تتجه أنظار المستثمرين والدول الكبرى بشكل رئيس نحو إنتاج الليثيوم الذي يُلقَّب بالذهب الأبيض، ويُعَد من أكثر المعادن طلباً؛ حيث يقلل تكاليف الطاقة، ويساعد في بناء طاقة نظيفة وأكثر استدامةً، ويدخل في كثير من الصناعات المدنية والعسكرية، سواء في صورة كربونات أو هيدروكسيد الليثيوم. ويدخل ثلاثة أرباع الليثيوم المستخرج في العالم في صناعة بطاريات الليثيوم–أيون القابلة للشحن، التي تعد مُكوِّناً أساسياً في صناعة المَرْكبات والسيارات الكهربائية والهجينة، والهواتف والأجهزة اللوحية الذكية، والكاميرات الرقمية، وخوادم الإنترنت.
كما يدخل الليثيوم في صناعة السيراميك والزجاج والبوليمرات وتقنيات معالجة تلوث الهواء، وهو أيضاً ضروري في صناعة كثير من التقنيات الجديدة التي تسعى إلى خفض وإزالة الانبعاثات، ومواجهة تغير المناخ؛ ما أسهم في ارتفاع الطلب العالمي على الليثيوم، وهو ارتفاع تقابله محدودية وتركُّز أماكن الإنتاج. وتتركز إمدادات الليثيوم جغرافياً في يد قلة من الدول على رأسها الصين؛ ما يزيد هيمنتها التجارية وقوة موقفها أمام الدول الغربية، وهو ما يسهم بدوره في احتدام التنافس بين الدول الكبرى للسيطرة على موارد الليثيوم في الدول الغنية بالخام.
تزايد الطلب
شهد الطلب العالمي على الليثيوم تنامياً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة، وهو الأمر الذي ارتبط بعدد من المؤشرات المتمثلة فيما يلي:
1– نمو سوق الليثيوم عالمياً: بلغت قيمة سوق الليثيوم عالمياً نحو 4.650 مليار دولار أمريكي في عام 2021، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل نمو سنوي مُركَّب قدره 13.5% خلال الفترة 2023–2028؛ حيث من المرجح أن تنمو سوق بطاريات الليثيوم أيون كثيراً خلال تلك الفترة نتيجة ارتفاع الطلب على السيارات الكهربائية. وارتفع إنتاج الليثيوم بنسبة 21% في عام 2021 مقارنة بعام 2020؛ إذ بلغ نحو 100 ألف طن، مقارنة بنحو 82 ألف طن خلال عام 2020.
يستمر الطلب على الليثيوم في النمو عالمياً مع الكشف عن تطورات البنية التحتية الجديدة في عملية توريد الليثيوم؛ ما أسهم في ارتفاع أسعاره عام 2022 بنحو 87% على أساس سنوي. وتعود هذه القفزة السعرية لليثيوم إلى استمرار نمو الطلب العالمي على بطاريات المركبات الكهربائية والأجهزة الإلكترونية عموماً، وهو الأمر المتوقع أن ينسحب على 2023 قبل أن تتراجع الأسعار في 2024.
فيما تشير توقعات ماكنزي للسنوات العشر القادمة إلى مواصلة النمو في قطاع بطاريات أيون الليثيوم وفق معدل نمو سنوي مُركَّب يبلغ 30% تقريباً؛ ما يزيد الطلب على أيون الليثيوم؛ حيث تشير التوقعات إلى ارتفاع الطلب على الليثيوم من 500 ألف طن متري تقريباً من مكافئ كربونات الليثيوم في عام 2021 ليبلغ من 3 إلى 4 ملايين طن متري في عام 2030. وقد أدى ارتفاع الطلب العالمي على الليثيوم مقابل محدودية المعروض منه إلى احتدام التنافس بين القوى الاقتصادية الكبرى على زيادة استثماراتها في الدول المنتِجة للخام؛ لفرض هيمنتها على إمدادات الليثيوم، وتأمين احتياجاتها منه.
2– أستراليا تتصدر قائمة الدول المنتِجة لليثيوم: تأتي أستراليا بصفتها أكبر الدول المنتِجة لخامات الليثيوم في العالم خلال عام 2021، بحجم إنتاج بلغ نحو 55 ألف طن، تليها دولة تشيلي بنحو 26 ألف طن، ثم الصين بنحو 14 ألف طن، والأرجنتين 6.2 ألف طن، والبرازيل وزيمبابوي بنحو 1.5 و1.2 ألف طن على التوالي، فيما تتضمَّن أكبر خمس شركات في إنتاج الليثيوم في العالم، شركة ألبيمارل الأمريكية، وشركة يانج تشي جانفينج الصينية، وشركة ليثيوم تيانكي الصينية، وشركة سوسيداد كيميا منرال الشيلية، وشركة بيلبارا منرالز الأسترالية.
3– تصدُّر دول مثلث الليثيوم قائمة أكبر الاحتياطات العالمية: يُقدَّر الاحتياط العالمي الحالي والمؤكَّد لمعدن الليثيوم الصافي بـ21 مليون طن، وتحتل تشيلي المركز الأول من حيث الاحتياطات العالمية المؤكدة من الليثيوم بنحو 9.2 مليون طن، وتأتي أستراليا ثانياً بنحو 5.7 مليون طن، والأرجنتين ثالثاً بنحو 2.2 مليون طن، والصين بنحو 1.5 مليون طن، والولايات المتحدة الأمريكية نحو 950 ألف طن، كما يقدر الاحتياطي العالمي المُحتمَل بنحو 86 مليون طن، ويوجد نحو 56% منه في مثلث الليثيوم (بوليفيا – الأرجنتين – تشيلي)؛ حيث تأتي بوليفيا أكبر دول العالم من حيث امتلاكها احتياطيات الليثيوم بما يتجاوز 21 مليون طن متري، تليها الأرجنتين بـ19 مليون طن، تليهما تشيلي بـ9.8 مليون طن.
بينما تأتي الولايات المتحدة في المركز الرابع بـ9.1 مليون طن، تليها أستراليا في المركز الخامس بـ7.3 مليون طن، ثم الهند التي أعلنت احتياطيات ضخمة تصل إلى 5.9 مليون طن في فبراير 2023، وتستحوذ الصين على 5.1 مليون طن؛ إذ تأتي في المركز السابع عالمياً، تليها الكونغو بـ3 ملايين طن، بينما تأتي كندا في المركز التاسع بـ2.9 مليون طن؛ وذلك وفقاً لبيانات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية.
ويُرجَّح أن تسهم المشاريع المرتقبة المعلنة في إضافة لاعبين ومناطق جديدة إلى قطاع تعدين الليثيوم، بما في ذلك أوروبا الغربية والشرقية وروسيا وعدد من أعضاء رابطة الدول المستقلة. ويتعيَّن أن تكون هذه السعة الأساسية كافيةً لنمو العرض بمعدل 20% سنوياً، وصولاً إلى 2.7 مليون طن متري من مكافئ كربونات الليثيوم بحلول عام 2030.
4– هيمنة الصين على صناعة البطاريات عالمياً: يُعَد الليثيوم معدناً أساسياً في إنتاج البطاريات للمركبات الكهربائية، وتمتلك الصين نحو 77% من الطاقة الإنتاجية العالمية لبطاريات الليثيوم أيون، تليها بولندا والولايات المتحدة بنسبة 6%، فيما تشكِّل أوروبا، بما في ذلك الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، نحو 14% من إجمالي الحصص، بما يشير إلى هيمنة الصين على صناعة البطاريات عالمياً، وهي في الوقت ذاته أكبر سوق للمركبات الكهربائية، كما تمتلك نحو 6 من أصل أكبر 10 شركات لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية في العالم، كما تهيمن على سلسلة توريد الصناعة بأكملها؛ بدءاً من استخراج المعادن الحرجة المستخدَمة في صناعة البطاريات، وصولاً إلى إنتاج المركبات الكهربائية. ويتطلع ثاني أكبر اقتصاد إلى السيطرة على أكثر من 30% من إمدادات الليثيوم العالمية بحلول عام 2025، خاصةً أن اثنتين من أكبر شركات السيارات الكهربائية تقيمان حالياً في الصين: لي أوتو، ولوسيد موتورز.
5– امتلاك الدول الأفريقية موارد ضخمة: تتمتع العديد من الدول في القارة الأفريقية بتوافر الليثيوم، من بينها زيمبابوي وناميبيا والكونغو ومالي. وتُعَد القارة بالفعل منتِجاً رئيسياً له، وقد شهدت العديد من التطورات في إنتاج الليثيوم؛ حيث تم العثور خلال عام 2022، على رواسب الليثيوم في العديد من البلدان، بما في ذلك غانا وزيمبابوي ومالي وجمهورية الكونغو الديمقراطية؛ ما أسهم في جذب الاستثمارات الصينية لاستخراج الليثيوم في جمهورية الكونغو الديمقراطية وزيمبابوي – وقد حظرت الأخيرة صادرات الليثيوم الخام مؤخراً لتعزيز المعالجة المحلية – وفي غانا من المتوقع أن يبدأ تشغيل مشروع الليثيوم إيويا الذي طوَّرته شركة أتلانتيك ليثيوم – ومقرها أستراليا – بحلول نهاية عام 2024.
6– سيطرة آسيوية على سلاسل التوريد المعدنية: مع قبضة قوية على سلاسل التوريد المعدنية للبطاريات العالمية، تعد الصين رائدة بلا منازع في قطاع الليثيوم، من خلال الاستثمار والمشاركة في أسواق الليثيوم العالمية، بينما تحاول الهند بناء سلاسل التوريد الخاصة بها للتحايل على الصين، لكنها تفتقر حالياً إلى الموارد اللازمة للتنافس في الوقت الحالي، فيما تُعَد أستراليا أحد المنتِجين الرئيسيين لليثيوم في العالم؛ فعلى الرغم من توزيع موارد خام الليثيوم على نطاق واسع في العالم، تتركز مناجم الليثيوم التي تم تطويرها حتى الآن بشكل أساسي في أستراليا، التي تعد أهم مورد للمواد الخام للإسبودومين في العالم؛ حيث تمثل نحو 85% من إنتاج الليثيوم الخام العالمي، فيما يمثل إجمالي المعروض من موارد الليثيوم في أستراليا نحو 60% من الإجمالي العالمي.
7– حجم احتياطي ليثيوم ضئيل في أوروبا: تمتلك أوروبا القليل من الاحتياط العالمي من الليثيوم في بعض دولها بتركيزات ضعيفة بمعدل 0.05%، كألمانيا وتشيكيا وصربيا، ولا توجد على خريطة الإنتاج العالمي حالياً، لكنها تسعى جاهدة للِّحاق بركب الدول المنتجة بالتنقيب عن الليثيوم في أراضيها، أو الاستثمار في البلدان التي تمتلكه. وتعد البرتغال أكبر منتِج لليثيوم في أوروبا. وفي عام 2019، انتهت حكومة البرتغال من إجراء مناقصة ترخيص دولية لإنتاج الليثيوم.
كما يتم تطوير تكنولوجيا استخراج الليثيوم المباشر في المملكة المتحدة، وثمة محاولة لإحياء مشروع ريو تينتو لليثيوم؛ لبناء مصنع لتصنيع البطاريات الكهربائية في لوزنيكا بصربيا. وأعلنت فرنسا عن منجم الليثيوم الرئيسي الجديد الذي من المتوقع أن يكون واحداً من أكبر المناجم في أوروبا، في حين أن مشاريع الليثيوم في البرتغال وألمانيا وجمهورية التشيك والنمسا وفنلندا في مراحل مختلفة من التطوير.
8– تركُّز أكبر رواسب الليثيوم عالمياً في أمريكا الجنوبية: تمتلك أمريكا الجنوبية أكبر رواسب الليثيوم في العالم، فيما يعرف بمثلث الليثيوم في كل من الأرجنتين وتشيلي وبوليفيا؛ حيث تكشف بيانات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن بوليفيا تمتلك نحو 24% من موارد الليثيوم في العالم، لكن يكاد يكون الإنتاج معدوماً؛ بسبب ظروف التعدين الصعبة. وتسعى بوليفيا مؤخراً نحو تحويل مواردها من الليثيوم إلى احتياطيات يمكن استخراجها بشكل مستدام، كما تمتلك الأرجنتين نحو 21% من إجمالي موارد الليثيوم، وتمثل 6% فقط من الإنتاج العالمي. وتناقش الدول الثلاث “مثلث الليثيوم” إمكانية إنشاء منظمة لليثيوم خاصة بها تضاهي منظمة الدول المصدرة للبترول (أوبك).
وتسعى كل من الصين والهند وروسيا إلى الاستفادة من التطورات الجديدة في الأرجنتين وبوليفيا، في حين يسعى عمالقة الصناعة (مثل شركة سوم وألبيمارل) إلى تطوير فرص استثمارية في شيلي، في الوقت الذي تُجري فيه المكسيك محادثات مع الولايات المتحدة بشأن صفقة محتملة لتعزيز أسواق الليثيوم والمركبات الكهربائية في كلا البلدين، لكن مشاركة الولايات المتحدة في أسواق الليثيوم لا تزال محدودة على الرغم من محاولة الشركات الخاصة، مثل إنرجيكس، قيادة سوق تكنولوجيا الليثيوم، لكن على مستوى الحوكمة؛ فقد أدى الافتقار إلى الشفافية بشأن تطورات الليثيوم المحلية في الولايات المتحدة إلى قلة المشاركة في الأسواق الدولية.
عوامل معززة
يشهد العالم تحولاً نحو إعادة توطين قدرات المعادن ومعالجتها؛ حيث تحاول القوى الإقليمية جعل سلاسل التوريد المعدنية أكثر أماناً. وتُعَد قرارات الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة المتعلقة بتدوير المعادن النادرة وخاصةً الليثيوم، وتقليل الاعتماد على الصين، وكذلك إعلان الصين إنشاء مخزون تجاري وطني من هذه المواد، وخفض صادراتها من العناصر النادرة؛ هي بوادر حرب باردة بين هذه القوى؛ حيث اشتد التنافس بين القوى العالمية على إنتاج وتأمين إمداداتها من الليثيوم. ويعزى احتدام المنافسة إلى عدة عوامل تتمثل فيما يلي:
1– التحول العالمي نحو الاقتصاد الأخضر: يتطلب التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة تأمين سلاسل إمداد موثوقة لمتطلبات إنشاء البنية التحتية للطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ويعد الليثيوم ضرورياً للطاقة المتجددة؛ لأنه عنصر مهم في إنتاج البطاريات القابلة لإعادة الشحن اللازمة للتوسع في سوق السيارات الكهربائية. علاوةً على ذلك، يسهم التحول من الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجددة، في تغيير شكل سوق الطاقة؛ إذ يمكن للدول الاعتماد على تخزين الطاقة المتجددة من خلال بطاريات الليثيوم أيون التي تعد الخيار الأول لتخزين الطاقة لمجموعة من المنتجات الاستهلاكية القابلة لإعادة الشحن. ومن المتوقع أن يؤدي التحول إلى مصادر الطاقة النظيفة إلى زيادة الطلب العالمي على الليثيوم بمقدار 40 ضعفاً بحلول عام 2040.
2– ارتفاع الطلب على السيارات الكهربائية: يزداد الطلب على السيارات الكهربائية مع تعهد المزيد من الدول بالتخلص التدريجي من السيارات التي تعمل بالبنزين؛ فبحسب تقديرات وزارة الطاقة الأمريكية تنخفض انبعاثات السيارات الكهربائية بنسبة 60% مقارنةً بالسيارات التي تعمل بالبنزين، وهو ما يقلل التلوث الكربوني.
فعلى الصعيد العالمي، ارتفعت مبيعات السيارات الكهربائية إلى 6.6 مليون في عام 2021، أي ضعف الحجم مقارنةً بعام 2020، ومن المتوقع أن يؤدي نمو السيارات الكهربائية إلى ما بين 145 و230 مليوناً على مستوى العالم بحلول عام 2030 – بجانب تخزين البطاريات – إلى زيادة الطلب على الليثيوم، فيما يخطط الاتحاد الأوروبي للتحول إلى المركبات الكهربائية وحظر مبيعات السيارات الجديدة التي تعمل بالبنزين والديزل بحلول عام 2035؛ ما يعني ارتفاع الطلب على الليثيوم إلى 550 ألف طن سنوياً بحلول عام 2030، أي أكثر من الـ200 ألف طن التي تستطيع أن تنتجها الدول الأوروبية.
3– مساعي الدول إلى تجنب الصدمات الاقتصادية: يتركز إنتاج الليثيوم في عدد محدود من الدول، على رأسها أستراليا، وما يسمى مثلث الليثيوم للمنتجين، فيما تتحكم الشركات الصينية في نصف إنتاج الليثيوم العالمي وأكثر من 70% من تصنيع بطاريات الليثيوم أيون. وتخلق محدودية ومركزية احتياطيات الليثيوم جغرافياً، نقصاً محتملاً في إمدادات الليثيوم مستقبلاً؛ ما يجبر الدول على متابعة أمن الليثيوم من خلال الحصول على سيطرة مستقلة على الإمدادات؛ ما يؤدي إلى صراعات بين الدول مماثلة لصراعات النفط؛ إذ يشكل هذا التوزيع العالمي غير المتكافئ لموارد الليثيوم استراتيجيات الدول الاستهلاكية؛ حيث لا يوجد تكامل رأسي بين الدول، ومن ثم تسعى الدول المستهلكة إما إلى الاستقلال وإما إلى الاعتماد المتبادل للوصول إلى هذه الموارد؛ وذلك بهدف التعرض لصدمات اقتصادية محتملة.
4– الرغبة في تأمين الإمدادات العالمية من الليثيوم: تسعى القوى الاقتصادية الكبرى إلى تأمين احتياطاتها من الليثيوم، سواء من خلال إنتاجه محلياً أو الاستثمار في إنتاجه خارجياً. وقد أشارت بلومبرج إلى أن السباق لتأمين الليثيوم يحدث على أعلى المستويات؛ حيث تعطي دول من بينها الولايات المتحدة الأولوية للوصول إلى المواد اللازمة لصنع البطاريات بعيداً عن الوقود الأحفوري، فيما تعد حاجة الصين لتعزيز إمداداتها من الليثيوم ضرورة ملحة؛ نظراً إلى أنها موطن لأكبر سوق في العالم لمركبات الطاقة الجديدة. وعلى الرغم من كونها مستورداً صافياً لكربونات الليثيوم، فإنها تلعب دوراً هاماً ورئيسياً في السوق، من خلال دورها المهيمن على سلاسل التوريد، ولكونها أكبر مصدر لمركبات الليثيوم النهائية، ولامتلاكها أكثر من نصف إجمالي القدرة على تكريره وتحويله إلى مركبات جاهزة للصناعة.
وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لتنويع سلاسل التوريد الخاصة بهما من المعادن الهامة، وكون سوق البطاريات الأمريكية صغيرة الحجم مقارنةً بالصين، فمن المتوقع أن ترفع الصين حصتها من الإمداد العالمي لبعض المعادن الرئيسية؛ لتسريع انتقال الطاقة؛ حيث سيؤدي التوسع في صناعة البطاريات عالمياً إلى توليد أكثر من 400 مليار دولار من عائدات سلسلة القيمة بحلول عام 2030. وقد ارتفعت مبيعات أوروبا من البطاريات خلال عام 2021 بنسبة 65%.
أبعاد التنافس
تشهد عمليات تعدين خام الليثيوم منافسة شرسة بين دول العالم الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة والصين والهند وأوروبا، في إطار السباق المحتدِم حول امتلاك المعادن المستخدَمة في صناعة الطاقة المتجددة بفروعها المختلفة؛ حيث يسهم نقص الإمدادات ونقص المعروض من الليثيوم في زيادة النزاعات المستقبلية بين الدول. وتتمثل أبرز ملامح التنافس الدولي فيما يلي:
1– تصاعد الصراع الدولي على الليثيوم بأفريقيا: تشهد أفريقيا تنافساً محتدماً بين الدول الكبرى على خام الليثيوم؛ نظراً إلى ضخامة الثروات والمعادن النادرة في القارة، وخاصةً الليثيوم؛ حيث تشير التقديرات إلى زيادة إنتاج القارة إلى نحو 497 ألف طن متري بحلول عام 2030، وهو التنافس الأشبه بالحرب الباردة في قطاع التعدين، وسط تفوق صيني ملحوظ؛ حيث تسعى الصين إلى تأمين إمدادات مستقرة لليثيوم، وفي هذا الإطار تعمل على زيادة شراكتها مع الدول الأفريقية لتعدين الليثيوم. ومؤخراً أعلنت شركة السيارات الصينية العملاقة “بي واي دي” (BYD) أنها تخطط لافتتاح ستة مناجم لتعدين الليثيوم في إفريقيا، لا سيما زيمبابوي صاحبة أكبر احتياطي بالقارة. وقد استحوذت ثلاث شركات صينية خلال الفترة من نهاية 2021 حتى مارس 2022، على حصص في مناجم مختلفة في زيمبابوي؛ لتعزز مكانتها لاعباً رئيسياً داخل القارة، كما بدأ أول مصنع مملوك للصين في أفريقيا إلى تكرير الإنتاج من منجم “أركاديا” في زيمبابوي.
2– انتهاج الدول الغنية بالخام سياسة حظر تصدير الليثيوم: تُعَد زيمبابوي الدولة الأفريقية الرائدة في مجال إنتاج الليثيوم. وبينما كانت الدولة على الطريق لتصبح واحداً من أكبر مُصدِّري الليثيوم الخام في العالم، اتخذت الحكومة قراراً في ديسمبر 2022، بحظر تصدير خام الليثيوم المستعمَل في صناعة البطاريات والسيارات الكهربائية، في محاولة لتشجيع عمليات معالجته محلياً؛ حيث تتكبد البلاد خسائر تصل إلى 1.8 مليار دولار من تصديره خاماً بدلاً من معالجته وتكريره. وأدت سياسة الحظر إلى إغراق البلاد بمخزونات ضخمة أربكت قطاع المناجم وصناعة التعدين، وبلغ حجم مخزونات الليثيوم في البلد الواقع جنوب القارة الأفريقية، إلى مليوني طن من الخام حتى فبراير 2023.
بينما تنبهت الحكومة المكسيكية إلى أهمية معدن الليثيوم، لذلك أعلنت عن رغبتها في تأسيس شركة مملوكة للدولة لتعدين الليثيوم، تحتفظ بأعمال التنقيب والتعدين المستقبلية للحكومة، بالإضافة إلى عدم السماح للشركة الصينية في ولاية سونورا الشمالية بتعدين الليثيوم، فيما أقرَّ المشرعون المكسيكيون خطَّة لتأميم مادة الليثيوم الحيوية. ومع ذلك لن يكون لحظر الاستثمار في المكسيك تأثير مباشر على السوق العالمية؛ لمحدودية تأثيره؛ حيث يبلغ احتياطيها 1.7 مليون طن فقط.
3– احتدام المنافسة على مناجم الليثيوم الأسترالية: مكَّن الطلب العالمي القوي على موارد الليثيوم وإنتاج مركز الإسبودومين العالي الجودة في أستراليا، من اكتساب المزيد من فرص السوق. وعزز سعر الإسبودومين عائدات التصدير الأسترالية، التي من المتوقع أن تبلغ نحو 6.7 مليار دولار أمريكي خلال الفترة 2026–2027 مقارنة بنحو 2.8 مليار دولار في 2021–2022. وقد شكلت موارد الليثيوم الأسترالية المُصدَّرة إلى الصين 90% من الإجمالي؛ حيث تملك الصين 51% من أكبر حقل لليثيوم في أستراليا. وكذلك وقَّعت شركة Yibin Tianyi الصينية اتفاقاً مع شركة Pilbara Minerals الأسترالية لشراء الشركة الصينية 40 ألف طن من الليثيوم في صفقة ضعيفة القيمة نسبياً، تبلغ قيمتها 15 مليون دولار مدفوعة مسبقاً.
4– التنافس على الليثيوم الأوكراني: تحتوي المنطقة الشرقية لأوكرانيا على ما يقرب من 500 ألف طن من أكسيد الليثيوم. وقد استحوذت ثروة كييف من الليثيوم على الاهتمام العالمي قبيل الحرب الروسية–الأوكرانية، وخاصةً المستثمرين الصينيون والأستراليين؛ حيث بدأت أوكرانيا تصدر تصاريح التنقيب لتطوير احتياطاتها من الليثيوم في نهاية عام 2021؛ ما جذب الانتباه العالمي، واشتدت المنافسة بين المستثمرين للفوز بحقوق استخراج الليثيوم الأوكراني؛ ففي نوفمبر 2021 أعلنت شركة European Lithium الأسترالية، أنها بصدد تأمين حقوق اثنين من رواسب الليثيوم الواعدة في منطقة دونيتسك بشرق أوكرانيا، وكيروفوجراد في وسط البلاد، فيما تقدمت شركة Chengxin Lithium الصينية أيضاً بطلب للحصول على حقوق استخراج الليثيوم في المنطقتين، في محاولة منها لوضع موطئ قدم لها في أوروبا.
5– مساعي الدول الغربية لتقويض نفوذ الصين: يهدد ذلك التمدد الصيني في مجال سلاسل توريد الليثيوم، الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية؛ فحتى عام 2017، لم تكن الولايات المتحدة قد استخرجت المعادن الأرضية النادرة محلياً، واستوردت معظم احتياجاتها من الصين. ومع زيادة هيمنة الصين على إمدادات الليثيوم، لم ترغب الولايات المتحدة في أن تتحكم مصادر أجنبية في سلعها المعدنية الاستراتيجية؛ لذلك جعلت العناصر الأرضية النادرة جزءاً من حربها التجارية مع الصين. وما يفاقم قلق واشنطن هو اعتماد القاعدة الصناعية الدفاعية الأمريكية بشكل أساسي على إمدادات ثابتة من الليثيوم. وعليه فإن الهيمنة الصينية على أسواق الليثيوم ستضع الولايات المتحدة وإنتاجها العسكري تحت رحمة الصين في هذه السوق الحيوية. علاوةً على ذلك، فإن شراء الشركات الصينية أكبر عمليات تعدين الليثيوم داخل الأرجنتين وبوليفيا وتشيلي، قد يؤدي إلى تفكيك الآفاق الاقتصادية والتجارية المستقبلية للولايات المتحدة داخل مثلث الليثيوم.
وتأتى ردود فعل القوى الغربية على مخاوفها المتزايدة بشأن هيمنة الصين في سلاسل التوريد، متمثلةً في خطوة سحب الاستثمارات الكندية، التي يمكن أن تؤثر نظرياً على حصة الصين على الأقل في مشاريع مثل عملية لاجونا بلانكا، وجهود الولايات المتحدة الأخيرة لحرمان الصين من الوصول إلى تقنيات الرقائق المتقدمة، وقيامها بإنتاج 9% من البطاريات محلياً خلال عام 2019، بالإضافة إلى إعادة الاتحاد الأوروبي التفاوض بشأن اتفاقه التجاري مع شيلي لتسهيل وصول الأوروبيين إلى الليثيوم في الدولة اللاتينية. وتم إصدار “رؤية الاتحاد الأوروبي للمواد الخام 2050 وخريطة طريق التكنولوجيا والابتكار” لضمان الوصول الموثوق إلى المواد الخام، بما في ذلك الليثيوم.
وأخيراً، أسهمت تلك العوامل في زيادة احتمال احتدام التنافس الدولي على موارد الليثيوم لتصل إلى حرب باردة جديدة بين القوى الاقتصادية الكبرى، ولكن على الرغم من شدة المنافسة بين الدول الكبرى، وهيمنة الصين على إمدادات الليثيوم العالمية، لم تكن هناك مواجهة مباشرة بين تلك القوى حتى الوقت الراهن، بل كانت منافسة تقودها الشراكات بين الدول الكبرى ونظيراتها الغنية بالليثيوم؛ حيث أدى الترابط التكنولوجي والاعتماد المتبادل في صناعة الليثيوم إلى تقليل حافز الدول الغربية للانخراط في صراع مع الصين حول تكنولوجيا البطاريات؛ لأن السوق الحالية تفيد كلاً من منتجي الإلكترونيات، والمركبات الكهربائية، والمستهلكين المحليين لهذه المنتجات.
وعلى صعيد آخر، تسهم الخطوات الأخيرة للولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا لزيادة الإنتاج المحلي لبطاريات الليثيوم أيون وإعادة تدويرها، في انخفاض حصة بطاريات الليثيوم أيون في الصين، ومن ثم تقويض هيمنتها على إمدادات الليثيوم عالمياً؛ ما يعكس الصراع المحتمل في المستقبل على مستوى السيادة؛ فإن نجاح القوى الغربية في تقويض موقف الصين تجارياً، قد يؤدي إلى تحول الجغرافيا السياسية الحالية إلى حقبة جديدة متعددة الأقطاب ولا مركزية تقودها التكنولوجيا؛ ما قد يخلق سباقاً أكثر تنافسيةً لإنتاج الليثيوم. ويحد من ذلك السباق استراتيجياتُ الدول المنتجة الغنية بالخام التي يجب أن تتجه نحو فرض هيمنتها على إنتاج وتعدين الليثيوم محلياً، وتصديره بشكل عادل، ومن ثم ضمان سلاسل توريد وإمدادات آمنة، لا يحكمها قوى أو رغبات سياسية بين الدول الكبرى.