جاء إعلان وزارة الخارجية الكازاخية، في بيان لها يوم 17 أبريل الجاري، عن اعتمادها عدداً من الدبلوماسيين من طالبان أفغانستان عقب استضافة مدينة سمرقند الأوزبكية يوم 13 أبريل 2023 اجتماعاً لوزراء خارجية دول جوار أفغانستان لبحث التهديدات الأمنية الناجمة عن انتشار التنظيمات الإرهابية بآسيا الوسطى؛ وهذا بعد استلام حركة “طالبان” القنصلية الأفغانية في مدينة “خوروج” بطاجيكستان بنهاية مارس 2023؛ ما يُعَد نقلة نوعية في العلاقات بين كابول ودوشنبه، تُنهي التوتر بينهما، وتعزز الوجود الدبلوماسي للحركة في المنطقة رغم رفض دول آسيا الوسطى الاعتراف رسمياً بشرعية حكم “طالبان”؛ ما يطرح تساؤلاً حول مستقبل العلاقات بين الأطراف في ظل التطورات الجيوسياسية الإقليمية الآنية.
تقارب حذر
تخوفت دول آسيا الوسطى، عقب الانسحاب العسكري الأمريكي الفوضوي من أفغانستان في أغسطس 2021، من تداعيات تدهور الوضع الأمني بالأخيرة، وتحوُّلها إلى بؤرة للتنظيمات الإرهابية تهدد أمن واستقرار دول الجوار، وهي (طاجيكستان التي تبلغ حدودها المشتركة مع أفغانستان 1200 كم، وتركمانستان التي تبلغ حدودها المشتركة مع أفغانستان 775 كم، وأوزبكستان التي تبلغ حدودها المشتركة مع أفغانستان 137 كم)، وكذلك (كازاخستان وقيرغيزستان) رغم عدم اتصالهما جغرافياً بأفغانستان، ثم بدأ التواصل السياسي بين هذه الأطراف من خلال حضور اجتماعات دول الجوار الأفغاني؛ لبحث الوضع الإقليمي، التي عُقد أول اجتماع لها في موسكو، وبدعوة روسية في نهاية 2021؛ ما أدى إلى تقارب تدريجي بين دول آسيا الوسطى وبين الحركة. وفي هذا الصدد، يمكن تناول أبعاد التقارب بين دول آسيا الوسطى وحركة طالبان من خلال ما يلي:
1– تباين موقف دول آسيا الوسطى من “طالبان”: رفضت دول آسيا الوسطى الخمس الاعتراف بشرعية حكم الحركة “طالبان” لأفغانستان، ورغم ذلك قدمت لها مساعدات إنسانية، وساهمت في إجلاء العالقين بكابول عبر الطرق البرية والجوية، ثم لجأت إلى فتح قنوات للتواصل مع الحركة دون الاعتراف رسمياً بها، واستقبلت وفوداً رسمية منها، وأيدت فرض عقوبات عليها اعتراضاً على سياساتها الإقصائية والاجتماعية. ومع ذلك، تباين موقف كل دولة من الحركة وفق مصالحها وأمنها القومي؛ حيث وصف رئيس كازاخستان “قاسم توكاييف” سيطرة حركة “طالبان” على أفغانستان بأنه “الخطر غير المباشر على بلاده”، ولم يتخذ خطوات كثيرة للتقارب مع الحركة؛ نظراً إلى انشغال أستانة بالتطورات السياسية الداخلية خلال العام الماضي وعدم الاتصال الجغرافي بينهما.
وكانت أولى الدول التي تعاملت مع الحركة وقدَّمت لها مساعدات هي أوزبكستان؛ حيث تخوفت من تمدد التنظيمات الإرهابية المتشددة وإعادة إحياء “الجماعة الإسلامية الأوزبكية” التي كانت مرتبطة بتنظيم القاعدة، وكذلك تلقَّت طشقند “ضمانات” من الحركة بعدم زعزعة استقرار آسيا الوسطى، كما رحَّبت تركمانستان بالتعاون مع الحركة، وسعت إلى الحفاظ على تأمين المعابر الحدودية المشتركة مع أفغانستان، بينما رفضت طاجيكستان التعامل مع “طالبان”، وكان موقفها الأكثر تشدداً، وانتقدتها بحدة، وساد التوتر العلاقات بين كابول ودوشنبه عامي 2021 و2022. ورغم هذا حرصت (طاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان) على حضور اجتماعات دول الجوار الأفغاني باستمرار.
2– اتساع الحضور الدبلوماسي “لطالبان” بآسيا الوسطى: شهد عام 2023 تعزيزاً للحضور الدبلوماسي لحركة “طالبان” في دول آسيا الوسطى عبر استلام مقرات البعثات الدبلوماسية والقنصلية فيها؛ ما يعد اعترافاً ضمنياً بالحركة سلطةً حاكمةً بأفغانستان، وربما يكون هذا تمهيداً لصدور اعتراف رسمي مستقبلاً. وما يحول دون ذلك هو خشية دول آسيا الوسطى من فرض عقوبات أمريكية أو دولية عليها إذا اعترفت بشرعية حكم “طالبان”، كما يتم استخدام هذا الاعتراف “ورقة ضغط” على الحركة للاستجابة للدعوات المتكررة بتشكيل حكومة شاملة، ورفع القيود الاجتماعية. وكانت تركمانستان أول دولة تُسلِّم سفارة أفغانية “لطالبان” بالمنطقة، وتقبل السفير الذي عينته الحركة وتسلمه مقر السفارة رسمياً في مارس 2022، ثم في يوليو 2022 زار وفد من الحركة أوزبكستان، واستلم مقر السفارة، وعقد وزير خارجية طالبان “أمير خان متقي” اجتماعاً مع الدبلوماسيين الأفغان بها، وطلب منهم مواصلة عملهم، كما استلمت الحركة القنصلية الأفغانية في مدينة “ترميز” الأوزبكية الحدودية الهامة.
ثم تسلم رئيس مكتب الشؤون المالية بوزارة الخارجية الأفغانية “محمد موسى أميري” في 23 مارس 2023 مقر القنصلية الأفغانية بمدينة “خوروج” الحدودية بطاجيكستان. ويُعَد هذا نقلة نوعية في العلاقات بين طاجيكستان والحركة؛ لأن الأولى كانت مترددة وحذرة في تعاملها مع “طالبان” رسمياً منذ سيطرتها على السلطة بأفغانستان بل سادت خلال عام 2022 مخاوف من حدوث مواجهات عسكرية بينهما عقب الاشتباكات الحدودية، إثر اتهامات الحركة لطاجيكستان بدعم “جبهة المقاومة الوطنية” بقيادة الزعيم الطاجيكي “أحمد مسعود شاه” (الذي يسيطر على إقليم “بانجشير” بشمال أفغانستان)، وبتقديم مأوى له في طاجيكستان، كما انتقد الرئيس الطاجيكي “إمام علي رحمن” مراراً الحركة وإقصاءها الأقليات الأفغانية، وعلى رأسها “الطاجيك”، ودعا الحركة إلى تشكيل حكومة شاملة لكافة مكونات المجتمع الأفغاني.
وفي سياق ذي صلة، أعلنت وزارة الخارجية الكازاخستانية، في بيان لها يوم 17 أبريل الجاري، عن اعتمادها عدداً من الدبلوماسيين من طالبان أفغانستان؛ وذلك بعد طلب ممثل عن الحكومة الأفغانية المؤقتة اعتماد دبلوماسيين. وأشار “أيبيك سمادياروف” الممثل الرسمي لوزارة خارجية كازاخستان، إلى أنه مع سقوط النظام السابق في أفغانستان، نشأ فراغ في السلطة، وتوقفت السفارات الأفغانية في الخارج عن تمثيل البلاد، وأوضح أن كازاخستان تؤيد “أفغانستان موحدة مزدهرة”، وأضاف أن البلاد "تمر بمرحلة صعبة أخرى في تاريخها. ووصول ممثلي الإدارة الجديدة لأفغانستان لا يعني الاعتراف الذي يظل من صلاحيات الأمم المتحدة، والبعثات نفسها موجودة في عدد من الدول".
3– دوافع متنوعة للتقارب مع “طالبان”: كان هناك عدد من الدوافع حثت دول آسيا الوسطى على تغيير موقفها من الحركة؛ قد يكون من أبرزها التعامل الدبلوماسي والسياسي الأمريكي والروسي والصيني مع الحركة، الذي شجع تلك الدول على اتخاذ خطوات مماثلة، كما أن الحركة يمكن استغلالها في محاربة التنظيمات الإرهابية الأخرى التي تمركزت بأفغانستان وأصبحت تهدد أمن واستقرار دول الجوار، ومنها تنظيم “القاعدة” و”داعش– خراسان”، هذا فضلاً عن ضرورة التنسيق الأمني مع الحركة باعتبارها السلطة الحاكمة بأفغانستان حول عدد من الملفات؛ منها منع تدفق اللاجئين إلى دول الجوار، والتعاون لمحاربة الاتجار بالبشر والجريمة المنظمة وتهريب المخدرات، وهي جرائم تنشط بشدة في آسيا الوسطى.
كما أن الحفاظ على أمن واستقرار الحدود الأفغانية المشتركة مع دول الجوار، سيسمح للأخيرة بتنفيذ مشاريع اقتصادية عبر الحدود، لا سيما في ظل مشروعات الربط الإقليمي للطرق والممرات الجيوسياسية التي سيتم من خلالها نقل الغاز والنفط من آسيا الوسطى إلى الخارج، ومنها مشروع خط غاز “TAPI” الذي ينقل الغاز التركماني إلى الهند عبر أفغانستان وباكستان بطول 1600 كم، ومشروع الربط الكهربائي بين (تركمانستان، باكستان) مروراً بأفغانستان، فضلاً عن مشاريع نقل الغاز والنفط عبر تركيا وأذربيجان، والمشروعات الخاصة بمبادرة “الحزام والطريق” الصينية التي ستمر معظمها عبر أفغانستان، كما تهدف بعض دول آسيا الوسطى إلى المساهمة في عمليات إعادة الإعمار بأفغانستان، عبر تصدير العمالة والبضائع إليها. وهناك مشاريع لعدة خطوط سكك حديدية دولية تصل بين أفغانستان وتركمانستان وأوزبكستان.
4– إرسال “طالبان” رسائل إيجابية إلى دول آسيا الوسطى: اتخذت حركة “طالبان” عدداً من الخطوات للتقارب مع دول آسيا الوسطى؛ حيث سعت إلى الظهور كصديق لهم من خلال الحفاظ على الأمن القومي لتلك الدول؛ ففي يوليو 2022 أعلنت الحركة عن اعتقال خلية تابعة لتنظيم “داعش” الإرهابي كانت مسؤولة عن إطلاق صواريخ على الحدود الأفغانية المشتركة مع أوزبكستان وطاجيكستان، ولم تسفر عن سقوط ضحايا، كما نفت الحركة الاضطلاع بأي دور في الاضطرابات التي شهدتها مدينة آلماتا الكازاخية في يناير 2022؛ وذلك بعد اتهام مسؤولين روس لها بذلك، وجددت الحركة رفضها التدخل في شؤون دول الجوار، ونفت وجود أي دليل على تلك الاتهامات. وسعت الحركة، خلال فترة حكمها، إلى الحفاظ بعلاقاتها الجيدة مع أوزبكستان وتركمانستان.
تحديات مقبلة
رغم التقارب الواضح في العلاقات بين حركة “طالبان” ودول آسيا الوسطى فإن هناك تحديات تواجه تعزيز التعاون بين الطرفين مستقبلاً قد يكون من أبرزها استمرار عدم الاعتراف الدولي بشرعية حكم الحركة في أفغانستان؛ ما يُعَد عائقاً للارتقاء بالعلاقات بينهما إلى مستوى استراتيجي؛ هذا فضلاً عن عدد من التحديات الأخرى المتمثلة فيما يلي:
1– انتشار الجماعات الإرهابية بأفغانستان: أكدت واشنطن مؤخراً انتشار تنظيمات إرهابية بأفغانستان؛ أبرزها تنظيم القاعدة الذي يوجد في 15 مقاطعة تقريباً من مقاطعات أفغانستان الـ34، و”داعش خراسان” الذي يُقدَّر وجود 4000 عنصر مسلح تابع له شمال شرق أفغانستان على حدود طاجيكستان، وهو ما دفع الأخيرة إلى إعلان حالة التأهب على حدودها. وأكد وزير الداخلية الطاجيكي “رمضان رحيم زاده” “أن جيش بلاده مستعد لمواجهة تنظيم داعش”.
وفي أكتوبر 2022 خلال اجتماع “التعاون الدولي والإقليمي والأمن وإدارة الحدود لمكافحة الإرهاب بآسيا الوسطى”، طالب الرئيس الطاجيكي “إمام علي رحمن” بإنشاء “حزام أمني لمنع أخطار دخول الإرهاب في أفغانستان إلى المنطقة”، بعد تمركز الإرهابيين بحدود بلاده الجنوبية، وكشف عن وجود أكثر من 40 قاعدة ومركزاً لتدريب الإرهابيين في شمال شرق أفغانستان، كما ضاعفت كلٌّ من تركمانستان وأوزبكستان تأمين حدودها، وعدد الجنود المتمركزة بها لمواجهة أي اعتداءات إرهابية من أفغانستان.
بينما نفت “طالبان” وجود “داعش خراسان”، وشنَّت عدداً من الهجمات على معاقله، بيد أن ذلك أدى إلى مزيد من انتشار التنظيم الإرهابي، وتوسُّع سيطرته على قرى ومدن جديدة؛ ما يهدد دول آسيا الوسطى، ويُنذِر بحدوث مواجهات أمنية وعسكرية انطلاقاً من تلك الدول لمواجهة خطر التنظيم، لا سيما من طاجيكستان وأوزبكستان اللتين عانتا من مخاطر التنظيمات الإرهابية سابقاً، فضلاً عن اتهام “طالبان”
بالتواطؤ مع تنظيم “القاعدة”، وإذا شكَّل وجود تلك التنظيمات تهديداً لأمن دول آسيا الوسطى، فربَّما تتعاون الأخيرة مع روسيا لتوجيه ضربات استباقية لمعاقلها بشمال أفغانستان؛ ما سيُؤثر سلباً على علاقاتها بدول آسيا الوسطى.
2– احتمالية تهديد السلم المجتمعي بآسيا الوسطى: انتقدت دول آسيا الوسطى سياسات “طالبان” الاجتماعية، بعدما منعت تعليم وعمل السيدات والفتيات، ومنعت مختلف أنواع الفنون والموسيقى منذ سيطرتها على الحكم بأفغانستان؛ حيث تخشى تلك الدول من نشر تلك الأفكار المتشددة، أو ما عُرِف “بتصدير الثورة المحافظة”، وهو ما يُهدِّد السلم المجتمعي بها، وهذا دفع طاجيكستان إلى إصدار قرار مؤخراً بمنع السيدات من ارتداء “اللون الأسود أو النقاب” والالتزام “بالزي الوطني الطاجيكي”، هذا فضلاً عن مخاوف من انتشار جرائم الاتجار بالبشر، وتهريب المخدرات؛ حيث تعد أفغانستان الدولة الأولى في زراعة الأفيون بالعالم، كما انتشرت حالات الهجرة غير الشرعية، لا سيما مع تفاقم الأزمة الإنسانية؛ حيث يعاني تقريباً نصف عدد السكان الأفغان من الجوع؛ ما يُمثِّل تهديداً للأمن والسلم المجتمعي بآسيا الوسطى.
3– انعكاسات التنافس الإقليمي والدولي: أعلنت موسكو بختام اجتماع سمرقند لدول الجوار الأفغاني – الذي حضرته روسيا وإيران والصين وباكستان (آسيا الوسطى) ووفد “طالبان” – رفضها محاولات واشنطن وحلف شمال الأطلسي الساعية إلى نشر بنية تحتية عسكرية على أراضي دول الجوار الأفغاني، والمقصود بها دول آسيا الوسطى؛ ما يؤكد حدة التنافس بين موسكو وواشنطن على بسط النفوذ في أفغانستان وبمنطقة آسيا الوسطى مستقبلاً، فضلاً عن التنافس الإقليمي لتحقيق المصالح الجيوستراتيجية بين عدة دول منها تركيا وباكستان والهند والصين؛ الأمر الذي سيضاعف حدة الاستقطاب بين مختلف الدول بالمنطقة، وربما يمثل عائقاً لتعزيز التعاون الإقليمي فيما بينها.
خلاصة القول أن حضور حركة “طالبان” اجتماع دول الجوار الأفغاني دورياً، يُكرِّس دورها كسلطة حاكمة في أفغانستان وممثلة لشعبها أمام المجتمع الدولي، رغم عدم الاعتراف رسمياً بذلك، وهذا سيفرض على دول آسيا الوسطى تعزيز التعاون معها لتحقيق مصالحها والحفاظ على أمنها القومي. ولن تتراجع وتيرة تلك العلاقات إلا عند ارتكاب “طالبان” ما يُهدِّد أمن واستقرار المنطقة.