كشفت روسيا عن وثيقة جديدة للسياسة الخارجية في الحادي والثلاثين من مارس الماضي، وهي الأولى من نوعها منذ عام 2016. وقد حملت افتتاحية الاستراتيجية عدداً من الرسائل الهامة، تمثل أبرزها في الإشارة إلى العالم الجديد الذي يختبره الفاعلون في النظام الدولي حالياً، وضرورة تعاطي موسكو مع هذه التغيرات بسرعة وفاعلية. وعلى الرغم من عدم تبني الاستراتيجية لغة جديدة؛ حيث أشارت إلى الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها أكبر تهديد يواجه روسيا، فإن الورقة قد قدمت نظرة جديدة لتوصيف روسيا لحلفائها الاستراتيجيين؛ حيث أشارت الوثيقة – التي تكونت من اثنتين وأربعين ورقة، تم نشرها عبر موقع الكرملين الإلكتروني – إلى أهمية العلاقة بكل من الصين والهند، كما أكدت ضرورة تعميق التعاون والتنسيق مع مراكز القوة والتنمية العالمية القائمة في القارة الأوراسية. أخيراً، وصفت الوثيقة روسيا بأنها دولة حضارة مكلَّفة بالدفاع عما سمته “العالم الروسي” و”القيم الروحية والأخلاقية التقليدية” ضد الأيديولوجيات الزائفة، وغيرها من التوجهات والأفكار الليبرالية الجديدة.
مضمون الاستراتيجية
تعرضت استراتيجية السياسة الخارجية الروسية في البداية لعدد من التحديات والخصائص التي تحكم النظام الدولي في الوقت الحالي، ومن ثم انتقلت للحديث عن مصالح وأهداف السياسة الخارجية الروسية. وتمثلت أبرز النقاط التي تعرضت لها الاستراتيجية في الآتي:
1. توصيف المقاصد الكبرى للسياسة الخارجية الروسية: أكدت الاستراتيجية، عبر مبادئها الأولى، مرور العالم بعدد من التغيرات الهيكلية المحورية، التي تعزز عملية التحول بعيداً عن النظام الأحادي القطبية، في ظل تعاظم قوة عدد من الفواعل الدولية. وعلى الرغم من حتمية هذا التحول التاريخي، فإن بعض القوى المتضررة من نتائجه – وعلى رأسها الولايات المتحدة ومناصرو الليبرالية الجديدة – يسعون إلى الإخلال باستقرار النظام الدولي في سبيل عرقلة التحول. ومن هنا تؤكد الاستراتيجية أهمية العمل على وقف هذه التحركات المعادية للتغير الذي يشهده العالم، والذي يخدم في مجمله مختلف الفواعل في النظام الدولي، ما عدا القوى المستفيدة من غياب العدالة الحالي عن النظام الدولي.
2. فشل منظومة الأمن الجماعي والمنظمات الدولية: أثارت الوثيقة قضية الأمن الجماعي، مؤكدةً أن الأمم المتحدة يتم استخدامها في الوقت الحالي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة والدول المتحالفة معها، وهو ما تسبب في تهديد كبير للسلم والاستقرار الدوليين، وأفشل العديد من الجهود الدولية في مجال منع انتشار أسلحة الدمار الشامل، ومحاربة الأمراض المعدية، والقضاء على الظاهرة الإرهابية، وغير ذلك من القضايا التي تحمل بعداً عالمياً ودولياً هاماً.
3. تصاعد أزمة اقتصاديات العولمة: تعرضت الاستراتيجية بصورة موسعة للخلل الكبير في المنظومة الاقتصادية العالمية الحالية، وأرجعتها إلى العولمة والنظام الاقتصادي النيوليبرالي المصمم لتعزيز سيطرة الدول الغربية على عوائد التنمية الاقتصادية العالمية، في مقابل توسيع الهوة بين دول الشمال والجنوب، وإضعاف اقتصاديات العديد من الدول النامية. وترى روسيا أن التحول نحو نظام متعدد الأقطاب سيُساهم في التغلب على هذه المعضلة الاقتصادية العالمية الحالية، وأن روسيا بدورها ستعمل بالتعاون مع شركائها الدوليين، والمنظمات الدولية والإقليمية المستقلة، على تسريع عملية التحول في النظام الدولي، بما يتيح فرص التعاون والتقدم الاقتصادي للجميع بصورة عادلة.
4. إعادة تأكيد العداء بين الغرب وروسيا في إطار الواقع الجيوسياسي الجديد: أشارت وثيقة السياسة الخارجية الروسية إلى الولايات المتحدة باعتبارها التهديد الأكبر الذي يواجه البلاد، والمحرض الرئيسي والمنظم والمنفذ للسياسة العدوانية المعادية لروسيا من قبل التحالف الغربي، كما سلطت الوثيقة الضوء على تدهور علاقات موسكو مع الغرب، مؤكدةً كونه واقعاً جيوسياسياً طويل الأمد، واستخدمت مصطلح “الدول غير الصديقة” لوصف الفاعلين الدوليين الذين بادروا إلى إدانة العملية العسكرية الروسية التي قادتها موسكو في أوكرانيا، وفرضت عقوبات انتقامية على الجانب الروسي.
5. تسليط الضوء على شبكة التحالفات الروسية الجديدة: سعت روسيا بشكل كبير إلى تعزيز علاقاتها الخارجية مع عدد من الدول المتوسطة والصغرى؛ وذلك عقب تعرضها لمحاولات عزلها سياسياً على الساحة الدولية، على خلفية حربها في أوكرانيا. وقد عكست الوثيقة هذا النهج الروسي؛ حيث عكفت على ترتيب وتسمية الدول والمناطق التي تحظى باهتمام موسكو. وقد احتلت كل من الصين والهند مراتب متقدمة في الاستراتيجية؛ حيث تم التعرض لهما عقب الحديث عند دول الجوار المباشر، والقارة القطبية الشمالية. ومن الجدير بالملاحظة وضع الاستراتيجية كلاً من منطقة آسيا والمحيط الهادئ ودول العالم الإسلامي والقارة الأفريقية ودول أمريكا اللاتينية في مراتب متقدمة بالمقارنة بكل من دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرها من دول الأنجلو–سكسونية.
6. التعرض بصورة موسعة لطبيعة العلاقات الروسية مع الصين والهند: أفردت الوثيقة جزءاً خاصاً في ثناياها للحديث عن علاقة روسيا القوية بالصين والهند باعتبارهما شريكين استراتيجيين، يمثلان مركز القوة والتنمية العالمية في الوقت الحالي، وهو ما ينعكس على تحركات روسية على أرض الواقع تتمثل في تعزيز موسكو إمداداتها من الطاقة لكل من الصين والهند، بعد انقطاعها بصورة شبه كاملة عن أسواقها الأوروبية التقليدية، بفعل العقوبات الموقعة عليها. وتمثل الصين مركز ارتكاز هاماً في السياسة الخارجية الروسية الحالية، في ظل الحديث عن تشكُّل محور ومعسكر دولي جديد تتزعمه كل من روسيا والصين. في الوقت نفسه، عززت الهند وروسيا روابطهما الثنائية؛ وذلك على الرغم من التدخل الروسي في أوكرانيا؛ حيث ارتفعت واردات الهند من النفط الخام الروسي كثيراً في الأشهر القليلة الماضية، ورفضت الهند الانضمام إلى منظومة العقوبات الغربية ضد روسيا.
قراءة نقدية
استخدمت الاستراتيجية عدداً من الألفاظ والتوصيفات المثيرة للاهتمام، كما أنها سلطت الضوء على عدد من الرسائل التي تسعى روسيا إلى تأكيدها داخلياً وخارجياً. وتمثلت أبرز هذه النقاط فيما يلي:
1. إضافة لمسة أيديولوجية إلى الصراع القائم في النظام الدولي الحالي: يرفض الكثير من المحللين الإقرار بلعب الأيديولوجية دوراً هاماً في السياسة العالمية المعاصرة. وعلى الرغم من ذلك، فإن استراتيجية السياسة الخارجية الروسية تضمنت عدداً من النقاط التي تشير إلى وجود اختلاف في المصالح بين روسيا ودول المعسكر الغربي، بفعل التنافس حول الهيمنة على النظام الدولي. ويمكن استشعار الخلاف الأيديولوجي في أكثر من موضع داخل الاستراتيجية؛ فقد تحدثت الوثيقة عن التغير القائم في النظام الدولي، الذي يرتبط بصورة أساسية بالحتمية التاريخية، كما تم انتقاد نسق الاقتصاد العالمي الحالي القائم على أسس الليبرالية الجديدة والعلمانية، وجميعها مصطلحات تعيد الأذهان إلى المنافسة الأيديولوجية التي وصلت إلى قمتها بين الليبرالية/الرأسمالية الغربية وبين الماركسية خلال فترة الحرب الباردة.
2. رفض استخدام التقسيمات الأمريكية للعالم: استخدمت الاستراتيجية الروسية عدداً من المصطلحات والتوصيفات الخاصة لمناطق وأقاليم العالم، وهي المصطلحات والتوصيفات التي تختلف كثيراً عن التقسيمات والتوصيفات الأمريكية لهذه الأقاليم والمناطق؛ فعلى سبيل المثال، عند الحديث عن منطقة ما وراء المحيطَين الهادئ والهندي، التي يطلق عليها الهندوباسيفيك وفقاً للتوصيف الأمريكي والغربي، رفضت موسكو الانصياع للتقسيم والنظرة الأمريكية لهذه المنطقة، وفضَّلت الإشارة إليها بالقول: "منطقة آسيا والمحيط الهادئ".
كما تم تجنب الحديث عن الشرق الأوسط مع تفضيل استخدام مصطلح “العالم الإسلامي”، بما يعكس رغبة روسية حقيقية في التقرب من الدول التي ترفض التقسيم الأمريكي للمناطق، ناهيك عن تعظيم الدور الذي تلعبه المنظمات الدولية التي تلعب دوراً فاعلاً في عدد من المجالات بهذه المناطق بعيداً عن الأمم المتحدة، على غرار “منظمة التعاون الإسلامي”، و"رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)".
من المثير للاهتمام أيضاً إشارة الوثيقة إلى دول أمريكا الجنوبية باستخدام مصطلح “دول أمريكا اللاتينية والكاريبي”، في إشارة واضحة إلى جميع الدول التي تقع في أمريكا الوسطى – وفي مقدمتها المكسيك – والتي تقع في الفناء الخلفي المباشر للولايات المتحدة، والتي تتجنب الصين الإشارة إليها بصورة علانية عند الحديث عن خططها للتعاون والتوسع الاستثماري تحت إطار “مبادرة الحزام والطريق”، بما يعزز الشكوك الأمريكية تجاه هذه التحركات.
3. تأكيد موقع روسيا في النظام العالمي: أكدت هذه الاستراتيجية، في أكثر من موضع، عظمة وقوة التأثير والدور الذي تقوم به روسيا في النظام الدولي والإقليمي؛ وذلك بالرغم من العقوبات الموقعة عليها من قبل المعسكر الغربي. وتكمن قوة روسيا العالمية – وفقاً للاستراتيجية – في عملها على تحقيق التكامل والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والعمل أيضاً على تشكيل شراكة أوروبية آسيوية كبيرة، عن طريق إطلاق برامج للشراكة الاقتصادية الموسعة مع حلفائها الاستراتيجيين، ومنهم جمهورية الصين الشعبية، وجمهورية الهند، ودول منطقة آسيا والمحيط الهادئ والعالم العربي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
وأشارت الوثيقة أيضاً إلى أن الموقع الجغرافي لروسيا على الخريطة العالمية لا يمكن الاستهانة به، ناهيك عن تضمنها العديد من الموارد الطبيعية الهامة، ويأتي على رأسها الغاز؛ هذا بالإضافة إلى كونها عضواً دائماً في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وعضويتها الفعالة في عدد من المنظمات والجمعيات الحكومية الدولية الرائدة، بجانب كونها من أكبر القوى النووية في العالم.
4. رفض تحقيق السلام الدولي على حساب مصالح الأمة الروسية: استخدمت الاستراتيجية مصطلح “الدول غير الصديقة” – بالإشارة إلى الولايات المتحدة والدول المشاركة في منظومة العقوبات الغربية المفروضة ضد روسيا – بجانب الحديث عن إدراكها مسؤوليتها المرتبطة بحفاظ السلم والأمن الدوليين، ورفض موسكو التام للتسليم بالرواية الغربية التي تنظر إلى روسيا باعتبارها مهدداً أساسياً للاستقرار العالمي.
كما تؤكد الاستراتيجية أن روسيا لن تبادر إلى تغيير سياستها تجاه دول المعسكر الغربي، ما لم يبادروا هم بالاعتراف بحق روسيا في الدفاع عن وحدتها وهويتها، وتؤكد في الوقت نفسه أنها لن تتخلى عن مصالحها ومحاولتها خلق السلام في القارة الأوروبية؛ فقد جاء في الوثيقة أن معظم الدول الأوروبية تتبع سياسة عدوانية تجاه روسيا تخلق تهديداً حقيقياً لأمن وسيادة الاتحاد الروسي؛ هذا بجانب اكتسابهم مزايا اقتصادية أحادية الجانب، وتقويض الاستقرار السياسي المحلي، وتقويض القيم الروحية والأخلاقية الروسية التقليدية، وخلق عقبات أمام تعاون روسيا مع الحلفاء والشركاء الدوليين.
5. التلويح بإمكانية اللجوء إلى السلاح النووي: أشارت الوثيقة إلى أنه يجب على الدول الأوروبية إدراك أنه لا بديل للتعايش السلمي والتعاون المتبادل مع روسيا، كما دعت إلى الحفاظ على الاستقرار الاستراتيجي مع الولايات المتحدة، في إشارة إلى القدرات النووية التي تمتلكها كل من موسكو وواشنطن، وحاجة البلدين إلى التعاون في مضمار السيطرة على أسلحة الدمار الشامل؛ وذلك على الرغم من تعليق العمل بمعاهدة “الحد من الأسلحة الهجومية الاستراتيجية (ستارت 3)”. وأخيراً، تقول روسيا في وثيقتها الجديدة إن اللجوء إلى الأسلحة النووية له ما يبرره في حالة وجود “تهديد وجودي” للبلاد. ويشير خبراء غربيون إلى أن الصياغة الحالية التي تم استخدامها في الوثيقة بشأن هذه القضية، تأتي بهدف تقويض دعم الرأي العام الغربي لاستمرار تقديم المساعدات العسكرية إلى أوكرانيا.
محدودية التفاعل
لم يكن لاستراتيجية السياسة الخارجية الروسية الجديدة وقع كبير في المنابر الإعلامية الرسمية الغربية؛ حيث لم يتم التعقيب عليها بصورة موسعة، بل بادرت بعض الدول إلى السخرية من هذه الوثيقة؛ وذلك على غرار بريطانيا التي اعتبرتها بمنزلة “أكذوبة أبريل” التي تقدمها روسيا للعالم. في الوقت نفسه، صرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية “ماو نينج” في إفادة صحفية للتعليق على وثيقة السياسة الخارجية الجديدة لروسيا، بأن الصين وروسيا والهند جميعها دول صاعدة كبرى، لها تأثير ملحوظ على الساحة الدولية، وقالت إنه “في الوقت الذي تواجه فيه الساحة الدولية والإقليمية تغييرات عميقة ومعقدة، فإننا على استعداد لتعزيز التواصل مع المجتمع الدولي، بما في ذلك روسيا والهند؛ لإرسال إشارة إيجابية إلى العالم بشأن الدفاع عن التعددية الحقيقية، والاستجابة المشتركة للتحديات العالمية”، كما أضافت أن الصين وروسيا ملتزمتان بتنمية نوع جديد من العلاقات بين الدول الكبرى، يتسم بالاحترام المتبادل والتعايش السلمي والتعاون المربح للجانبين، وأن العلاقات الثنائية لا تستهدف ولا تتأثر بأي طرف ثالث، في إشارة واضحة إلى الولايات المتحدة والدول الأوروبية.