تطورت العلاقات الفرنسية-الإفريقية وفق المتغيرات الدولية والإقليمية سواء في الحقبة الاستعمارية كما تكشف أحداث الحربين العالميتين أو مع الاستقلال وأيام الحرب الباردة مرورًا بالتصدي ومحاربة الإرهاب وصولًا إلى المعضلة البيئية كقضية دولية معاصرة مع "قمة الغابة الواحدة" بدول حوض نهر الكونغو.
بيد أن أفول القوى العظمى أمر معهود في تاريخ الدول قديمها وحديثها كما هي الحال مع البرتغال وبريطانيا وهولندا أو اليابان الآسيوية، ويمكن هنا استحضار الدورة الخلدونية في تعاقب الدول وسقوطها في التجربة الفرنسية مع مستعمراتها السابقة، فهل وصلت باريس إلى هذه المرحلة الحرجة مع التحولات الكبرى التي يشهدها النظام الدولي؟
يبدو فعلًا أن زمن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون البداية الحقيقة للانحطاط الفرنسي بإفريقيا وما قبله يعتبر تمهيدًا للأحداث الكبرى التي دقت ساعتها. ببساطة من المتوقع ألا يجني أيُّ ساكن بالإليزيه ما لم يجنه أسلافه من قبله، نظرًا للواقع الجيوبوليتيكي الدولي المتقلب والشباب الإفريقي التواق للحرية والتمرد على من أساؤوا إليه، فماضي باريس مثقل بالجراح ومنافسوها على أهبة دفْعها خارج الحلبة على الرغم من عدد الزيارات المتكررة من الرئيس الفرنسي الحالي لإفريقيا 18 مرة.
وإن كان موقف باريس يتجه نحو تلطيف الأجواء فإن بعض العواصم الإفريقية، على العكس من ذلك، تنحو منحى التصعيد والقطيعة مع المستعمر السابق مثلما هي الحال مع الرباط وواغادوغو وباماكو، ومنطقي أن تثار بعض النقاط:
- هل إفريقيا بحاجة إلى فرنسا بعد ستة عقود من الاستقلال، حيث تسرد حكاية السنين عن أمرين اثنين ناطقَيْن بأوان رحيل فرنسا؟
- أن فرنسا عاجزة عن النهوض بأوضاع إفريقيا على الرغم من كل الفرص التي أتيحت لها.
- أو أنها لا تريد إصلاح ما أفسده الزمن الاستعماري وردم هوة التخلف، فلم يبق لها إلا أن تُخلي المكان لغيرها.
كانت باريس على الدوام تتربص بالمستائين من سياساتها الخارجية أو من يحاولون الخروج عليها من أمثال الرئيس التوغولي الأول، سيلفانوس أوليمبيو، الذي قرر الامتناع عن طبع نقود بلاده خارج أرض الوطن وكان للرئيس المالي، موديبو كيتا، نفس الهوى بفك الرباط عن الخزينة الفرنسية ما أدى إلى انقلاب عليهما، ثم هاماني ديوري النيجري الداعي لإعادة النظر في الاتفاقيات الثنائية وتوماس سانكري وكيد المؤامرات ضد أحمد سيكو توري، ولم ترض من حلفائها إلا بتبعية مطلقة.
ما الجديد في خطاب ماكرون 2023 على مستوى إنهاء علاقات الهيمنة مع القارة الإفريقية؟
لم يصل التوتر علنًا بين باريس وشركائها الأفارقة إلى ما وصل إليه مع الرئيس؛ إذ توافر لماكرون القرب من شباب الأفارقة سواء مع الطلبة برحاب جامعة كيزربو البوركينابية، 2017، أو مع قمة الشباب، 2021، بمدينة مونبلييه الفرنسية.
وتدخل فرنسا في سباق محموم مع كل القوى الفاعلة بإفريقيا بدءًا بشركائها الأوروبيين، برلين وروما ولندن، على بعض المكاسب، وروسيا العائدة بالنظر إلى حجم البعثات الدبلوماسية وصفقات الأسلحة المتزايدة وعدد الزيارات على مستوى القادة ووزراء الخارجية ومؤتمرات القمم متعددة الأطراف، فضلًا عن الصين وتركيا. وحسب البعض، فإن بكين هي المنافس الأول لباريس في إفريقيا، كما توظف القوة الناعمة ممثلة في انتشار المعاهد الكونفوشيوسية، أما في شمال إفريقيا فيسود التوتر بين الجوار المتوسطي الشمالي والجنوبي، على الرغم من قدم العلاقات الدبلوماسية وحجم المصالح المتبادلة بين الطرفين.
ويتراجع نفوذ فرنسا تدريجيًّا في كل مكان من القارة الإفريقية؛ ففقدت الشركات الفرنسية نصف حصتها في السوق على مدى عشرين عامًا لصالح الشركات الصينية أو الألمانية أو الهندية، وباتت تدرك أكثر من أي وقت أن إفريقيا الآن أرض منافَسَة داعية مقاولاتها إلى الأخذ بالأبعاد التنافسية عند إنجاز مهماتها وأداء مسؤولياتها أي أخذ قضايا القارة وما يتعلق بها بجدية وحزم.
أبعاد التنافس الدولي على إفريقيا
يبدو أن التراجع الفرنسي غير محصور على الدائرة الإفريقية فحسب بل مع القوى الكبرى كأستراليا، وتتجه العلاقات الإفريقية-الفرنسية نحو تنويع وفتح المجال أمام شركاء وفاعلين دوليين جدد؛ إذ إن عصر الاحتكار والامتياز ولَّى إلى غير رجعة، ولم يعد بمقدور أية قوى دولية الاستئثار بإفريقيا بمفردها ولا حتى بفرع من فروعها الإقليمية، والفرصة مواتية لمن يصغي إلى المطالب الإفريقية بدل إملاء الدروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان، فقد توسعت حدقة العين السمراء فلم تعد تملؤها دولة ولا لغة بعينها ما ينسجم مع المنظور الإفريقي في التنوع وروح الجماعة.
ومن المؤكد أن التحول الإفريقي المرتقب لن يتم إلا مع قيادات قوية ومسؤولة ومؤسسات واعدة ونخبة بعيدة عن مركب النقص، فلا تزال فرنسا صانعة النخب والساهرة على تكوين الطلاب وطابعة النقود ومصدِّرة جزء من الأسلحة إلى جانب الاحتفاظ بالمجلس الرئاسي الإفريقي، فأين تقف إفريقيا وفرنسا من إنهاء الهيمنة؟
تسعى إفريقيا جاهدة إلى المضي قدمًا لملء المساحات الفارغة في خضم التنافس الدولي على أراضيها، ونتذكر هنا مشروع إصلاح المؤسسات الإقليمية وضمان فاعليتها وفتح منطقة التجارة الحرة والاستعداد أكثر للعمل الجماعي وتفعيل آليات الاندماج القاري وتطويق مفهوم السيادة مقارنة بسنوات ما بعد الاستقلال لصالح شعوبها، من ذلك ما نلمسه بالمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا من جواز سفر موحد وبطاقة وطنية مناطقية موحدة/مواطنة غرب إفريقية، وفي مجالات اقتصادية وأمنية...إلخ؛ أي إن إفريقيا بصدد رسم صورة لم تكتمل لكنها واضحة في ذهن الفنان.
وتتململ كل الدول الناطقة بالفرنسية من جانبها لوقف التعالي "الأبيض"، إلا أن الذي لم يحصل بعد هو تبني موقف موحد من قبل الأفارقة تجاه باريس وكل مرافقها وشركاتها.
تعيش إفريقيا تحولًا سريعًا ما دفع الشريك الأوروبي التقليدي إلى البحث عن إستراتيجيات مناسبة لصياغة العلاقات بين الطرفين خشية "الخسران المبين" الذي ستتراجع بموجبه فرنسا عن موقعها العالمي وقيادة النظام الدولي، وإن على أمد، لتفسح المجال لقوى أخرى، وجملة القول: إن إفريقيا لم تعد وطيئة لأقدام المستعمر بل هي مفخخة في كل أرجائها، أو بعبارة المسؤول الفرنسي: "هناك انبثاث في كل مكان! في كل مكان!".
وإلى حين عهد فرانسوا ميتران كانت النظرة إلى الأفارقة أبوية تسلطية، فيما وُصف جاك شيراك بالإفريقي نظرًا لتعاطفه العلني كما أدان استنزاف أبناء جلدته لثروات القارة، وتميزت عهود ما بعد الاستقلال بخلو المنطقة من منافس حقيقي لفرنسا إلى ما بعد سقوط المعسكر الشرقي، وجعل رؤساء الجمهورية الخامسة المتأخرون من سياسة القطيعة آلية جديدة في الدبلوماسية الإفريقية.
صرَّح ساركوزي بجامعة شيخ أنت جوب-داكار: "إن الإنسان الإفريقي لمَّا يدخل التاريخ" مردِّدًا المقولة الهيغلية ما يعطي للتواضع الذي أشار له ماكرون قيمة جديدة في العصر الجديد، وتضمن خطاب قطيعته كل معاني الكبرياء والاستعلاء، ومواصلة احتكار الموارد الطبيعية.
أما فرانسوا هولاند فقد بعث سياسة التدخل من جديد في إفريقيا الوسطى وجمهورية مالي بحجة تعزيز الأمن والاستقرار والحفاظ على الوحدة الترابية المالية ودافع عن المصالح الاقتصادية لبلاده، ووعد بعصر جديد في العلاقات الفرنسية-الإفريقية.
- ماكرون الرئيس " المتواضع"، وتميزت حقبة خطاب القطيعة الماكروني بـ:
- الانفتاح على العالم وتعدد الشركاء.
- ارتفاع القوة الديمغرافية الشبابية بالقارة.
- حضور الإعلام وانتشار المعلومة كمظهر من آثار العولمة.
- عودة روح الهويات الدينية والقومية.
- امتصاص مشاعر الكراهية ضد فرنسا.
وصول طبقة سياسية لا ترى في الغرب مثالًا يُحتذى ولا تعترف له بأي زخم، بل تنظر إلى فرنسا على أنها أصل وأم مشاكل إفريقيا.
يرتكز الوعي السياسي الإفريقي اليوم على مفهوم الواقعية واحترام السيادة وتبادل المصالح لولوج عهد جديد من حيث المطالب والمؤسسات والتطلعات، وقد وضعت القيادات الصاعدة بالقمة الإفريقية-الفرنسية 28 محاور ملموسة للخروج من التبعية الفرنسية، وهي مطالب معروفة لدى الأفارقة إلا أن خصوصيتها تكمن في البوح بها جهارًا أمام ساكن الإليزيه دون خشية تبعة الاغتيال والمطاردة كما حصل مع الزعيم البوركينابي، توماس سانكرا، في عهد فرانسوا ميتران.
وعوْدٌ على بدء، طالما اعتبرت الحكومات الفرنسية دول إفريقيا شركاء لها تربط بينهما مصالح ومسؤوليات مشتركة، ولم تتزحزح عن هذا الخطاب، على الرغم من عرقلة الزعماء الذين يجنحون نحو القوى الصاعدة بما في ذلك الصين، فبكين تنافس الأميركان من جهة والأوروبيين من جهة أخرى، ما يجعل منها خصمًا لدودًا للغرب على أرض غينيا كوناكري "المعجزة الجيولوجية" ثم إنها تعمل على إيقافها، فمنجم سيماندو يمثل أهمية إستراتيجية لعدة قوى عالمية، ومعركة اقتصادية تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون لمنع الصين من التمدد في إفريقيا، وأولوية الاقتصاد في أجندات بكين مع شي يحتم عليها علاقات أشد متانة مع الأفارقة.
لا تزال فرنسا تدَّعي أن مشروعها الإفريقي يشمل تحقيق الديمقراطية والحرية والعمل مع الجميع نظامًا ومعارضة وبناء دولة المؤسسات، وإدانة الانقلابات وعدم فرض القيم أو المطالبة بذلك.
ولعل صراحة الزعيم فيليكس تشكيسيدي مع الضيف الثقيل، ماكرون، في ضرورة رد الاعتبار للأفارقة والعدول عن سلوك التسلط الأبوي -تجاوزًا للصورة النمطية- مع تجاوب الحضور بالتصفيق أبانت عن النهج الذي ينبغي على الغرب اتباعه بصورة عامة وبالأخص فرنسا، كما ترجمت ردة فعل الرئيس الكونغولي العفوية ما تحتفظ به الذاكرة الإفريقية السياسية من ذكريات أليمة سببها فرنسا يضيق المؤتمر الصحفي "الرئاسي" عن سردها.
وتبقى زيارة أنغولا التي لا تنتمي للمستعمرات الفرنسية رسالة واضحة من باريس بأنها ليست على استعداد لإدارة ظهرها لإفريقيا بل ستظل تبحث عن مصالحها في القارة بناء على متطلبات اللحظة السياسية.
الجوانب العسكرية والأمنية
مما يجدر ذكره في هذا المقام أن الجيوش الإفريقية شاركت في الحروب الدولية قبل استقلالها إلى جانب فرنسا، وتواصل اليوم مع قوات حفظ السلام الأممية في شتى بقاع العالم داخل القارة وخارجها (الكونغو كينشاسا، لبنان، هايتي، السودان، الخليج...)، مما يعني احترافيتها ومهنيتها وقدرتها على حل الأزمات وإعادة النظام والحياة إلى طبيعتها العادية، وحاليًّا، تأتي أغلب القوات من الدول الإفريقية والآسيوية، بينما تتزايد مساهمة الدول الغربية.
وعليه، ما جدوى بقاء قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها طيلة الفترة الماضية؟ قد يقتضي التعاون والتنسيق الأمني تارة وفي ظل احترام السيادة إجراء مناورات مشتركة أو تدريبات خاصة وغيرهما؛ لكن بقاء قوات عسكرية لأية دولة في إفريقيا أمر مرفوض ولا مبرر له غير النزعة التوسعية والاستعمارية.
ولعل القيادة العسكرية الفرنسية أدركت عبء البقاء لوحدها، فأراد ماكرون حسب برنامجه الجديد تغيير قواعد اللعبة بقطع حجة خصومه الدوليين، الذين يستغلون الشراكات العسكرية، على حد وصفه، ليقولوا للأفارقة: إن فرنسا لا تهتم إلا بالقضايا العسكرية الأمنية.
وعليه، سيكون الحضور العسكري ذا طابع تكويني على شكل مدارس وكليات، وتقوم السياسة الأمنية الجديدة على التخلي عن عقلية القائد الوحيد للمهمات العسكرية في مستعمراتها السابقة -السنغال، وكوت ديفوار، والغابون- إلى مشاركة البلدان المضيفة مع إمكانية إشراك طرف ثالث إذا رغبت الدول الشريكة، أي تبنِّي سياسة أمنية مفتوحة تخفيفًا عن نفسها ونأيًا عن الانتقادات المتزايدة؛ ما يعني أن إفريقيا في الحسبان ولم يحن الوقت للتخلي عنها.
علمًا بأنه إلى عهد قريب تسببت فرنسا في زعزعة أمن الدول التي لا تسير في مصلحتها، كما فعلت مع رئيس إفريقيا الوسطى، فرانسوا بوزيزي، 2013، عندما قرر تغيير الاتفاقيات وتمكين الصين من اليورانيوم بديلًا عن الشركة الفرنسية، أريفا، وقبله رئيس النيجر، 1974، الذي طالب بإعادة النظر في الاتفاقيات بين البلدين المتعلقة بمادة اليورانيوم والتي أُبرمت مع الاستقلال.
وتستند الحكومة الفرنسية أحيانًا في تدخلها إلى تمدد الحركات المسلحة ببعض مناطق نفوذها، لكن بنين اليوم تستضيف جنودًا فرنسيين، إلى جانب عساكر روس جاؤوا لنفس المهمة، أي محاربة الجماعات المسلحة؛ ما يكشف عن تنافس حقيقي على الأراضي الإفريقية.
لقد خاب أمل الأفارقة من الجيوش الفرنسية المحاربة للإرهاب التي لم تحقق لهم أي نصر على أرض الواقع مع طول السنين بل تمزقت البلاد على أيديها ودخلت القوميات في عراك وصراع لم يكن معهودًا بينها، كما هي الحال في مالي، وقبل ذلك جريمة تورط الجيش الفرنسي في إبادة الهوتو للتوتسي.
وما يجدر الانتباه إليه بهذا الصدد أن تعزيز النظام الدستوري الرافض لأي وصول للسلطة إلا من طريق انتخابات حرة ونزيهة وشفافية سيُبطل سحر الانقلابات ما يسد الباب أمام باريس لتدبير انقلاب أو حتى تأييده؛ إذ إن ذلك سيرسِّخ أطروحة التدخل الفرنسي السافر في الشأن الإفريقي في زمن تسعى فيه إلى محو الصور النمطية عنها مع تزايد السخط الشعبي لبلد الجنرال ديغول. وفوق ذلك فإن طول الأمد على السدة الرئاسية بات مرفوضًا، وترسم دول إفريقية المسار الصحيح للتخلي عن السلطة كما هي الحال في نيجيريا والكونغو الديمقراطية أما الجمهوريات الملكية فمصيرها إلى الزوال بحكم التكلفة الغالية لبقائها.
وفي الأخير، فإن فرنسا ستخسر ورقة عسكرية (انقلاب، إطاحة، اغتيال، اعتقال...) طالما استغلتها في عهد الاستخباراتي، جاك فوكار، وبالمقابل سيتيح الخسران للأفارقة متنفسًا وهامشًا من المناورة السياسية لكسب الرهان، أي لن يعود الالتجاء إلى فرنسا أو الاحتماء بها كافيًا للوصول إلى السلطة، وإن بقيت الدول مطوقة بحزام الاتفاقيات الأمنية في شؤون الدفاع.
الجوانب المالية الاقتصادية
لم تَكُفَّ فرنسا طيلة العقود بعد الاستقلال عن نهب الخيرات واستغلال الشعوب وتفقير أهلها واستقبال أدمغتها باسم التعاون والشراكة، وانتهزت الدولة الراعية الفرص للاغتناء على حساب الأفارقة رغمًا عنهم، والوصول إلى المواد الأولية، وتحديد أسعار الغلات الزراعية وإيجاد أسواق والحصول على امتيازات وتوفير عائدات اقتصادية.
أما دوي الشركات الفرنسية فلا يتوقف لكثرتها وانتشارها في ربوع القارة، سعيًا لنشاط استثماري تجاري أكثر ربحًا في مجال الأعمال ورؤوس الأموال، وتحتل الصين الرتبة الأولى تجاريًّا مع القارة مزاحِمة القوى التقليدية. ولا تقتصر معضلة فرنسا في فقدان مكانتها في المنطقة المغاربية، كشريك أول للمغرب لصالح إسبانيا، ولصالح الصين في الجزائر، بل مثلًا في تحول حليفها التقليدي، المغرب، إلى منافس لها في منطقة غرب إفريقيا.
أدى تهافت الشركات الفرنسية على إفريقيا مع امتيازاتها الواسعة إلى تضييق الخناق على المقاولات الإفريقية مقصية إياها أو منافسة لها كما حصل لرجل الأعمال النيجيري، علي دانغوتا، في المستعمرات الفرنسية، لكن استهداف المصالح الفرنسية -توتال، أوشان، وغيرهما- في الاحتجاجات بالعواصم الفرنكوفونية بات مألوفًا.
وترتبط فرنسا بشبكة مالية نقدية محكمة ضاربة في التبعية بعدة مناطق إفريقية وفق منطق " فرِّقْ تَسُد" بعملات مختلفة وبنوك مركزية خاصة:
- الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا.
- الاتحاد الاقتصادي والنقدي لوسط إفريقيا.
- اتحاد جزر القمر.
وقد قام الطرفان، الفرنسي وغرب الإفريقي 2021، بإجراء بعض التعديلات: منها انسحاب فرنسا من محافل إدارة مصرف الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا وتغيير اسم العملة فيما لم يتم الثاني، ومن نتائج العلاقات الاقتصادية:
إنهاك الاقتصادات الوطنية وبطء وتيرتها وكسر الانسياب المالي والنقدي بين أصحاب العملات المختلفة على الرغم من تبعيتها للبنك المركزي الفرنسي/الخزينة الفرنسية؛ مما يجعل مفهوم "ما وراء البحار" تعبيرًا حيًّا بدلالته الاستعمارية المقيتة، ويطبع بذلك مصرف فرنسا عملة فرنك الجماعة المالية الإفريقية منذ استحداثها في عام 1945 وعملات قرابة عشرين بلدًا في بلدة شاماليير الفرنسية.
وتستدعي قسوة الأوضاع المالية والأزمات الاقتصادية الخانقة والمتكررة وآثار الجائحة والبطالة والحرب بأوكرانيا إعادة النظر في الاتفاقيات المالية على ضوء الأحداث الدولية الجارية بمختلف مستوياتها سعيًا لإعادة التوازن الاقتصادي للقارة والنهوض بالقضية التنموية وإيقافًا لنزوح الشباب إلى عوالم مجهولة.
ويكفي غياب المشاريع التنموية على شاكلة مشروع مارشال دليلًا على دحض خرافة التنمية والمساعدة على الرغم من الترويج المستمر لها في المحافل والملتقيات الدولية.
ولا يزال موضوع الاستقلال الاقتصادي معقدًا جدًّا؛ إذ إن غالبية الدول الإفريقية لا تسُك عملاتها الوطنية وهو ما يعني تنازلًا عن جزء من السيادة والرمزية الاستقلالية.
وتُصنع عدة عملات ورقية ومعدنية إفريقية في بلدان أخرى؛ إذ لا تتوافر المطابع المخصصة لهذا الغرض في جميع البلدان الإفريقية، ونذكر ما يلي على سبيل المثال:
- يُصنع كل من الفرنك الغيني والبير الإثيوبي والشلن الأوغندي والبولا البوتسواني في إنجلترا.
- يصنع كل من الأوقية الموريتانية والناكفا الإريترية والشلن التنزاني والكواشا الزامبي في ألمانيا.
- يصنع الدولار الليبيري في الولايات المتحدة الأميركية.
الجانب الثقافي
لم تأل فرنسا جهدًا في مناصرة اللغة الفرنسية والفرنكوفونية حتى إن بعض القوانين التوجيهية التعليمية الإفريقية جعلت إثبات الانتماء إلى الفضاء الفرنكفوني إحدى غايات التعليم، متجاهلة المكون الثقافي الإفريقي فضلًا عن دعمه وتطويره أكاديميًّا وعلميًّا خصوصًا مع اللغات الإفريقية واسعة الانتشار لتحل محل لغة فولتير ببلدانها، ثم الصمود أمام العولمة أو على الأقل دعم المبادرات في هذا المجال.
ففرنسا اليوم في طريقها إلى خسارة القوة الصلبة مع ترنح القوة الناعمة المهددة بالعولمة، التي لا شك أنها متجذرة في وجدان مستعمراتها السابقة بحيث يمكن وصفها بالقلعة الحصينة مقارنة بالآليات الدولية الأخرى: الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وخلال قمة الدول الفرنكفونية التي احتضنتها جزيرة جربة التونسية، في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، اعترف الرئيس ماكرون بأن مكانة لغة موليير تتعرض "لانتكاسات"، على جبهات عديدة خصوصًا في المنطقة المغاربية مشيرًا بالخصوص إلى فئات الشباب.
علاوة على ازدياد هيئات المجتمع المدني المتعددة الناقمة على الوجود الفرنسي بإفريقيا، منهم السنغالي: "جوي ماري ساجا" و"كيمي سابا" رئيس منظمة ONG Urgences Panafricanistes، وقبلهم كان "سارو ويفوا"، المناضل النيجيري ضد الشركات متعددة الجنسية ببلاده.
دوليًّا
لم يعد صوت إفريقيا دوليًّا/أمميًّا حكرًا على باريس في القضايا الدولية أو أية جهة أخرى، بل الأمر يخضع لحسابات سياسية وإستراتيجية، كما كشفت حالات التصويت داخل أروقة الأمم المتحدة بشأن حرب روسيا على أوكرانيا حيث رفضت دول إفريقية عديدة إدانة الكرملين بما في ذلك الغابون وأنجولا والكونغو، محط رحال الرئيس الفرنسي في جولته.
وتحظى القارة بدعم القوى الكبرى للحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن عملًا بقاعدة التمثيل الجغرافي بالأمم المتحدة واعتبارها حجر الزاوية لإصلاح الهيئة الدولية، ما يتيح الدخول بالعمل الإفريقي المشترك إلى طور جديد من الحكامة الدولية.
يعتري خطاب القطيعة الفرنسي بعض النقائص:
- إن بداية المصالحة مع الأفارقة تكون بمطالبة السماح والعفو، وهو مطلب حي نادى وينادي به الزعماء الأفارقة.
- السكوت عن الفساد والمفسدين بل التعامل معهم والترحيب بهم، وتضطلع الشركات الأجنبية بتغذية الفساد كتقديم رشاوى مالية للحصول على بعض الصفقات.
- ازدواجية تناول ملف حقوق الإنسان من ذلك السكوت المطبق عن سجناء الرأي أو تغيير الدساتير لتمديد الولايات الرئاسية أو توريث الأبناء مثلًا.
خاتمة
إن مداخل الاستقلال في إفريقيا لن تكون من باب واحد وإنما من أبواب متفرقة يرتبط بعضها بالوطني والثاني بالقاري الجهوي والآخر بالدولي العالمي.
ـ يظهر من مجريات الأحداث أن صانع القرار الفرنسي لا يستشرف المستقبل الإفريقي المتحول وإنما يُباغَت بالأمر الواقع ولا يتحرك إلا بعد الإحساس بالخطر الداهم، وهو ما يعني أن باريس لا تزال تعامل القارة بعقلية المستعمر المرتاح بخلاف القوى الدولية الأخرى، كما أنها لا تعمل بشكل منسق مع شركائها الأوروبيين المقربين في ملف إفريقيا، ويبدو ألا مستقبل لها بمفردها مع قارة المستقبل.
ثم إن العمل الإفريقي الجاد يشكِّل إجابة واضحة وواقعية على كل استعمار واستبداد، ولا محيص عن مطلب الشفافية والحكم الرشيد في تدبير الشأن العام في معادلة معركة التحرر والاستقلال، ويتأكد الأمر في هذا الظرف الحرج.
لقد استباحت فرنسا دماء الأفارقة في الحربين العالميتين ونهبت خيراتها وسرقت تراثها وزعزعت بلدانها واستلبت ألسنتها، ومن ينظر إلى إفريقيا من هذه الزاوية يعظِّم قدرها، تأبى إلا الحياة، ولا حياة مع فرنسا فلا مناص من الفراق.