تشهد العلاقات الهندية الأفريقية مساراً تصاعدياً، وترتكز هذه العلاقات بدرجة كبيرة على دبلوماسية عسكرية نشطة؛ إذ نظمت الهند خلال الفترة (21-29 مارس 2023) التدريب الميداني لأفريقيا والهند–أفنديكس (AF-INDEX) 2023، بمشاركة 24 دولة أفريقية، وهو النسخة الثانية من “أفنديكس” بعدما نُظمت النسخة الأولى منه عام 2019. ومن المتوقع أن يؤدي هذا الجهد الهندي إلى تعزيز الشراكات السياسية مع الدول الأفريقية، وتوسيع التعاون الأمني، وتكثيف الوجود العسكري، وزيادة المبيعات العسكرية، وموازنة الوجود البحري الصيني، مع الأخذ في الاعتبار وجود تحديات ضاغطة ضد هذه الدبلوماسية العسكرية الهندية؛ أبرزها الوجود الاقتصادي والعسكري الصيني المتنامي، ووجود بعض المواقف المعارضة لنيودلهي في أفريقيا، فضلاً عن التحديات المرتبطة بتمويل الانتشار البحري الهندي في الخارج.
مؤشرات مختلفة
تشير التحركات العسكرية الهندية إلى توجه متنامٍ لدى الهند لانتهاج دبلوماسية عسكرية نشطة في أفريقيا يمكن رصد أهم ملامحها على النحو التالي:
1- توسيع التعاون الأمني والعسكري مع الدول الأفريقية: على الرغم من اهتمام الهند بتعزيز التعاون مع الدول الأفريقية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية، فإنها تولي الجانب العسكري اهتماماً خاصاً؛ حيث اقتصر التعاون العسكري في البداية على تسيير دوريات مشتركة في المياه الأفريقية لضمان سلامة السفن الهندية ومواجهة التهديدات غير التقليدية في غرب المحيط الهندي، لا سيما مواجهة عمليات القرصنة وتهريب المخدرات والهجرة غير الشرعية والإرهاب. وانصبت الجهود الهندية في البداية على إنشاء أكاديميات وكليات للدفاع في دول أفريقية مختلفة، مثل كلية الحرب البحرية في نيجيريا، والأكاديمية العسكرية في إثيوبيا، وكلية القوات الجوية في غانا، وإرسال فرق تدريب إلى عدد من البلدان الأفريقية، مثل بوتسوانا وليسوتو وزامبيا وأوغندا وناميبيا وتنزانيا وموريشيوس وسيشيل.
غير أن هذا التعاون توسع مؤخراً ليشمل تنظيم تدريبات مشتركة مع الدول الأفريقية بشكل دوري، مثل تمرين التدريب الميداني لأفريقيا والهند (AFINDEX)، الذي نظمت النسخة الأولى منه في مارس 2019، والثانية خلال الفترة (21-29 مارس 2023).
2- تعزيز العلاقات مع الدول المُطلة على المحيط الهندي: تُركز الدبلوماسية العسكرية الهندية على تعزيز العلاقات مع الدول الغنية بثرواتها الطبيعية والاستراتيجية والدول الساحلية، والمطلة على المحيط الهندي. وقد شاركت في النسخة الثانية من التدريب الميداني لأفريقيا والهند (AFINDEX) لعام 2023، نحو 24 دولة أفريقية، منها تسع دول مشاركة بصفة أساسية (إثيوبيا، كينيا، ليسوتو، النيجر، سيشيل، تنزانيا، أوغندا، زامبيا، زيمبابوي) و12 دولة بصفة مراقب (بوتسوانا، الكاميرون، غينيا الاستوائية، إيسواتيني، غانا، ملاوي، نيجيريا، جمهورية الكونغو، رواندا، السنغال، السودان، جنوب أفريقيا).
ويلاحظ أن بعض هذه الدول غنية بمواردها الاستراتيجية، مثل النيجر (اليورانيوم) والسودان ونيجيريا (النفط) والسنغال (الفوسفات) وتنزانيا (الغاز الطبيعي) وزامبيا (النحاس)، فيما تتمتع دول بموقع استراتيجي مطل على المحيط الهندي (مثل كينيا وسيشيل وتنزانيا وليسوتو وزامبيا وزيمبابوي)،؛ ففي أغسطس الماضي، أشار وزير الدفاع الهندي راجناث سينج، خلال مباحثاته مع نظيره التنزاني ستيرجومينا لورانس تاكس، إلى أن الهند وتنزانيا تشتركان في المساحة الاستراتيجية نفسها. وتعتبر الهند تنزانيا لاعباً رئيسياً في غرب المحيط الهندي.
وقال سينج: “هذه المنطقة الواقعة في غرب المحيط الهندي وشرق أفريقيا ذات أهمية استراتيجية للهند من وجهة نظر الاقتصاد والتجارة والأعمال؛ حيث يأتي ما يقرب من 60% من تجارتنا من هذا الجانب”. وأضاف أن “دولاً مثل كينيا وتنزانيا أدركت التأثير السلبي للدعم الصيني، ومن ثم هناك رد فعل قوي، وقد حان الوقت لاستعادة علاقاتنا القديمة”، فيما سلط تقرير بنك التصدير الهندي India Exim Bank في نوفمبر 2022، الضوء على الدور الهام الذي تلعبه الهند وتسع دول ساحلية في تعزيز الأمن البحري في منطقة المحيط الهندي، وهي جزر القمر، وكينيا، ومدغشقر، وموريشيوس، وموزمبيق، وسيشل، والصومال، وجنوب أفريقيا، وتنزانيا.
3- مأسسة التعاون العسكري والشراكات الدفاعية: عقدت الهند مؤتمر وزراء الدفاع بين الهند وأفريقيا، يومي 28 و29 مارس 2023، حول الشراكة الدفاعية بين الهند وأفريقيا، وإمكانات صناعة الدفاع الهندية ومساهمتها في الأمن الإقليمي. وقد جاء انعقاد هذه المؤتمر في سياق اهتمام نيودلهي بتشكيل مجلس وزراء دفاع الهند وأفريقيا لمأسسة التعاون الأمني مع الدول الأفريقية الشريكة. وكان الهدف من تشكيل هذا المجلس استكشاف فرص للمشاريع المشتركة والاستثمارات في برامج الأمن السيبراني، والأمن البحري، ومكافحة الإرهاب، وتوفير المعدات الدفاعية.
فيما اقترحت حكومة الهند إضفاء الطابع المؤسسي على منتدى الهند-أفريقيا، الذي نظمته الحكومة الهندية خلال الفترة من 18 إلى 22 أكتوبر الماضي، على هامش معرض الدفاع العسكري DefExpo. وبالإضافة إلى ذلك، أطلقت نيودلهي مبادرتها “الأمن والنمو للجميع” (SAGAR)، وأنشأت وزارة الخارجية الهندية قسماً خاصاً يركز على الأمن والتنمية في المحيط الهندي، وأظهرت البحرية الهندية، ووفق مبادرتها، التزامها الكامل بالتعاون في مجال الأمن البحري مع البلدان الواقعة على امتداد سواحل أفريقيا الشرقية.
دوافع عديدة
ثمة جملة من الدوافع التي تقف خلف الدبلوماسية العسكرية الهندية المتنامية على الساحة الأفريقية، ومن أهمها:
1- تكثيف الحضور العسكري على السواحل الأفريقية: ترتبط الدبلوماسية العسكرية الهندية باستراتيجيتها لتوسيع وجودها في المحيط الهندي بوجه عام، وخاصة على امتداد سواحل أفريقيا الشرقية؛ فبرغم تركيز الهند على تعزيز حضورها في الدول والجزر القريبة منها مثل سريلانكا وجزر المالديف (شرق المحيط الهندي)، اتجهت بشكل أكبر إلى تعزيز وجودها العسكري في الدول والجزر الأفريقية المطلة على غرب المحيط الهندي، مثل تنزانيا وموزمبيق وموريشيوس وسيشيل. وقد أقام مركز دمج المعلومات لمنطقة المحيط الهندي (IFC-IOR) – ومقره في جوروجرام – ومركز عمليات التنسيق الإقليمي RCOC ومقره في سيشيل. وتتمتع الهند بإمكانية الوصول إلى ثماني محطات رادار للمراقبة الساحلية (CSR) عبر موريشيوس بمدى يصل إلى 50 كيلومتراً. وهناك خمسة أنظمة مثبتة في جزيرة موريشيوس الرئيسية ونظام واحد في كل من جزر رودريجز وسانت براندون وأجاليجا.
2- موازنة الوجود البحري الصيني في أفريقيا: تسعى بكين إلى تطوير مرافق لوجستية خارجية تعرف بسلسلة اللؤلؤ التي تتضمن بناء سلسلة من القواعد العسكرية عبر المحيط الهندي لحماية الموارد الصينية وممرات الشحن، تسعى بكين من خلالها إلى إبراز قوتها العسكرية على مسافات أطول من سواحلها؛ ولذلكتثير التحركات الصينية في غرب المحيط الهندي مخاوف نيودلهي التي تعتبر هذه المنطقة جزءاً من جوارها الممتد، وتهدد سلامة تجارتها البحرية التي تمر عبر المنطقة؛ لذلك يمكن قراءة ذلك بوضوح من دلالة التوقيت الذي نظمت فيه النسخة الثانية من تمرين أفنديكس خلال الفترة 21-29 مارس 2023؛ حيث جاء تنظيمه بعد فترة قصيرة من التدريبات التي نظمتها روسيا وجنوب أفريقيا والصين في جنوب أفريقيا (جنوب المحيط الهندي).
ولذا تثير التحركات العسكرية الصينية حماس نيودلهي لتكثيف تحركاتها من أجل التوصل إلى اتفاقات وصفقات تسمح لها بإقامة قواعد عسكرية في المنطقة. وقد أشارت بعض التقارير إلى مساع هندية لإقامة قواعد عسكرية في سيشيل إلى الشمال من قناة موزمبيق (يمر من خلالها نحو 30% من حركة ناقلات النفط العالمية) وأيضاً في جزر القمر ومدغشقر؛ وذلك في الوقت الذي تسعى فيه بكين إلى تقديم إغراءات واستثمارات في البنية التحتية لهذه الدول لبناء قواعد عسكرية فيها.
3- تسويق الأسلحة الهندية إلى الدول الأفريقية: عرض الجيش الهندي خلال النسخة الثانية من تمرين أفنديكس أحدث الأسلحة والبنادق الهجومية وقذائف المدفعية ونماذج صواريخ في بيون غرب الهند – مركز التصنيع الدفاعي الرئيسي في البلاد؛ حيث تهدف الهند إلى مضاعفة صادراتها السنوية من الأسلحة (نحو 1.7 مليار دولار) إلى أكثر من الضعف لتصل إلى 5 مليارات دولار في السنوات المقبلة. فيما يذهب أقل من 20 في المائة من الصادرات العسكرية الهندية إلى دول أفريقية؛ مثل إثيوبيا، وموزمبيق، وموريشيوس، وسيشل، وغيرها. وفي هذا السياق، يشير الخبراء الهنود إلى أن التركيز على صعيد المبيعات في أفريقيا طبيعته “دفاعية”، بما في ذلك الآليات المدرعة وأجهزة الرادار ومعدات الاتصالات السلكية واللاسلكية.
وقد أكد تقرير صادر في نوفمبر 2022 عن بنك التصدير الهندي دور الهند المتنامي باعتبارها مصدراً رئيسياً للسلاح إلى أفريقيا، إلا أنه بين عامي 2017 و2021، شكلت موريشيوس (6.6%) من صادرات الهند من الأسلحة إلى القارة، تليها موزمبيق (5%) وسيشيل (2.3%)، كما أنشأت وزارة الدفاع الهندية أطر تعاون مع جنوب أفريقيا، وكينيا، وتنزانيا، وموريشيوس، وسيشيل، ومدغشقر.
ومع ذلك، يظل حجم الصادرات الهندية من الأسلحة إلى الدول الأفريقية أقل بكثير من حجم الصادرات الصينية؛ حيث لا تزال الصين أكبر مصدر سلاح آسيوي إلى أفريقيا. وخلال الفترة 2010 – 2021، بلغ إجمالي صادرات الأسلحة إلى المنطقة 9.32 مليار دولار أمريكي، ساهمت الصين بنسبة 22% (ما يعادل 2.04 مليار دولار أمريكي) وذهب أكثر من 60% من صادرات الأسلحة الصينية في أفريقيا إلى 5 دول: تنزانيا (19.6%) ونيجيريا (13.5%) والسودان (12.6%) والكاميرون (11.2%) وزامبيا (6.22%). وتستضيف هذه الدول أيضاً بعضاً من أهم مشاريع الاستثمار والبناء الصينية في المنطقة؛ ما يشير إلى زيادة الارتباط بين بكين والمصالح الاقتصادية واعتباراتها الأمنية.
تحديات متزايدة
تواجه الدبلوماسية العسكرية الهندية النشطة في أفريقيا تحديات سياسية وعسكرية واقتصادية متزايدة على النحو التالي:
1- الوجود الاقتصادي والعسكري الصيني المتنامي: برزت الصين بصفتها أكبر شريك اقتصادي لأفريقيا، وبلغت قيمة التجارة الثنائية 254 مليار دولار عام 2022، بزيادة قدرها 35% عن عام 2020. وضخت بكين مليارات الدولارات وشيدت الطرق والجسور ومنشآت الطاقة مقابل الوصول إلى الأسواق والموارد في أفريقيا، فيما أشار وزير الخارجية الهندي؛ إس جايشانكار، في كلمته أمام المؤتمر السابع عشر لبنك CII-EXIM حول شراكة النمو بين الهند وأفريقيا، إلى ارتفاع حجم التجارة بين الهند وأفريقيا إلى نحو 89.5 مليار دولار في عام 2022 مقارنة بـ 56 مليار دولار في عام 2021، فيما بلغ حجم الاستثمارات الهندية التراكمية نحو 73.9 مليار دولار أمريكي في الفترة من 1996 إلى 2021.
ولذلك يمثل الوجود الصيني تحدياً كبيراً للدبلوماسية العسكرية الهندية يحد من قدرة الهند على لعب دور سياسي في المنطقة، خاصة في ظل احتمالات تصاعد التنافس مع الصين. وعلى سبيل المثال، بعثت الصين ملحقين عسكريين في معظم بعثاتها في الدول الأفريقية، بينما يقع أقرب ملحق عسكري للهند في جنوب أفريقيا دون اعتماد رسمي في مدغشقر. وبرغم ما قدمته الهند من تبرعات سخية للمساعدات الغذائية والدعم الطبي من السفن البحرية خلال جائحة كورونا، فإن بصمتها التنموية في المنطقة لا تزال متواضعة للغاية مقارنة بالصين.
2- مواجهة التحركات الهندية مُعارضة قوية في بعض الدول، حيث تواجه الدبلوماسية العسكرية للهند تحديات سياسية في بعض الدول الأفريقية، ولا تزال المعارضة السياسية في موريشيوس تعارض التحركات الهندية الساعية إلى بناء قاعدة عسكرية في البلاد، منتقدةً سياسة الهند في بناء البنية التحتية في جزر أجاليجا منذ توقيع اتفاقية في 11 مارس 2015؛ حيث أثارت السياسة الهندية في ذلك الوقت الكثير من الجدل لدى أحزاب المعارضة التي أعربت عن مخاوفها من تقويض الهند سيادة موريشيوس من خلال تحويل الجزر إلى قواعد عسكرية، كما واجهت الهند معارضة سياسية في سيشيل من جانب بعض القوى السياسية المعارضة التي رفضت في يناير 2018 تصديق حكومة سيشيل على اتفاقية أمنية تم توقيعها بين البلدين في مارس 2015.
3- تحديات تمويل الانتشار البحري الهندي في الخارج: تشير التقارير إلى تواضع حجم الموارد المخصصة لإنفاق الحكومة الهندية على أسطولها البحري مقارنة بالصين. وتشير الأرقام عن السنة المالية 2017-2018 إلى أن الهند تنفق 15% فقط من إجمالي إنفاقها العسكري على أسطولها البحري، فيما تنفق الولايات المتحدة ما يقرب من 30%، وتنفق أستراليا واليابان ما يقرب من 25% و23% على التوالي، في حين تشير التقارير إلى أن الصين تنفق ثلاثة أضعاف ما تنفقه الهند على جيشها بوجه عام.
ويأتي هذا النقص في الإنفاق من جانب الهند في وقت أدركت فيه الحاجة إلى زيادة قدراتها البحرية وتطوير أسطولها ليضم 200 سفينة بحلول عام 2027. وفي الواقع، طلبت البحرية الهندية خلال السنة المالية 2017-2018 نحو 5.2 مليار دولار، ولكن تم تخصيص 2.9 مليار دولار فقط. ويعني هذا النقص في التخصيص أن البحرية الهندية بالكاد تستطيع تغطية نفقاتها المخطط لها، وهو ما يحد من قدرة البحرية الهندية على توسيع وجودها وموازنة الوجود الصيني في منطقة غرب المحيط الهندي.
ختاماً، تسعى نيودلهي إلى تعزيز الشراكة العسكرية والأمنية مع الدول الأفريقية وتعزيز حضورها العسكري والأمني في القارة الأفريقية في سياق منافستها مع بكين؛ ولذلك من المتوقع أن يدفع التحدي الصيني في غرب المحيط الهندي وسواحل أفريقيا الشرقية الهند إلى تعزيز علاقاتها مع القوى الدولية المعنية بمواجهة التحدي الصيني، مثل الولايات المتحدة وفرنسا؛ حيث تشارك الهند بصفة مستمرة في تدريبات عسكرية وبحرية تنظمها البحرية الأمريكية مع الدول الأفريقية، كما تنسق الهند وتتعاون مع فرنسا في المنطقة، وخاصة أن فرنسا تمتلك قواعد عسكرية في دول مثل موريشيوس. وثمة تفاهمات هندية أمريكية فرنسية على تعزيز التنسيق والتعاون السياسي والعسكري لمواجهة النفوذ الصيني، وبصفة خاصة في غرب المحيط الهندي وسواحل أفريقيا الشرقية.