في يوم 10 أبريل الجاري، أعلن المتحدث باسم قيادة المسرح الشرقي لجيش التحرير الشعبي الصيني، عن انتهاء التدريبات العسكرية القتالية حول جزيرة تايوان “السيف المشترك”، التي استمرت لمدة ثلاثة أيام من 8 إلى 10 أبريل، كما أشار المتحدث إلى أن هذه العمليات اختبرت بشكل شامل قدرات القوات في العمليات المشتركة التي تنطوي على خدمات وأسلحة متعددة في ظل ظروف قتالية فعلية؛ وذلك بعد أن مارست ضربات دقيقة، وحاصرت الجزيرة التي تعتبرها بكين ملكاً لها، ليكون الجيش بذلك مستعداً للقتال في جميع الأوقات، وقادراً على إنهاء أي محاولات انفصالية من أجل استقلال تايوان، أو سحق أي محاولات للتدخل الأجنبي فيها بأي شكل من الأشكال.
وقد جاءت تلك التدريبات رداً على لقاء رئيسة تايوان تساي إنج ون، رئيسَ مجلس النواب الأمريكي كيفين مكارثي في لوس أنجلوس الأسبوع الماضي؛ إذ أعقب هذا اللقاءَ إعلانٌ من وزارة الدفاع الصينية عن معارضتها الشديدة لجميع أشكال التفاعل الرسمي بين الولايات المتحدة وتايوان؛ لأنها تنتهك مبدأ “صين واحدة” وأحكام البيانات الثلاثة المشتركة بين الصين والولايات المتحدة.
متغيرات عسكرية
بعد أن اختتمت الصين مناوراتها العسكرية التي استهدفت تايوان؛ وذلك على مدار ثلاثة أيام من تطويق الجزيرة، لا سيما محاكاتها الهجمات الصاروخية على المدن التايوانية، وضربات السفن الصينية من الشرق؛ يمكن إلقاء الضوء على العديد من الملاحظات الخاصة بهذه المناورات، التي تشير في مجملها إلى تطور طبيعة الخطة العسكرية الصينية تجاه تايوان؛ وذلك على النحو التالي:
1– التصعيد في طبيعة التدريب: بالرغم من أن هذه المناورات لا تتناسب مع حجم المناورات التي أُطلِقت في أغسطس الماضي، انتقاماً للزيارة التي أجرتها نانسي بيلوسي إلى تايوان، والتي استمرت حينها لأكثر من أسبوع، وتضمنت إطلاق صواريخ في سماء تايوان، إلا أن التدريبات الأخيرة كانت أصغر حجماً بكثير من التدريبات السالفة الذكر، لكنها في الوقت ذاته أظهرت تصعيداً في طبيعة تدريب الجيش الصيني على توجيه الضربات نحو تايوان؛ حيث أعلنت وزارة الدفاع التايوانية عن رصدها عدة طائرات، من بينها مقاتلة من طراز (J–15) في غرب المحيط الهادئ على الحدود الشرقية لتايوان، وهي طائرات لم تُرصَد مطلقاً داخل منطقة الدفاع الجوي التايوانية من قبل، ومن المعروف أنها تُطلَق من حاملتَي طائرات لجيش التحرير الشعبي، بما في ذلك شاندونج التي تعقبتها تايوان واليابان وهي تبحر عبر تايوان أواخر الأسبوع الماضي، ولكن استخدام جيش التحرير الصيني هذا النوع من الطائرات خلال التدريب، إنما يشير إلى أن الجيش يمارس ضربات على تايوان من نمط التطويق، وأنه يمكنه تنفيذها فعلياً حال حدوث نزاع فعلي.
هذا ويرى الخبراء العسكريون أن مناورات “السيف المشترك” تعد بمنزلة تخويف وفرصة للقوات الصينية لممارسة عملية إغلاق الحدود التايوانية، من خلال عرقلة حركة المرور البحرية والجوية، وهو خيار استراتيجي مهم قد يسعى إليه الجيش الصيني في حالة استخدامه القوة العسكرية للاستيلاء على تايوان.
2– محاكاة وجود نزاع فعلي: يزعم جيش التحرير الشعبي أن هذه المناورات قامت على أساس محاكاة تنفيذ ضربات صاروخية دقيقة على أهداف رئيسية في تايوان؛ وذلك وفقاً لما نقلته وسائل الإعلام الحكومية، ورسوم متحركة نشرتها على الإنترنت قيادةُ المسرح الشرقي لجيش التحرير الشعبي الصيني، تُصوِّر الهجمات على تايبيه من قواعد الصواريخ في البر الرئيسي الصيني؛ إذ أعلن الجيش الصيني أنه أكمل بنجاح التدريبات العسكرية، واختبر خلالها بشكل شامل قدرات وحدات متعددة في ظل ظروف قتالية فعلية، مضيفاً أن القوات استطاعت مواصلة الحفاظ على الوضع المتمثل في تطويق الجزيرة، كما أكد الجيش أن القوات الموجودة في مسرح العمليات مستعدة للقتال في أي وقت، والقضاء بحزم على أي محاولات انفصالية من أجل استقلال تايوان، أو سحق أي محاولات للتدخل الأجنبي فيها.
3– الاعتماد الكبير على القوات الجوية والبحرية: نتيجة لموقع تايوان الجغرافي المنفصل عن الصين، اعتمدت بكين في تدريباتها – بدرجة أكبر – على قدراتها الجوية والبحرية في محاصرة ومواجهة الجزيرة عسكرياً؛ حيث أبلغت تايوان عن أكثر من 200 رحلة جوية لطائرات حربية صينية في الأيام الثلاثة للمناورات.
هذا وقد أوضح جيش التحرير الشعبي الصيني أن حاملة طائراته “شاندونج” قد شاركت في هذه المناورات لأول مرة. والجدير ذكره أن ظهور حاملة الطائرات “شاندونج” في المحيط الهادئ يشير إلى أنه يمكن استخدامها لمنع الجيوش الأجنبية من القدوم لمساعدة تايوان، ومن ثم إذا كانت هناك مناورة عسكرية مماثلة في المستقبل، فسيتعيَّن على تايوان مواجهتها بمفردها.
4– التركيز على البعد الهجومي: تتميَّز تدريبات “السيف المشترك” باستخدام مجموعة واسعة من الأجهزة والمعدات العسكرية الهجومية؛ إذ تعاونت المدمرات والفرقاطات وسفن الصواريخ المضادة للسفن في مضيق تايوان مع وحدات الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز المنتشرة على طول ساحل البر الرئيسي الصيني لتتبع أهداف في جنوب غرب جزيرة تايوان، كما تحركت السفن الحربية إلى مواقع هجومية محددة سلفاً؛ ما يشير إلى أن التوجه الصيني الجديد تجاه تايوان قد يعتمد على الطابع الهجومي العسكري، لا على الطابع الدبلوماسي السلمي. علاوةً على ذلك، استندت التدريبات إلى سيناريوهات قتالية فعلية، بهدف التحقق من قدرة القوات على المشاركة في عمليات قتالية مشتركة.
5– إطلاق تصريحات عدائية صريحة: عادةً ما تُركِّز الأهداف المعلنة لأية مناورات عسكرية صينية في المنطقة على أنها موجهة لتطوير القدرات الدفاعية للجيش الصيني، أو لحماية نطاق حدود أمنها القومي، بيد أن تلك المناورات اصطحبتها تصريحات عدائية مباشرة من جيش التحرير الشعبي الصيني، الذي أعلن أن هذه التدريبات قائمة على الاستعداد القتالي لاختبار القوات بشكل شامل في ظل ظروف قتالية فعلية، بما يشير إلى جاهزيته لاستخدام القوة العسكرية صراحةً ضد تايوان.
هذا وقد تناولت وسائل الإعلام الرسمية الصينية أنباء عن توصيل هذه التدريبات رسالة واضحة مفادها أن الصين لن تتسامح مع أي تحدٍّ بشأن تايوان، بل تُشدِّد مراراً على أن قضية تايوان شأن داخلي لها، وأن إعادة التوحيد الوطني هو مصلحتها الأساسية، ومن ثم فإن أي استفزازات من هذا القبيل ستُقابَل دائماً برد حازم من جانب بكين، كما أعلن التلفزيون الرسمي الصيني أن هذه المناورات كانت تضم قاذفات (H–6) ذات القدرة النووية والمسلحة بصواريخ حية، بجانب السفن الحربية التي ساهمت في تشكيل حالة حصار متعدد الاتجاهات حول الجزيرة.
6– كثافة المناورات العسكرية الصينية المستهدِفة لتايوان: تأتي تلك المناورات ضمن سلسلة المضايقات العسكرية الصينية لتايوان، التي اشتدت خلال السنوات الأخيرة؛ حيث دائماً ما ترسل بكين الطائرات أو السفن العسكرية صوب الجزيرة بوتيرة شبه يومية، وقد ازداد النشاط العسكري بدرجة كبيرة منذ زيارة بيلوسي الأخيرة؛ حيث تُحلِّق الطائرات المقاتلة الصينية لجيش التحرير الشعبي بانتظام فوق خط الحدود الفاصل بينهما، ناهيك عن الإبحار المنتظم للسفن البحرية التابعة للجيش في المياه قبالة الساحل الشمالي الشرقي لتايوان.
اهتمام دولي
لقد تباينت مواقف العديد من دول العالم تجاه المناورات العسكرية الصينية، بيد أنها لا تزال هي ذاتها المواقف الدولية المستمرة منذ عقود، التي تنقسم بين رفض غربي للتحركات الصينية، يقابله تأييد روسي غير محدود. ويمكن تناول أبرز هذه المواقف الأخيرة كالتالي:
1– إجراء مناورات أمريكية مضادة: أشارت الولايات المتحدة إلى مراقبتها التدريبات الصينية، محذرةً من تقويضها للسلام والاستقرار عبر مضيق تايوان. هذا وقد دفعت تلك المناورات إلى إرسال واشنطن – في اليوم الأخير من المناورات – المدمرة التي تعمل بالصواريخ الموجهة (USS Milius) عبر أجزاء متنازَع عليها في بحر الصين الجنوبي، وتحديداً بالقرب من جزر سبارتلي المتنازع عليها؛ الأمر الذي أثار انزعاج السلطات الصينية بشدة، وجعلها تُصرِّح بتمتُّع الصين بسيادة لا جدال فيها على جزر بحر الصين الجنوبي والمياه المجاورة لها؛ لذلك سيتم إبقاء قوات قيادة المسرح الجنوبي لجيش التحرير الشعبي الصيني في حالة تأهُّب قصوى؛ من أجل العمل على حماية السيادة الوطنية للصين وأمنها، بالإضافة إلى السلام والاستقرار في بحر الصين الجنوبي.
ولأول مرة، أجرت قاذفات القنابل الاستراتيجية الأمريكية من طراز (B1) تدريبات مع القوات الجوية الهندية، وسط تدهور سريع للوضع في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ بين بكين وتايبيه، كما انطلقت المناورات العسكرية المشتركة الأكبر بين الولايات المتحدة والفلبين في وقت تتَّسم فيه علاقات البلدين الحليفين بالدفء؛ بسبب مخاوفهما من تزايد النفوذ الصيني في المنطقة. في المقابل، انتقدت بكين أيضاً هذه المناورات، وحذَّرت واشنطن من عدم التدخل في نزاعات بحر الصين الجنوبي أو إلحاق الضرر بسيادتها وحقوقها البحرية ومصالحها، أو محاولة استخدامها كورقة ضغط عليها في مسألة تايوان.
2– قلق أوروبي وياباني: كشفت نبيلة مصرالي المتحدثة باسم مفوضية الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، عن شعور التكتل بالقلق إزاء تكثيف الأنشطة العسكرية لجيش التحرير الشعبي في مضيق تايوان وحول تايوان، مشيرةً إلى أنه لا ينبغي تغيير الوضع الراهن من جانب واحد أو بالقوة، وأن أي زعزعة للاستقرار في المضيق نتيجةً لتصعيد أو حادث أو استخدام للقوة، ستكون له تداعيات اقتصادية وأمنية هائلة؛ ليس على المنطقة فحسب، بل على الصعيد العالمي.
من جانبه، أعلن المتحدث باسم الحكومة اليابانية أن بلاده قد تابعت التدريبات العسكرية الصينية حول تايوان باهتمام كبير؛ حيث طالما شعرت اليابان بالقلق بشأن الأنشطة العسكرية للصين في المنطقة؛ وذلك نظراً إلى مدى قرب الجزر اليابانية الجنوبية من تايوان. هذا وقد صرَّح كبير أمناء مجلس الوزراء هيروكازو ماتسونو، بأن أهمية السلام والاستقرار في مضيق تايوان ليست مهمة لأمن اليابان فقط، بل لاستقرار المجتمع الدولي ككل أيضاً.
3– تأييد روسي للتحركات الصينية: نظراً إلى طبيعة التقارب الاستراتيجي بين الجانبين، أيَّد الكرملين بالكامل المناورات العسكرية التي أجرتها الصين في محيط تايوان، معتبراً أن بكين تتعرَّض لاستفزازات من جانب الولايات المتحدة الداعمة للجزيرة، كما أنها تمتلك الحق السيادي في التحرك رداً على هذه التصرفات الاستفزازية، ولا سيما عبر إجراء مثل هذه المناورات حول تايوان.
4– تأهُّب واستعداد تايواني: رفضت الرئيسة التايوانية تساي إنج ون، المناورات العسكرية الصينية الأخيرة، مشيرةً إلى أنها قد سبَّبت حالة من عدم الاستقرار في تايوان والمنطقة، ووصفتها بأنها تصرُّفات غير مسؤولة من دولة كبرى. وبدورها، أوضحت وزارة الدفاع التايوانية مراراً أنها سترد بهدوء على التدريبات الصينية، وأنها لن تُثير الصراع في المنطقة عقب انتهاء التدريبات؛ حيث إنها لن تتوقف عن تعزيز استعدادها القتالي؛ وذلك بالتعاون مع شركائها الإقليميين والدوليين.
خلاصة القول: تعد المناورات العسكرية الصينية الأخيرة حول تايوان بمنزلة تطور متسارع في الاستراتيجية الصينية للتعامل مع القضية التايوانية؛ حيث عادةً ما كانت بكين تحاول استمالة الجانب التايواني لإعادة ضمه إلى الأراضي الصينية مرةً أخرى من خلال الوسائل السلمية، بيد أن التحركات الاستفزازية من جانب واشنطن وتايبيه قد تدفع بكين إلى التوسع في استخدام القوة العسكرية أداةً بديلةً لتحقيق هدفها خلال السنوات القليلة المقبلة، وهي خطوة تثير تخوف وقلق العديد من القوى العالمية والإقليمية؛ نظراً إلى ما ستُسبِّبه من ضرر غاشم على الأمن والاقتصاد العالميين.