في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، ومن ورائها الصراع الغربي الروسي، اهتم الكثير من الباحثين والمتابعين، والمتخصصين في الجيوبولتيك، بالقوة الصلبة الروسية، وصور استخداماتها ومآلاتها في بقاع كثيرة من العالم، بما فيها القارة الأفريقية. وفي الحقيقة، فإن هذا موضوع مهم في سياقه الدولي الحالي، خاصة أن المعروف عن روسيا، منذ عهد الاتحاد السوفيتي، أنها كانت كثيرًا ما تعتمد في سياستها الخارجية على القوة الصلبة، والحروب بالوكالة، ويظهر ذلك سواء بحضورها السابق في سوق السلاح العالمية، أو في دعمها للأنظمة الشيوعية والاشتراكية (في ظل الاتحاد السوفيتي)، وإسنادها بالسلاح في حروبها الإقليمية، أو دعم ما يُعرف بحركات التحرر الوطني، لكن ظل الجانب الإنساني، أو دعم التنمية في بلدان العالم الثالث، أو الجانب الدعائي الروسي، باعتباره أهم أدوات التأثير في المجتمعات المحلية، تكتنفه ظلال كثيفة.
لم تعد عوامل التأثير وأدواته، في الذهنية والثقافة والمزاج الشعبي العام في أفريقيا، خاضعة لقوة الاستثمارات الأجنبية، والأعمال التنموية، أو استمرارية فاعلية الموروث الاستعماري الغربي فحسب؛ ففي ظل العولمة، برزت فواعل مختلفة، وقوى دولية صاعدة، أتقنت هي الأخرى استخدام مختلف أدوات التأثير وأصوله، في صناعة رأي عام موالٍ لها، أو على الأقل تسرب الشك في جدوى ولاءاته التاريخية للغرب، إن لم يكن قد ساعدته على الانقلاب التام، ضد القوى الاستعمارية التقليدية.
ومنذ بضع سنوات، يتم الحديث عن عودة روسية إلى القارة الأفريقية؛ وبالفعل، فقد كان لروسيا وجود ما في العديد من البلدان الأفريقية، يرتقي أحيانًا إلى مستوى تبعية بعض الأنظمة لموسكو، وارتهانها للكرملين، في سياق الحرب الباردة. لكن مع تفكك الاتحاد السوفيتي، فضلت روسيا أو اضطرت إلى الانسحاب والتخلي عن حلفائها؛ ما أدى إلى سقوط أنظمة أو تغيير ولاءات، وأضحى الفضاء الأفريقي مفتوحًا أكثر في وجه القوى الغربية، بل مفتوحًا أيضًا في وجه مختلف القوى الصاعدة. وفي هذه الظرفية، تمكنت الصين وإسرائيل وتركيا، وبعض الدول الآسيوية الأخرى، مثل: الهند واليابان، من إيجاد موقع قدم وسد الفراغ، رغم التوازنات التي فرضها النظام الدولي الجديد. واليوم، ومع عودة روسيا إلى تصدّر موقع متقدم نسبيًا على المستوى الدولي، وعلى الرغم من كون أفريقيا لا تقع ضمن دائرة الفضاء الاستراتيجي الروسي، فإن موسكو اتجهت نحو القارة السمراء من جديد، مستثمرة تراجع بعض القوى الغربية، ولكن أيضًا – وبصورة ما – لمنافسة التوغل الصيني الكبير في هذه القارة.
وقد اقترن التقدم الروسي في أفريقيا في السنوات الأخيرة بحملات دعائية، شعبية أو نخبوية، ضد الوجود الغربي في القارة السمراء، وقفت وراءها تيارات وجمعيات ونشطاء سياسيون وإعلاميون، بدعوى أننا أفريقانيون (Pan-Africanist) وتحرريون. وتحاول روسيا الاستفادة من هذه الحملات والمشاعر المناهضة للهيمنة الغربية وتوظيفها لصالحها في سياق تنافس دولي في أفريقيا، تخوضه القوى الغربية، وتخوضه أيضًا القوى الصاعدة؛ مثل: الصين وتركيا وإيران. لكن يبدو حتى الآن، أن الروس قد نجحوا بصورة أو أخرى، في الاستفادة أكثر من غيرهم، من التراجع الفرنسي في الدول الأفريقية الفرنكفونية عمومًا، ولاسيما دول جنوبي الصحراء وغربي أفريقيا.
وفي هذه الورقة، سنقوم بتقديم عرض وتحليل قائم على معطيات مستقاة من مصادر متنوعة، لاستكشاف سبل عمل القوة الناعمة الروسية في أفريقيا وأدواتها، وثقل الأطراف والجهات والمؤسسات المتعاونة معها، والمجالات التي اقتحمتها للتأثير في الرأي العام الأفريقي، من أجل تحقيق مكاسب ومواقع سياسية على خريطة متحركة، حيث تعمل قوى دولية عديدة ذات مصالح معقدة ومتشابكة ومتباينة في الوقت ذاته. كما تبيّن الورقة طبيعة العلاقة والخلفيات التي تقف وراء تقارب مواقف الكثير من الشخصيات والنشطاء الأفارقة وتقاطعها، مع الدبلوماسية والمؤسسات الروسية العاملة في أفريقيا.
التقارب مع التيارات والشخصيات والروابط “الأفريقانية”
تنتشر في أفريقيا منذ عدّة سنوات حساسيات سياسية وثقافية، تتبنى الدعوة إلى الرابطة أو الجامعة الأفريقية (الأفريقانية Africanism -)، والتي تُنسب عادة إلى حركات التحرر الوطنية الأفريقية المعادية للاستعمار الغربي، والتي كان قد اقترب بعضها من الاتحاد السوفيتي وعمل معه إبان حروب التحرير والحرب الباردة، والسنوات الأولى من تاريخ بناء الدولة الوطنية، في بعض البلدان الأفريقية.
وفي هذا السياق حدث الالتقاء بين التوجهات الروسية البوتينية، وخاصة في السياسة الخارجية، وهذه الحركات الأفريقانية على أساس الموقف الموحد المعادي للغرب. وهو نوع من التعاون بين أذرع “الدعاية الروسية” والشخصيات والمؤسسات والشبكات الأفريقية “الوطنية”، التي تتبنى خطًا سياسيًا سياديًا وتحرريًا، (sovereigntist) مناهضًا لسياسات الهيمنة الغربية الاستعمارية منها، أو النيوكولونيالية، وخصوصًا أن هذه المجموعات النشطة إعلاميًا وسياسيًا – ولاسيما على شبكات التواصل الاجتماعي والعمل الجمعياتي – تجد في روسيا القوة الدولية التي لم يسبق لها أن استعمرت أو “استعبدت” الأفارقة، إشارة في ذلك إلى التاريخ الاستعماري الغربي. وعلاوة على ذلك، فإن هذه المجموعات ترى في السياسة الخارجية الروسية توجهًا نحو بناء نظام عالمي جديد، يمكن للبلدان الأفريقية أن تستظل به للحد من الهيمنة الغربية، والتبعية التي تعيشها دول القارة، لأوروبا والولايات المتحدة.
هذه المجموعات والروابط الأفريقانية لا تجمع بينها مضامين أيديولوجية واحدة؛ فقد يكون بعضها يساريًا وذا انتماء اشتراكي أو عمالي، وقد يكون بعضها محافظًا دينيًا، في حين يقف البعض الآخر على قاعدة قريبة من بعض حركات الإسلام السياسي أو الحركات الوطنية أو القومية أو “العرقية”. وبغض النظر عن اختلافاتها، فإن القاسم المشترك بينها جميعًا، هو العداء “للغرب الرأسمالي والاستعماري”، وهي ترى أن كل عمل دولي يُحِدُّ من “الهيمنة الغربية”، ويبشر بنظام دولي متعدد الأقطاب، قد يساعد الشعوب الأفريقية على مزيد من التحرر الوطني والثقافي، ويفسح لها مجال التنمية والارتقاء، تحت راية “الخصوصية الوطنية أو الثقافية”.
لذلك فهي قد تلتقي أيضًا مع الأيديولوجية البوتينية، و”القيم الروسية”، المحافظة في مجال الأسرة، ورفض المثلية، ومعاداة ما يطلق عليه التحلل الأخلاقي السائد في الغرب، والذي كثيرًا ما تُتّهم الدول الغربية بالعمل على نشره في المجتمعات الأفريقية، وغير الغربية عمومًا، تحت بند “حماية حقوق الإنسان”، حسب المعايير الغربية، باعتبارها حقوقًا عالمية وأحد أبرز عناوين الحداثة الحضارية.
وفي هذا السياق يمكن ذكر الناشط يوليوس ماليما، زعيم حزب “مناضلون من أجل الحرية الاقتصادية” بجنوب أفريقيا، الذي يدعم روسيا في حربها ضد أوكرانيا. وكذلك كمي سابا، رئيس المنظمة الثورية الأفريقية، والمقيم في السنغال، وهو صحفي وكاتب في الجيوبولتيك، وناشط سياسي فرنسي من أصول بنينية.
ومن أبرز الوجوه النخبوية، خوسيه ماتيمولان، وهو أستاذ جامعي بإحدى الجامعات الموزمبيقية، درس في روسيا (بين عامي 2002 و2012) وتخرج في جامعة سانت بطرسبورغ، ويعد أحد أبرز داعمي روسيا في موزمبيق، ومؤسس ورئيس مركز “أفريك: AFRIC” أو “جمعية الأبحاث الحرة والتعاون الدولي”، وهي عبارة عن مركز تفكير ودراسات، يجمع متخصصين ونشطاء من بلدان مختلفة، وقد تلقى دعمًا ماديًا روسيًا أثناء التأسيس، وتربطه علاقات وطيدة بجهات روسية نافذة؛ مثل إسكندر مالكيفيتش الذي يرأس “مؤسسة حماية القِيم الوطنية” الروسية، وهو الذي يُعدُّ حلقة اتصال مع أطراف أفريقية عدّة، انطلاقًا من جمعيته هذه، التي يقدمها بصفتها أداة عمل وبحث حول البلدان الأفريقية، في حين ترى فيها بعض التقارير أنها تمثل إحدى حلقات نفوذ المدعو يفغيني بريغوجين، مؤسس منظمة فاغنر شبه العسكرية، والعاملة في كثير من البلدان الأفريقية. والآن يحتل مالكيفيتش منصب نائب رئيس هيئة المعلومات الروسية، التي كانت تسمى سابقًا “وكالة أبحاث الإنترنت” (Internet Research Agency).
وقد تمت إدارة مؤسسة “أفريك”، التي يترأسها خوسيه ماتيمولان، من مدينة مابوتو بموزمبيق، من طرف جوليا أفنازييفا انطلاقًا من مدينة سانت بطرسبرغ الروسية، وهي حاصلة على ماجستير في العلوم السياسية من جامعة سانت بطرسبرغ، ومديرة “مركز المبادرات الاجتماعية والثقافية”، وتُصنَّف جوليا أفنازييفا بوصفها أبرز أهم العاملين ضمن شبكة بريغوجين في أفريقيا وأوروبا.
وتعمل مؤسسة أفريك مع شبكة إعلامية واسعة بأفريقيا، من بينها “راديو الثورة الأفريقانية” Revolution Radio Panafrican، و”قناة أفريقيا ميديا” (Afrique Media TV)، وهذه الشبكة الأخيرة، يديرها ويرأسها أحد الوجوه الإعلامية والسياسية الأفريقية، وهو الكاميروني جوستين تاغوه (Justin Tagouh). والقناة تُبث منذ 17 عامًا من مدينة دوالا.
ولعل من بين أبرز وجوه هذه الشبكة، أيضًا، الناشطة والإعلامية الكاميرونية السويسرية نَتالي يامب، التي درست الإعلام والعلوم السياسية في ألمانيا، ثم عملت في المجال الإعلامي في كل من ألمانيا وسويسرا، قبل أن تستقر في الكاميرون. تمتلك الناشطة نتالي يامب شبكة علاقات واسعة، على أعلى مستوى في عالم السياسة الأفريقي، وقد تعاونت وعملت مع رؤساء دول ووزراء في بعض بلدان غربي أفريقيا وجنوب الصحراء، بالرغم من مواقفها الحادة تجاه العديد منهم، بسبب اتهامها لهم بالخضوع للغرب، وخدمة مصالحه على حساب شعوبهم. وعُرِفت بمواقفها الداعمة للانقلابيين في كل من مالي وبوركينا فاسو، كما تساند المعارض السنغالي عثمان سونكو، المعروف بحدة خطابه المناهض للإمبريالية الغربية، والمتبنّي فكرة الرابطة الأفريقية (بان- أفريقانية Panafricanism). وتكمن أهمية هذه الناشطة الموالية لموسكو، في كثرة متابعيها على شبكات التواصل الاجتماعي (تويتر وفيسبوك وإنستغرام)، وكانت قد حضرت نتالي يامب قمّة سوتشي (القمّة الروسية-الأفريقية)، التي نظمت في أكتوبر 2019، وشاركت بمداخلة في حلقة النقاش التي أقيمت على هامش القمة، وأدارها إسكندر مالكيفيتش، فلقبت بـ “سيدة سوتشي”، وهو اللقب الذي تبنته واستخدمته وروجت له، وذلك بسبب التعاطف الكبير الذي لقيه خطابها المناهض للاستعمار الغربي في هذه المناسب. وفي ظل الحرب الراهنة بين روسيا وأوكرانيا، وقفت إلى جانب موسكو، لكن ذلك لا يمنع الإشارة إلى أنها في قمة سوتشي، أكدت أن الأفارقة جاؤوا إلى سوتشي، لطلب الدعم الروسي في مسيرة تحررهم من الغرب الاستعماري، لكنهم لا يبحثون عن “استبدال سيد جديد بسيد قديم”. ولعل شدة عدائها للسياسات الفرنسية في أفريقيا، هو ما جعل الإعلام الفرنسي يصفها بالعميلة لموسكو.
كما وافقت نتالي يامب المرشح للرئاسة في كوت ديفوار سنة 2020، ممادو كوليبالي، وهي مستشارته القانونية، وهو بدوره معروف بقربه من روسيا، وأستاذ مبرّز في الاقتصاد، وترأس مركز” أوداس أفريك” للأبحاث والتفكير المستقل، وهو زعيم حزب يسمى” ليدار” (Lider) ، وكان سابقًا قد شغل منصب رئيس المجلس الوطني (البرلمان)، في ظل رئاسة لوران غباغبو لساحل العاج. وكانت له زيارة لموسكو في يوليو 2019، للمشاركة في المنتدى الدولي للبرلمانيين، ثم بعد ذلك حضر قمّة سوتشي في أكتوبر من السنة ذاتها. ويُعرف ممادو كوليبالي بتبنيه الفلسفة الليبرالية، التي صاغتها المدرسة النمساوية، لذلك يعد أحد أبرز المدافعين عن “اقتصاد السوق” و”دولة القانون”، وفي حملة ترشحه للرئاسة في كوت ديفوار، أعلن صراحة أنه يقبل الدعم، سواء من روسيا أو الصين أو الولايات المتحدة. لكن يبدو أن للرجل موقفًا من فرنسا، التي دعمت الرئيس الحسن واترا، ضد الرئيس السابق لوران غباغبو.
في دولة بوركينا فاسو نجد شخصية ترفض تسميتها بالمؤثرة، لكنها في الحقيقة من بين أكثر الناشطين فعّالية عبر الوسائل والوسائط الإلكترونية الاجتماعية، وهو رولان بيالا، الناطق باسم تحالف الوطنيين الأفارقة في بوركينا فاسو (COPA-BF)، ونائب سابق في برلمان المرحلة الانتقالية قبل الانقلاب الذي قاده إبراهيم تراوري. وقد ساند رولان بيالا الانقلاب، ولا يتردد في إعلان دعمه للنقيب إبراهيم تراوري. كما يرى ويُعلن أن “العدو الذي يجب مكافحته هو فرنسا”، ويرفض اتهامه بالعمل لصالح روسيا، وهو موقف يلتقي فيه مع نشطاء أفارقة كثر، يعملون ضد المصالح الغربية في أفريقيا، لكنه يؤكد أن الشراكة مع روسيا، تقوم على قاعدة “رابح – رابح”، أي: “الكل رابح”، في حين أن الشراكة مع فرنسا تقوم، حسب قوله، على “نهب أفريقيا لصالح المستعمر القديم".
بعض المؤثرين الأفارقة ينشطون انطلاقًا من التراب الفرنسي، وضد المصالح الفرنسية في أفريقيا. ولعل أبرزهم أستاذ الفلسفة (حاصل على دكتوراه في الفلسفة من جامعة ليل بفرنسا)، العامل مع وزارة التربية الفرنسية فرنكلين نيامسي، وهو فرنسي من أصول كاميرونية، ويقدّر عدد متابعيه على منصة تويتر بـ 90 ألف متابع. ويرى فرنكلين أن سياسة الصين وروسيا في أفريقيا أكثر تناسبًا مع مصالح الشعوب الأفريقية، وأكثر تحقيقًا للشراكة على قاعدة “رابح-رابح” من السياسة الفرنسية. ويبدو أن الرجل معجب بالجنرال المالي عاصمي غويتا، الذي تخلى عن تحالف بلاده مع فرنسا في حربها على الإرهاب، واستبدل مجموعة فاغنر مكان الجنود الفرنسيين، وفضّل الاقتراب من روسيا.
في هذا السياق أيضًا وضمن مجموعة النشطاء هذه، يمكن ذكر إيغونشي بيهانزين، وهو اسم مستعار لـ سيلفان أفوا، وهو من أصل توغولي، مقيم في فرنسا، وينشط ضمن جمعية “رابطة الدفاع الأفريقي الأسود”black african defense league)). وكان إيغونشي يعرّف نفسه على صفحته على الفيسبوك، بأنه ناشط سياسي ومقاوم بان – أفريقاني وثوري، ومؤسس ورئيس الرابطة. وقد عُرف بحدّة عدائه للسياسات الفرنسية-الأفريقية، وتأكيده أنها نيو-كولونيالية (استعمارية جديدة). وينفي عن نفسه تهمة العمل لصالح روسيا، لكنه كثيرًا ما يظهر على وسائل الإعلام الأفريقية المتهمة بتلقي تمويل من موسكو. هنا أيضًا نحن أمام ناشط سياسي مؤيد للطغمة العسكرية الحاكمة في مالي، وكثير التنقلات إلى مالي، حيث يقود المظاهرات المناهضة للوجود العسكري الفرنسي في المنطقة، وله شبكة متابعين كثيفة على وسائل التواصل الاجتماعي.
وفي بلد مثل تشاد، حيث لم تبرز شبكات واسعة من المؤثرين أو النشطاء، الذين يعلنون صراحة قربهم من موسكو، ولم نر أسماء تشادية بارزة تذكر في الصحافة الغربية بصفتها “موالية لموسكو” أو “تابعة لروسيا”، أو ما يسمى عمومًا بالروسوفيلية، لكن يوجد تعاطف شعبي وشبابي مع روسيا. يظهر ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، أو في بعض المظاهرات التي تنظمها المعارضة، مثل ما حدث في المظاهرة التي نظمتها حركة “تم الوقت” (Wakit Tamma) بتاريخ 26 فبراير 2022، حيث رفعت شعارات مناهضة لفرنسا، باعتبارها داعمة للنظام الحاكم في تشاد، بالتوازي مع شعارات “لا لفرنسا، نعم لروسيا".
وكان قد حدث مثل هذا الأمر أيضًا في النيجر، حيث نظمت “حركة M62 في العاصمة نيامي مظاهرة في شهر سبتمبر 2022، مناهضة للوجود العسكري الفرنسي، واحتجاجًا على ارتفاع الأسعار، وتدهور مستوى المعيشة. وخلال هذه المظاهرة رُفعت شعارات موالية لروسيا ومعادية لفرنسا، وكان منسق هذه الحركة الناشط في المجتمع المدني عبدالله سيدو، ويرأس أيضًا “شبكة الرابطة البان – أفريقانية للسلم والديمقراطية والتنمية”، ويتبنى خطًا أفريقانيًا تحرريًا واضحًا، لكنه يرفض تهمة الولاء لروسيا. وقد أطلق على “حركة M62 ” اسم “الحلف المقدس من أجل حماية سيادة وكرامة الشعب”؛ وجهة نظر يشترك في الكثير منها مع بقية نشطاء التيار البان – أفريقاني في أغلب البلدان الأفريقية الواقعة جنوب الصحراء.
دور المؤسسات والجمعيات الروسية في أفريقيا:
تجاوزت أدوات عمل القوة الروسية الناعمة في أفريقيا التعاون مع شخصيات مؤثرة، ووسائط إعلامية إلى اعتماد مؤسسات محلية، تعمل على نشر وتأكيد وتثبيت الأثر الروسي الثقافي في منطقة غرب أفريقيا وجنوب الصحراء، من خلال إقامة مؤسسات تضمن استدامة الانتشار، وإيجاد حاضنة نخبوية وشعبية للوجود الروسي.
رعاية نشر اللغة الروسية
وبرغم الانشغال بالحرب في أوكرانيا، تستمر الدبلوماسية الشعبية الروسية، وبعض المصالح الرسمية، في الاشتغال على ملفات توسيع نطاق التأثير الثقافي في أفريقيا، فتم “تأسيس المنظمة الأفريقية للروسوفونية” في أغسطس 2022 في عاصمة جمهورية أفريقيا الوسطى بانغي، وهي منظمة يمكنها أن تشرف على شبكة من الروابط والعلاقات، التي تعمل على نشر اللغة والثقافة الروسية، والربط بين مؤسسات ثقافية وجامعية أفريقية ومثيلاتها الروسية، لكن ما يلفت الانتباه، هو أن الشخصية التي وُضعت على رأس هذه المنظمة تنتمي إلى طبقة رجال الأعمال، التي له علاقة بالأوساط السياسية الرسمية في جمهورية أفريقيا الوسطى، وبعض الدول الأفريقية المجاورة، وهو رجل الأعمال الكاميروني إيميل برفي سيمب، وهو مقيم ببانغي، ويتردد إلى روسيا، إلى جانب عمله، بصفته رجل أعمال في قطاعات مختلفة، بما في ذلك العملات الرقمية.
منظمة الشراكة البديلة بين روسيا وأفريقيا من أجل التنمية الاقتصادية:
تأسست هذه المنظمة (واختصار اسمها في أفريقيا الفرنكفونية “باراد” (PARADE في أواخر العام 2021، ومقرها الرئيسي بالعاصمة السنغالية دكار، ويرأسها صامبا مبيندا دياو. في سبتمبر 2022، قال بعض قيادييها: إن انتشارها بلغ 24 دولة في العالم، باعتبار أنها منظمة عالمية وليس فقط أفريقية. وفي شهر يوليو من السنة نفسها، وعلى صفحة المنظمة على منصة فيسبوك ورد أن لها 16 فرعًا أفريقيا، أغلبها في منطقة غرب أفريقيا والساحل والصحراء وخليج غينيا. إلى جانب فرع في روسيا وآخر في ألمانيا. وتجمع المنظمة في صفوفها عددًا من المثقفين والطلبة ورجال الأعمال. ولعل إلى جانب رئيسها في دكار، نذكر رجل الأعمال العاجي داوود سيلا، الذي يرأس بدوره فرع كوت ديفوار منذ سبتمبر 2022.
وتقيم المنظمة تعاونًا رسميًا مع السفارات الروسية في مختلف البلدان الأفريقية الموجودة فيها، ويستقبل السفراءُ الروس وكبار الموظفين الدبلوماسيين أعضاء مكاتب فروعها، لذلك يقول المشرفون عليها: إنها المنظمة البنا-أفريقانية الموالية لروسيا، الوحيدة المعترف بها في الكرملين. ويعرفها صامبا دياو بأنها “تحالف عالمي مناهض للإمبريالية، وموالٍ لروسيا”. ويرى ضرورة قيام أفريقيا بتحول “جيوبوليتيكي وجيوستراتيجي من أجل التأثير في النظام العالمي الجديد، الذي هو بصدد التشكل الحتمي”، ويقصد بذلك: تغيير تحالف أفريقيا الدولي من الغرب نحو روسيا، والبلدان المتحالفة معها.
وتساند المنظمة الموقف الروسي من الحرب في أوكرانيا، كما تدعم الأنظمة الأفريقية التي ظهرت على أثر انقلابات عسكرية في كل من مالي وبوركينا فاسو، وتدعم توجهها المناهض للوجود العسكري الفرنسي في المنطقة.
عمل الكنيسة الروسية الأرثوذكسية في أفريقيا
في سياق تطوير وتنويع أدوات عملها في أفريقيا، اتجهت الدبلوماسية الروسية إلى توظيف المؤسسة الدينية كعامل اقتراب أكثر من الشعوب الأفريقية، وهذا ينطبق على الإسلام، كما ينطبق على المسيحية الأرثوذكسية، وهي الكنيسة الروسية الرسمية. وقد لاحظ المتخصصون في تاريخ روسيا المعاصر عودة العلاقة بين الكنيسة والدولة، وعودة الدين في الحياة العامة والخاصة للدولة والمجتمع الروسي بصفة عامة، وتحوله إلى جزء من الأيديولوجية الرسمية، وذلك بعد 70 عامًا من القمع السوفيتي. وقد ظهر نوع من التوافق بين الرئيس بوتين من جهة، والبطريرك كيريل، ابتداء من سنة 2009. وجاءت الحرب الروسية الأوكرانية، لتحدث انشقاقًا داخل الكنيسة الأرثوذكسية. وفي هذا السياق، اتجهت الكنيسة الروسية نحو استقطاب رجال الدين الأرثوذكس في أفريقيا، وكان هذا الانقسام قد بدأ منذ عام 2021، عندما أعلنت كنيسة الإسكندرية اعترافها بالكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، التي كان ولاؤها – عادة – للكنيسة الروسية؛ وكرد فعل على ذلك أعلنت الكنيسة الروسية استحداث إكسرخسية بطريركية لها في أفريقيا. وتبعًا لذلك، تم قبول انتقال 102 من كهنة بطريركية الإسكندرية إلى الروم الأرثوذكس، تحت سيادة المجمع المقدس للكنيسة الروسية، وبالتالي أضحى كهنة ورعاية 23 دولة أفريقية تحت مسؤولية أبرشية جنوب أفريقيا التابعة للكنيسة الروسية؛ لذلك اتجهت الجهات الكنسية الروسية الرسمية إلى تأسيس بعض الكنائس في جمهورية أفريقيا الوسطى، كما أصبحت ترسل بعض الكهنة إلى بانغي في المناسبات الدينية، لكن اللافت للانتباه هو تحويل ولاء الكاتدرائية الأرثوذكسية في مدينة بيمبو (Bimbo) القريبة من العاصمة بانغي، حيث تقع أبرشية القديس أندريه إلى أبرشية موسكو. وكان في السابق ولاؤها للكنيسة الأرثوذكسية بالإسكندرية.
وقد بدأ الأمر بتمويل موسكو ترميمات جزئية لمبنى أبرشية القديس أندريه، ثم سافر الكاهن سيرغاي فوييماوا، المشرف على الأبرشية، إلى موسكو في أغسطس 2022، “لدراسة مذاهب الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ولتصحيح الأخطاء التي ترتبت على انتمائه السابق للكنيسة البيزنطية”، التابعة للإسكندرية، حسب قوله. ومهما يكن من أمر فقد تم استحداث فصل دراسي يسع 60 طالبًا من الأيتام، في هذه الأبرشية، وتدريس اللغة الروسية بها.
كما تم توقيع اتفاق بين موسكو وسلطات بانغي، لبناء كنيسة أرثوذكسية، والاعتراف بها بصفتها مؤسسة دينية أرثوذكسية روسية، حيث يتمكن سكان العاصمة بانغي الروس من القيام بطقوسهم وصلواتهم، وافتتح ذلك بصلاة قادها كاهن روسي، قدم خصيصًا من موسكو في يوليو 2022، حيث أقيمت صلاة بالبيت الروسي ببانغي.
وعلى العموم، ومع سعي الكنيسة الروسية لبسط نفوذها على المؤسسات الدينية، يمكن قراءة ذلك بصفته استجابة كنسية روسية لسعي الدولة لمد نفوذها في أفريقيا. وكلا المسارين، الكنسي والدبلوماسي، يسيران بالتوازي والتوافق، مهما يكن السياق الدولي الذي تفرضه أحداث الحرب الروسية الأوكرانية. كما يتم استثمار العمل الكنسي الروسي في أفريقيا، كأحد أجنحة المؤسسات العاملة على نشر الثقافة الروسية في القارة.
خاتمة
علاوة على الاستثمار والتوظيف الروسي لهذا التقاطع، مع مواقف وشخصيات ونشطاء وجمعيات أفريقية مدنية، ذات توجهات أفريقانية مناهضة للمصالح الغربية في أفريقيا، وإلى جانب استحداث وإحياء مؤسسات الدبلوماسية الشعبية والثقافية الروسية التقليدية، للعمل في الفضاء الأفريقي، تتجه موسكو نحو استعادة وتفعيل نشاطها الإعلامي الموجه نحو الشعوب الأفريقية، وذلك عبر مختلف الوسائط والقنوات، سواء منها التقليدية أو الإلكترونية، ولا سيما بعد العقوبات الدولية التي تستهدف النظام الروسي في مختلف أذرعه الاقتصادية والإعلامية؛ ما دفع بموسكو إلى التفكير في البدائل الممكنة، للوصول إلى المواطن الأفريقي، واستعادة القدرة على التأثير والانتشار، وصناعة النخب عبر الاستثمار من جديد في التعاون بين المؤسسات الأكاديمية الروسية والأفريقية. ولكن في المرحلة الحالية، لا يمكن الحديث عن عودة أو وجود روسي ضخم، وإنما هي بدايات وإرهاصات محدودة، تشير إلى توجهات استراتيجية روسية أكيدة تجاه القارة.
لكن ثمة ما هو أعظم وأخطر قد يكون في انتظار الفيدرالية الروسية، في حال هزيمة بمواصفات محددة في الحرب الأوكرانية؛ فصحيح أن بعض الحالات في تاريخ الروس تشير إلى أنهم استطاعوا خلالها تحويل هزائمهم إلى انتصارات، لكن يجدر هنا التذكير بأن هزيمة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان، عجلت من تفككه، حيث تضافرت عوامل عدّة في اتجاه دفعه نحو صورة من التحلل، وفقدان الأطراف. واليوم.. هل ينتظر الفيدرالية الروسية انفجار النظام من داخله، أو انفصال بعض الكيانات الطرفية للفيدرالية، حيث يكون لنخب سياسية مناطقية دور مهم في ذلك؟