• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42
news-details
تقدير موقف

ما حدود نجاح فكرة الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية؟


أثار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موضوع الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية مرتين بعد عودته من زيارته إلى الصين: المرة الأولى كانت على متن الطائرة التي أقلَّته من بكين، من خلال مقابلة أجرتها معه مجلة لي إيكو Les Echos وإذاعة فرانس أنتير، وموقع بوليتيكو، وهي المقابلة التي نُشِرت في 9 أبريل 2023، والتي أثارت الكثير من الجدل؛ حيث دعا ماكرون فيها الأوروبيين إلى عدم الاصطفاف وراء موقف الولايات المتحدة فيما يخص ملف تايوان، داعياً إلى جعل معركة أوروبا المقبلة تحقيق الاستقلالية الاستراتيجية، والمرة الثانية في 11 أبريل 2023 أثناء زيارته إلى هولندا؛ حيث كان يدلي بخطاب حول هذا المفهوم في قاعة الاجتماعات بمعهد نيكزس Nexus institute في مدينة لاهاي؛ حيث قاطعه بعض الحضور الذين سألوه عن الديمقراطية الفرنسية وعن ملايين المتظاهرين في الشارع الفرنسي. وعلى الرغم من ذلك، تمكَّن ماكرون الدفاع عن نفسه، معتبراً أن إصلاح نظام التقاعد يصب في تصحيح الأوضاع المالية في فرنسا؛ وذلك لجعلها أكثر قوةً، ومن ثم جعل أوروبا أكثر قوةً، ومبيناً أن سن التقاعد في هولندا مرتفع كثيراً عما هو في فرنسا.

ويرى مراقبون أن عودة الاهتمام من قبل الرئيس ماكرون بموضوع الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية لها ما يبررها، خصوصاً في الوقت الحالي، وفي ظل معاناة أوروبا من تبعية في المجال الأمني للولايات المتحدة، ومن تبعية في مجال الطاقة لروسيا، ومن تبعية في مجال السلع والبضائع للصين، فيما يرى آخرون أن إعادة طرح هذا الموضوع لم يكن خياراً جيداً من قبل الرئيس الفرنسي؛ وذلك لعدم وضوحه، ولأنه استُبدِلت به عبارات أكثر تقبلاً من الشركاء الأوروبيين، كالسيادة الأوروبية، والبوصلة الاستراتيجية.

أبعاد الاستقلالية

يروج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمصطلح الاستقلالية الاستراتيجية Autonomie Stratégique منذ خطابه في السوربون Discours de la Sorbonne في سبتمبر 2017. والمقصود بهذا المصطلح العمل على تمكين أوروبا من امتلاك وسائلها الخاصة للدفاع عن نفسها عسكرياً ودبلوماسياً وطاقوياً، خصوصاً بعد اتضاح أن كل الأزمات الكبرى التي ضربت أوروبا في السنوات الأخيرة (كالأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، وأزمة الهجرة واللجوء، وأزمة جائحة كورونا، وحالياً الأزمة الأوكرانية) أتت إليها من الخارج، ومن ثم فإن دوائر القرار والنخب الأوروبية بدأت تفكر في كيفية التشدد في مواجهة هذا الخارج وإرساء نوع من السيادة الأوروبية Souveraineté Européenne، وكان الانتقال لتطبيق هذه السيادة معقداً، وخصوصاً من ناحية تحديد درجة الانفصال المطلوبة عن حليف أوروبا الأساسي: الولايات المتحدة؛ لذلك تم تبسيط هذا المصطلح وجعله يستند إلى ثلاثة ركائز: الاستقلالية الدفاعية والأمنية، والاستقلالية الاقتصادية، والاستقلالية التكنولوجية.

1المُكوِّن الدفاعي والأمني: من الناحية الدفاعية فإن هذه الاستقلالية ما زالت طموحاً Aspiration يتطلب الكثير من العمل، خصوصاً بعد الأزمة في أوكرانيا التي بيَّنت بوضوح أنه لولا تدخل حلف الناتو والولايات المتحدة عسكرياً لكانت أوكرانيا تحولت إلى مقاطعة روسية، كما أن الناتو ربما لا يعتبر نفسه معنياً إلا بمسألة حماية الحدود الشرقية لأوروبا؛ حيث توجد روسيا، ولا يلتفت إلى التهديدات الآتية من الجنوب؛ أي من الضفة الثانية للبحر المتوسط، كالحركات الجهادية وتمدد الإرهاب، ومن ثم فإن مسألة تأمين الحدود الجنوبية هي مسألة على الأوروبيين القيام بها بالكامل عبر الاعتماد على أنفسهم فقط.

2المكون الاقتصادي: من الناحية الاقتصادية فإن هذه الاستقلالية أصبحت واقعاً وليست طموحاً، ولكن هناك تخوف من مسألتين اثنتين: الاعتماد الأوروبي على السلع الصينية، والتخوف من تداعيات قانون الحد من التضخم الأمريكي IRA: Inflation Reduction Act الذي تم إقراره في أغسطس 2022، الذي ستقدم السطات الأمريكية من خلاله دعماً مالياً لتشجيع إنتاج واستخدام الطاقة النظيفة (391 مليار دولار للإنفاق على الطاقة)؛ ففي مجال السيارات مثلاً، سيقتصر الدعم على السيارات المصنعة بأجزاء أمريكية، ومن ثم سيجري استبعاد تلك السيارات المصنعة في أي مكان آخر، لا سيما في أوروبا؛ ما سيدفع الكثير من الشركات الأوروبية إلى نقل إنتاجها إلى الولايات المتحدة.

3المكون التكنولوجي: فيما يخص الناحية التكنولوجية، فإن استيلاء المنصات الرقمية العالمية الرئيسية غير الأوروبية التي يُشَار إليها بمصطلح GAFAM على مسألة سن المعايير لمستخدمي الإنترنت من الأوروبيين، وشن الهجمات السيبرانية التي عادةً ما يكون مصدرها روسيا والصين، ورقمنة شركة جوجل للتراث الثقافي لأوروبا من خلال نشر إنتاجها الأدبي والفكري عبر كتب جوجل Google Books، والتبعية الأوروبية في مجال أشباه الموصلات والرقائق لتايوان والصين، وهيمنة الشركات غير الأوروبية مثل Google وFacebook على مسألة صناعة الكابلات البحرية؛ تمثل تحديات لاستقلالية قطاع التكنولوجيا في أوروبا؛ حيث يقوم الاتحاد الأوروبي بتنظيم هذا القطاع عبر سن القوانين واللوائح، ولكن على الرغم من ذلك يجب القيام بالكثير من العمل في هذا المجال.

أهداف ماكرون

يمكن إرجاع أسباب استخدام ماكرون المتكرر لمصطلح الاستقلالية الاستراتيجية إلى الأسباب التالية:

1- الرغبة في التمايز السياسي: يحاول ماكرون عبر إصراره على أفكار مثل الاستقلالية الاستراتيجية إظهار تمايزه داخل المعسكر الغربي على قاعدة أن فرنسا هي حليفة للولايات المتحدة الأمريكية وليست تابعة لها (Alliée et non pas Alignée)، على عكس الشركاء الآخرين الذين يصطفون تلقائياً وراء مواقفها في القضايا الجيوبوليتيكية الكبرى.

وترى بعض الآراء أن هذا التمايز تقليد رئاسي فرنسي، كان الجنرال شارل ديجول قد طبقه من قبل، كما كان قد طبقه أيضاً “جاك شيراك” في معارضته للحرب على العراق في العام 2003، وهناك من يعتبر أن “ماكرون” يريد إظهار نفسه على أنه خليفة الجنرال “ديجول”، ولكن مقاربة “ماكرون” من الصعب أن تنجح؛ لأن فرنسا الحالية لا تشبه فرنسا عام 1963، حتى إن العالم كله قد تغير، ومن ثم فإن بناء مواقف فرنسا يجب أن ينبع من كيفية تحقيق وحماية مصالحها وليس عبر الرغبة في إظهار تمايزها عن السياسة الأمريكية؛ فاعتبار “ماكرون” مثلاً أن ملف تايوان “لا يهمنا” لم يأخذ في عين الحسبان مدى تأثر التجارة العالمية والاقتصاد العالمي بأكمله – ومن ضمنها المصالح الفرنسية – باندلاع حرب في تايوان.

كما ترى هذه الآراء أن قول “ماكرون” إنه لا يمكن ردع الصين عن تايوان قد يكون فيه نوع من التسرع؛ حيث إنه يمكن ردعها بتهديد بعقوبات اقتصادية غربية، وإن هذه العقوبات تفقد الكثير من قوتها إذا كانت أمريكية فقط على الصين ولم تشارك فيها أوروبا.

 - 2ربط النقاشات الكبرى بشخص ماكرون: يمكن إدراج إصرار ماكرون على طرح وتبني موضوع الاستقلالية الاستراتيجية، ضمن إطار الأسلوب الشخصي الذي يعتمده، والقائم على طرح أفكار مستفزة تثير الاستغراب لإثارة الجدال والنقاش حولها، ولجعل هذه النقاشات مرتبطة بشخصه. والسوابق في هذا المجال كثيرة، بدايةً مع طرحه فكرة الجيش الأوروبي، ومن ثم اعتباره أن حلف الناتو يعاني من موت سريري، ومن ثم تبنيه فكرة أنه لا يجب إذلال روسيا، وأنه يجب تقديم ضمانات أمنية لها، وصولاً إلى مواقفه المثيرة للجدل حول تايوان.

3- التغطية على قضايا أخرى: يربط البعض طرح ماكرون هذا الموضوع في هذا التوقيت بالذات بالتغطية على ما يحصل داخلياً في فرنسا أو التغطية على عدم إثارته موضوع حقوق الإنسان في زيارته الأخيرة إلى الصين؛ فقد شهدت فرنسا خلال الفترة الأخيرة تظاهرات واحتجاجات واسعة للاعتراض على قانون إصلاح نظام التقاعد، كما تعرضت زيارة الرئيس الفرنسي لانتقادات عديدة بعضها بسبب تصريحاته عن تايوان، التي أشار خلالها إلى أن أوروبا يجب ألا تكون تابعة للولايات المتحدة أو للصين في ملف تايوان. علاوةً على ذلك، تعرض “ماكرون” لبعض الانتقادات من زاوية عدم إثارته قضية حقوق الإنسان أثناء زيارته إلى الصين.

4- طموح لبناء أوروبا قوية: كما لا يمكن نفي أن وراء طرح “ماكرون” لفكرة الاستقلالية الأوروبية هو وجود رغبة صادقة لديه من أجل بناء أوروبا قوية ومستقلة، خصوصاً بعد عدة محطات أظهرت فيها الولايات المتحدة الأمريكية تراجع اهتمامها بالشؤون الأوروبية، وانتقال تركيزها إلى أماكن أخرى في العالم. وهذه النزعة لم تقتصر على الفترة الرئاسية التي شغلها دونالد ترامب فقط، بل كانت قد بدأت منذ الولاية الثانية للرئيس أوباما، واحتلال منطقة شرق آسيا رأسَ أولويات السياسة الأمريكية الخارجية، كما أنه لا يمكن إغفال إطاحة فرنسا من عقد الغواصات النووية مع أستراليا من قبل حلفائها المفترضين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، وإنشائهم تحالف أوكوس من دون علمها أو مشاركتها، بالإضافة إلى مسألة بيع الغاز الأمريكي المسال لأوروبا بأربعة أضعاف سعره داخل السوق الداخلية الأمريكية لتعويض الغاز الروسي، ومؤخراً قانون الحد من التضخم؛ حيث إن كل هذه التراكمات بحق الحليف الأوروبي، جعلته يتجه للتفكير في حماية نفسه.

حدود التطبيق

إن المضي قدماً في تحقيق هذا الهدف الأوروبي ما زالت تعترضه عقبات تستوجب إيجاد حلول لها. ويمكن تلخيص هذه العقبات في النقاط التالية:

1- استعادة ثقة الدول الأوروبية المتشككة: لا يمكن اعتبار أن الرئيس الفرنسي كان يتكلم باسم فرنسا فقط حين أثار مؤخراً مسألة الاستقلالية الاستراتيجية؛ لأن العديد من الأفكار المنضوية داخل هذا المبدأ، جرى تضمينها في وثائق الاتحاد الأوروبي منذ عدة سنوات، وكان آخرها البوصلة الاستراتيجية Boussole Stratégique التي وافق عليها ممثلو الدول السبعة والعشرون الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في مارس 2022.

ولكن تصريحات “ماكرون” الأخيرة في مجلة لي إيكو Les Echos تسببت في إغضاب بعض الدول الأوروبية؛ لعدة أسباب؛ حيث إنها أتت في التوقيت الذي كانت الصين تنفذ فيه تدريبات عسكرية لمحاكاة ضرب أهداف في تايوان، كما طوقت الجزيرة بحرياً، وكذلك لأن “ماكرون” قال فيها إن تايوان ليست هي مشكلته، ولأنه أعتبر أيضاً أنه لا يمكن ردع الصين. وظهر هذا الغضب من خلال اتهام بعض الأوساط الأوروبية لماكرون باتباعه مع الرئيس الصيني جين بينج الأسلوب نفسه الذي مارسه مع “بوتين” في فترة سابقة، والذي تسبب له بانتقادات، وبأن مواقف كهذه تسهل على الصين القيام بأي عملية مستقبلية لاحتلال تايوان.

وذهبت صحيفة بيلد الألمانية إلى حد وصف ما قام به “ماكرون” بأنه انحناء أمام جين بينج، كما اعتبر رئيس الوزراء البولندي “ماتيوز موراويكي” أن التحالف مع واشنطن هو أساس مُطلَق للأمن الأوروبي، رافضاً توجه بعض القادة الغربيين الذين يحلمون بالتعاون مع الجميع. ويكشف هذا الغضب مدى تمسُّك وارتباط دول أوروبا الشرقية والبلطيق بالحماية الأمريكية، وخاصةً منذ الحرب في أوكرانيا، حتى إن بعض الأوساط البولندية ذهبت أبعد من ذلك في انتقاد تصريحات ماكرون، معتبرةً أنه “إذا كان هذا هو المقصود بالاستقلالية الاستراتيجية من قبل “ماكرون” – أي فصل أوروبا عن الولايات المتحدة – فإننا لا نريدها”؛ ما يعني أن “ماكرون” خسر نقاطاً في توضيحه الأخير عمَّا يقصد بالاستقلالية الاستراتيجية، ومن ثم فإنه لتقدم هذا المشروع من جديد يجب استعادة ثقة هؤلاء المعترضين.

2- تأثير ضعف ماكرون الداخلي على الفكرة: يعتبر ماكرون من أكثر القادة الأوروبيين المتحمسين للاستقلالية الاستراتيجية، ولكن التساؤل الحقيقي يدور حول الإمكانات التي يتمتع بها أو التي تتمتع بها فرنسا، والتي تمكنه من ممارسة الضغوط من أجل فرض وجهة نظره هذه، وتحويلها إلى سياسات مطبقة، خصوصاً في المرحلة الحالية التي يمر فيها “ماكرون” بأزمات داخلية تساهم في إظهاره ضعيفاً.

وتتلخَّص مشكلة ماكرون الأساسية في افتقاده شرعية داخلية يستند إليها لمتابعة مدة ولايته الثانية، التي ما زالت في بدايتها، وحيث تجلَّى ضعفه هذا في مسألة تمرير قانون إصلاح نظام التقاعد والتداعيات التي خلَّفها؛ إذ بدا واضحاً أن عدم امتلاكه أغلبية برلمانية مطلقة سيقضي على استقرار حكمه في فرنسا، وهذا الأمر سيؤدي إلى إضعافه على الساحتين الأوروبية والدولية؛ حيث إنه سيبقى خارجياً تحت دائرة السؤال عما يجري في بلاده، كما حصل معه في لاهاي مؤخراً؛ حيث تمت مقاطعة خطابه وسؤاله عن الديمقراطية الفرنسية وعن ملايين المتظاهرين في شوارع فرنسا، بالإضافة إلى رفع لافتة من قبل بعض الجمهور تصفه بأنه رئيس العنف والنفاق.

3- تأمين التناسق مع الفكرة الأطلسية: على الرغم من الانتقادات الشديدة التي خرجت من الولايات المتحدة تجاه تصريحات “ماكرون” الأخيرة فيما يخص ملف تايوان – والتي كان من أبرزها انتقادات الرئيس الأمريكي السابق “ترامب” لماكرون ووصفه بأنه “تذلَّل للصين”، كما قال المرشح الرئاسي السابق الجمهوري ماركو روبيو أنه إذا كان ماكرون يتحدث نيابةً عن أوروبا، وكانت أوروبا تنوي الوقوف على الحياد بين الولايات المتحدة والصين، فإنه يمكن للولايات المتحدة أن تقف على الحياد في أوكرانيا – فإن موقف البيت الأبيض بقي معتدلاً ولم يُرِد تأجيج الموقف؛ حيث اعتبر المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأمريكي “جون كيربي”، في 10 أبريل 2022، أن الولايات المتحدة لديها ثقة كاملة بعلاقتها الثنائية الممتازة مع فرنسا وبالعلاقة التي تربط الرئيس بايدن بالرئيس ماكرون.

هذا ويرى بعض المراقبين أن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في التصدي للهجوم الروسي على أوكرانيا، هو بمنزلة نهاية لفكرة الاستقلالية الاستراتيجية الأوروبية؛ حيث بدا واضحاً أن الأوروبيين ظهروا غير قادرين عن الدفاع عن قارتهم من دون تدخل أمريكي قوي.

إلا أن هناك تحليلات مُقابِلة تعتبر أن ما يحدث في أوكرانيا سيُسرع من عملية بناء هذه الاستقلالية؛ وذلك لأن مصلحة الولايات المتحدة تقتضي ذلك، وتقتضي أيضاً أوربة الناتو Européanisation de l’OTAN؛ حيث إن الولايات المتحدة تنتهج منذ سنوات أسلوباً عسكرياً معيناً يقوم على بناء قدراتها العسكرية بشكل يُمكِّنها من مواجهة قوى عظمى واحدة وليس اثنتين في الوقت نفسه. وإذا كانت التطورات الحاصلة على الأرض مُهيَّأة لأن تفضي إلى مواجهة بين الولايات المتحدة وقوتين عُظميَين في وقت واحد فإن واشنطن ستعمل على محاولة ردع الأول والتهيؤ للتصدي للخصم الثاني.

وهو الأسلوب الذي يقال إن بايدن قد اقتنع بانتهاجه من خلال الانخراط الأمريكي في أوكرانيا؛ أي أنه انطلاقاً من معرفته أن الصين ليس مهيأة عسكرياً في الوقت الحالي للقيام بعملية عسكرية لاحتلال تايوان، وبأنها تحتاج إلى بضع سنوات إضافية للقيام بذلك، فإن “بايدن” قرر مواجهة الروس في أوكرانيا من أجل استنزاف قواهم وإضعافهم؛ حتى لا يتلاقى التوقيت الصيني لاحتلال تايوان مع وجود روسيا قوية عسكرياً. وتعتبر التوقعات الأمريكية أن الصين ستصبح مهيأة لذلك في عام 2027؛ لذلك فإن دور أوروبا الدفاعي هو الاستعداد لاستلام هذه المهمة عن واشنطن (أي استنزاف روسيا وإضعافها) إذا طالت الأزمة الأوكرانية؛ لأن الملف التايواني هو الملف الحيوي الأكثر أهميةً بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي تعتبر أن انشغالها في أوكرانيا هدف آني يخدم استراتيجيتها في التهيؤ لمواجهة الصين الذي يعتبر الهدف الأمريكي على المدى البعيد.

لذلك يجب على الأوروبيين الاستعداد عسكرياً لمسألة مواجهة روسيا، بعد سنوات قليلة، من دون الاعتماد كثيراً على الولايات المتحدة التي ستضطر إلى إعادة تركيزها العسكري على جهود ردع الصين، وسيكون هذا التركيز أكبر وأسرع إذا وصلت إدارة جمهورية بعد انتخابات عام 2024.

ختاماً: على الرغم من اعتبار ماكرون أن أفكاره حول الاستقلالية الاستراتيجية قد انتصرت في ساحة صراع الأفكار داخل أروقة الاتحاد الأوروبي، فإنه يبدو أن تحقيق هذه الاستقلالية على أرض الواقع ينتظره مسار معقد، يمر أولاً بتصور إطار جديد للعلاقة مع حلف الناتو، بالإضافة إلى التعويض عن خسارة بعض الحلفاء الداخليين الذين افتقدهم ماكرون، كالمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل؛ لموازنة تحول الثقل الأوروبي نحو دول أوروبا الشرقية.