يأتي التصعيد العسكري لإسرائيل خلال الأيام القليلة الماضية ضد الأهداف الإيرانية في سوريا، والذي أسفر عن مقتل مستشارين عسكريين للحرس الثوري الإيراني، وإصابة خمسة جنود سوريين، ضمن سلسلة الهجمات المتواصلة لإسرائيل، التي بلغت، بحسب الإحصاءات الإسرائيلية، أكثر من 400 غارة منذ عام 2017، وذلك في إطار استراتيجيتها لردع إيران وتحجيم نشاطها في محيطها الاستراتيجي.
ويتزامن هذا التصعيد مع اضطرابات داخلية في تل أبيب هي الأشد منذ عقود، فضلاً عن التحولات الجارية التي يشهدها الإقليم من ناحية الاتجاه إلى التهدئة وخفض التوترات في مناطق وبؤر الأزمات على غرار اليمن وسوريا، وذلك عبر بوابة عودة العلاقات السعودية الإيرانية، والتقارب العربي مع النظام السوري. ومن شأن هذه المعطيات والتطورات أن تفرض واقعاً جديداً على مشهد الصراع الإسرائيلي الإيراني، كما أنها تُثير التساؤل حول الدوافع الإسرائيلية وراء التصعيد العسكري في سوريا، وكذلك تداعياته المحتملة.
دوافع التصعيد:
يمكن الوقوف على عدد من الأهداف والدوافع التي ربما تفسر استمرار إسرائيل في التصعيد ضد أهداف إيرانية داخل سوريا، وذلك على النحو التالي:
1. تأكيد الحضور كرقم صعب في المعادلة السورية: تسعى إسرائيل في الوقت الراهن إلى تأكيد حضورها في المعادلات المحتملة لتهدئة الصراعات في محيطها الاستراتيجي، وفي مقدمتها الحالة السورية، وذلك عبر رفع كُلفة الإضرار بمصالحها. وتأتي هذه الخطوات المتسارعة لتل أبيب بالتصعيد عبر تكثيف هجماتها العسكرية خلال الأيام القليلة الماضية، على خلفية الإعلان عن عودة العلاقات السعودية الإيرانية، والانفتاح العربي على النظام السوري، وتداول الحديث عن عودة دمشق لمقعدها في الجامعة العربية، وهو ما سيتيح لسوريا الضغط وحشد الأصوات العربية لإدانة الهجمات الإسرائيلية المتكررة ضد أراضيها.
2. تحقيق الردع وتحجيم كُلفة "الحرب المفتوحة": تقود معطيات المشهد الراهن للبيئة الاستراتيجية الإسرائيلية التي تتسم بالتقييد النسبي لحكومة بنيامين نتنياهو، إلى استبعاد خيار "الحرب المفتوحة" ضد إيران على الأقل في المرحلة الحالية؛ لعدة أسباب من بينها حالة عدم الاستقرار على مستوى الداخل الإسرائيلي نتيجة الاحتجاجات الضخمة التي تشهدها البلاد أخيراً على خلفية خطة التعديلات القضائية، والتي قد تدفع قادة الائتلاف الحاكم إلى تفضيل استراتيجية "مابام" أو "الحملة أو المعركة بين الحروب" باعتبارها تمثل استجابة مُثلى لمواجهة تهديدات وكلاء إيران في مناطق المجال الحيوي لإسرائيل في الجبهة الشمالية (سوريا ولبنان)، عبر شنّ عمليات عسكرية محدودة بهدف إحباط التهديدات، والحفاظ على استقرار البيئة الاستراتيجية، وفرض سياسة الردع، مع تجنب التصعيد والانتقال إلى مستوى الحرب الشاملة، التي قد تجعل إسرائيل تحارب على عدة جبهات في إطار استنزافي قد يدفعها للتراجع التكتيكي، خاصة إذا ما خاضت تلك الحرب دون مباركة أو مشاركة أمريكية.
وفي هذا الإطار، ربما تفضل إسرائيل أن تدير الحرب ضد إيران فوق الأرض السورية، بدلاً من أن تواجه حزب الله اللبناني مثلاً؛ في ظل المخاوف من اندلاع مواجهة مباشرة مع الحزب قد تتحول إلى حرب ستكون عواقبها كارثية، وذلك وفقاً لتقديرات صحيفة "هآرتس" التي أكدت أن إسرائيل عمدت خلال السنوات الخمس الأخيرة إلى استهداف مصانع الأسلحة ومخازن الذخيرة الخاصة بإيران والمليشيات المحلية المتعاونة معها في سوريا.
3. الهروب من الأزمات الداخلية: قد يفكر رئيس الوزراء الإسرائيلي في تسخين الجبهة الشمالية عبر التصعيد العسكري الأخير في سوريا، من أجل "الهروب للأمام" من أزماته الداخلية التي تلاحقه. فمن شأن هذا التصعيد، إذا ما أعقبه رد إيراني بتصعيد مقابل، أن يشغل الداخل كوسيلة للإلهاء من أجل تخفيف وطأة الضغوط الداخلية عبر إذكاء النزعة القومية لتوحيد الجبهة ضد الخطر الخارجي الذي قد يهدد إسرائيل. ويتضح ذلك من خلال تصريحات نتنياهو في أول تعقيب له على الهجمات في سوريا، حيث قال إن "إسرائيل تحارب الإرهاب من خلال الاعتماد على توجيه الضربات الحاسمة، وتكليف كل من يدعم الإرهاب خارج الحدود الإسرائيلية ثمناً باهظاً"، مضيفاً: "أنصح أعداءنا ألا يختبرونا وألا يخطئوا، فالخلاف الداخلي لن يضر بقوتنا وبعزمنا العمل ضدهم على جميع الجبهات وأينما كانوا وفي كل وقت".
وفي نفس السياق، قد يفسر دافع "الهروب من الأزمات الداخلية"، التصعيد الإسرائيلي الحالي ضد الجانب الفلسطيني، بعد اقتحام قوات الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى المبارك والاعتداء على المصلين واعتقال عدد منهم، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة في أنحاء الضفة الغربية وضربات عبر الحدود في غزة، فضلاً عن إطلاق صواريخ من جنوب لبنان باتجاه إسرائيل.
تداعيات محتملة:
ثمة تداعيات أو سيناريوهات محتملة قد تحدث على إثر التصعيد الإسرائيلي ضد إيران في الأراضي السورية، ومنها الآتي:
1. الرد العسكري المحدود من جانب إيران: قد تسعى طهران إلى تفويت الفرصة على نتنياهو لتجاوز أزماته الداخلية من خلال تصعيد المواجهة معها، وبالتالي ربما تلجأ إلى الرد المحدود، وتأجيل تصعيدها بعد استيضاح موقف الداخل الإسرائيلي. وقد انعكس ذلك عبر إعلان تل أبيب يوم 2 إبريل الجاري إسقاطها طائرة مُسيّرة تسللت إليها من الأراضي السورية، من دون أن تشكل أي خطر، وفقاً لبيان الجيش الإسرائيلي، الذي أكد مسؤولوه وقوف إيران وراء إطلاق هذه المُسيّرة، بحسب ما أوردته هيئة البث الإسرائيلية.
2. مواصلة إسرائيل التنسيق مع روسيا في سوريا: تدرك إسرائيل حاجتها إلى الضوء الأخضر من روسيا لتأمين اختراقها للمجال الجوي السوري، الذي تسيطر عليه موسكو، وتوجيه الضربات ضد الأهداف الإيرانية، وهو ما يفرض على تل أبيب الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا وتجنب استفزازها، وبالتالي تبني موقف متوازن بقدر الإمكان إزاء الحرب الأوكرانية، وعدم الانخراط مع الغرب في مواجهة موسكو. وقد برز هذا التوجه في خطاب وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، أثناء زيارته لأوكرانيا، في فبراير الماضي، حيث أكد أن إسرائيل تدعم بقوة سيادة أوكرانيا ووحدتها، ولكنه حصر المساعدة المحتملة من بلاده لكييف في إعادة الإعمار بعد الحرب، والاستعانة بخبرتها في إزالة الألغام، وتطوير نظام إنذار مبكر ذكي، دون أن يتبع ذلك أية تعهدات بمساعدات عسكرية.
3. توتر العلاقات بين موسكو وطهران: يفرض المنهج المصلحي الحاكم لطبيعة العلاقة بين روسيا وإيران، من أجل موازنة التهديد الأمريكي لمصالحهما في مناطق النفوذ المشترك بالإقليم، درجة من المرونة المحدودة لموسكو في التعاطي مع المصالح الإيرانية المرتبطة بحماية أهدافها ووجودها في سوريا، في مقابل تأمين درجة من النفاذية للطيران الإسرائيلي لدخول المجال الجوي السوري وضرب الأهداف الإيرانية؛ وذلك في ضوء رغبة روسيا في تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا، وأيضاً من ناحية أخرى لتجنب انحياز تل أبيب لكييف في الحرب الجارية وتقديم الدعم الاستخباراتي والعسكري لها أسوةً بما يفعله الغرب.
وتُدرك إسرائيل أن مساعدة إيران لروسيا في إدارة عملياتها العسكرية في أوكرانيا، قد يكون ثمنها مساعدة موسكو لطهران في تعزيز قدراتها الصاروخية ودعم وكلائها المحليين في المنطقة، وهو ما سيخل بدوره بميزان القوى لصالح القوات الموالية لإيران في مواجهة إسرائيل، لذا تحرص الأخيرة على تفادي استفزاز موسكو، والعمل على تحييدها بقدر الإمكان في الملف السوري. وقد تقود تلك الحسابات الروسية، خاصة مع تصاعد الهجمات الإسرائيلية واستهدافها شخصيات عسكرية ذات ثقل في المؤسسة العسكرية الإيرانية، إلى توتير العلاقات مع طهران التي قد ترى في التمرير الروسي المتكرر لهذه الهجمات تفضيلاً للمصالح الإسرائيلية على حسابها.
4. عرقلة المفاوضات النووية مع إيران: من شأن الهجمات الإسرائيلية ضد الأهداف الإيرانية في سوريا أن تُعرقل المحاولات التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الراهن من أجل التوصل إلى "اتفاق نووي مؤقت" مع إيران يستند إلى مقاربة "التجميد مقابل التجميد"، بحيث يتم تجميد جزء من العقوبات على طهران مقابل تجميد الأخيرة لأجزاء من برنامجها النووي. وهذا ما ترفضه إيران حتى الآن باعتبار أن هذا النهج لم ينجح من قبل، وعبّر مسؤولوها عن الرغبة في اتفاق ليس أقل من الاتفاق النووي لعام 2015، وذلك وفقاً للتقرير الذي نشره موقع "أكسيوس" الأمريكي. وبالتالي قد تؤدي هذه الهجمات الإسرائيلية المتكررة ضد الأهداف الإيرانية إلى مزيد من تعنت طهران وتشددها أمام المساعي الدولية للتوصل إلى تفاهمات بشأن برنامجها النووي الذي دخل إلى مرحلة تثير القلق، خاصة بعد أن تمكنت من تخصيب اليورانيوم بدرجة نقاوة بلغت 84%.
ختاماً، يمكن القول إنه في ظل التحولات الراهنة التي يشهدها الداخل الإسرائيلي ومنطقة الشرق الأوسط، فإن تل أبيب تسعى لتأكيد حضورها وأهمية مراعاة مصالحها في أية تسويات أو تفاهمات إقليمية قادمة باعتبارها رقماً صعباً لا يمكن تجاوزه، وهو ما تحاول أن تفعله عبر التصعيد العسكري في مناطق النفوذ الإيراني. ومن ثم، فإنه من المتوقع أن تستمر إسرائيل في تصعيدها لفرض الضغوط والحفاظ على مكتسباتها التي جنتها طيلة السنوات الماضية، خاصة تلك المرتبطة بنفاذية دخولها الأجواء السورية وتوجيه الضربات ضد الأهداف الإيرانية، باعتبارها خطوطاً حمراء لأمنها القومي، وهو ما تُبلغه للفاعلين الدوليين في تلك المناطق ومنهم روسيا، وتضطر أن تقوم به بشكل منفرد خاصة في ظل الانشغال الأمريكي والأوروبي بالحرب الأوكرانية.