المكاسب المتواضعة إلى إثارة استجابة دولية كاملة. ومن الأمثلة الواضحة على ذلك “نزاع كارجيل” عام 1999 بين الهند وباكستان، والاشتباكات الحدودية المتكررة بين الهند والصين، واستيلاء الأرجنتين على جزر فوكلاند في عام 1982، وجهود الصين في “بناء الجزر” في بحر الصين الجنوبي، وغزو روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014. وهذه الأمثلة وغيرها تُظهِر أن محاولات الاستيلاء على الأراضي بالقوة لم تنتَهِ. وفي بعض الحالات – مثل ضم إسرائيل مرتفعات الجولان، وجهودها المستمرة لاستعمار الضفة الغربية – لم يفعل المجتمع الدولي الكثير لوقفها أو عكسها.
5– انعكاس تفسير القواعد الدولية على حالة أوكرانيا: عندما يدافع المسؤولون اليوم عن النظام القائم على القواعد، فإن المعيار الصارم لعدم التدخل ليس في الحقيقة ما يدور في أذهانهم؛ فحتى الدول التي تتذرَّع بأسلوب روتيني بمبدأ عدم التدخل (مثل الصين)، هي على استعداد متزايد لانتهاكه. ويشير المقال إلى مستقبل حالتَي أوكرانيا وتايوان في ضوء هذه المعايير الدولية؛ إذ إنهما مكانان يتعرَّض فيهما الوضع الإقليمي الراهن لنزاع حاد؛ ولذلك فإن التاريخ الحديث يُشِير إلى أن المجتمع الدولي قد يكون في النهاية على استعداد لقبول قدر من التغيير الإقليمي شريطة أن تحتفظ معظم أوكرانيا باستقلالها. وهذا يعني أن لدى كييف سبباً للقلق من أن مؤيديها الحاليين سيرغبون في نهاية المطاف في إبرام صفقة؛ وذلك بحسب والت.
6– تباين دولي محتمل حول التدخل الصيني في تايوان: على الجانب الآخر، فإن التداعيات على تايوان أكثر غموضاً. ويرجع ذلك – إلى حد كبير – إلى وضع تايوان “الغامض”؛ فإذا كان الآخرون ينظرون إلى تايوان على أنها دولة مستقلة (بحكم الأمر الواقع لا بحكم القانون)، فمن المُرجَّح أن يُنظر إلى محاولة الصين غزوَ الجزيرة على أنها محاولة غير شرعية لغزو وإخضاع دولة حرة، وهي حالة شبيهة إلى حدٍّ ما باستيلاء العراق على الكويت في عام 1990. وإذا رأى الآخَرون تايوان كياناً منفصلاً، فإن معارضة عالمية قوية لأي خطوة صينية ستكون أكثر ترجيحاً. أما إذا كان الآخرون ينظرون إلى تايوان على أنها أقل من دولة مستقلة، أو على أنها شذوذ إقليمي خلَّفته الحرب الأهلية الصينية، فإن الغزو الصيني يبدو أشبه بالاستيلاء المحدود على الأراضي المُتنازَع عليها. ويرى المقال أن هذا التفسير الأخير هو التفسير الذي تُفضِّله بكين، لكن من غير الواضح إذا ما كانت الدول الأخرى ستقبله أم لا. وبحسب المقال، فإن العراق حاول إضفاء الشرعية على استيلائه على الكويت من خلال الادعاء بأن الكويت كانت المحافظة التاسعة عشرة المفقودة منذ فترة طويلة، ولكن لم يوافق أحد في التحالف المُعارِض على ذلك.
وختاماً، يشير المقال إلى أنه كنتيجة واقعية نموذجية، فإن المعايير مهمة، لكنَّ هناك مجالاً هائلاً وواسعاً للتفسير، وستجد الدول القوية عادةً طرقاً للتغلب على أي قيود قد تفرضها القاعدة. ويترتَّب على ذلك أن الدول لا ينبغي أن تفترض أن القاعدة ضد الغزو ستكون كافيةً لحمايتها؛ إذ إن القوة الصلبة الملائمة والدبلوماسية الماهرة والحلفاء الموثوق بهم؛ كل ذلك ضمانات أفضل، ولكنها لا تزال ضمانات غير كاملة.