شهدت الأيام الماضية تجاذبات بين روسيا وأوكرانيا حول السيطرة على البحر الأسود، وخصوصاً بعد تصريحات وزير الخارجية الأوكراني دميتري كوليبا، التي دعا خلالها إلى تحويل البحر الأسود إلى منطقة خاضعة لنفوذ حلف الناتو، وهو ما قُوبل بهجوم من قبل موسكو. هذه التصريحات المضادة تعكس تشابكات الصراع الأوكراني؛ حيث تؤثر مجموعة متشابكة من العوامل على مسارات ومآلات الحرب الروسية الأوكرانية، بدءاً من توافر المعدات العسكرية وذخائرها، ومروراً بمدى إحكام نظام العقوبات الاقتصادية من عدمه، ووصولاً إلى نجاح كل طرف في السيطرة على المواقع الهامة من الناحية الاستراتيجية. وبوجه عام، فإن الحرب الروسية الأوكرانية تتكون من سلسلة من المعارك البرية بالأساس (في كييف وخاركيف وباخموت وخيرسون وغيرها)، يتم دعمها إما جواً وإما بحراً، ويسعى فيها كل طرف إلى بسط نفوذه على منافذ مناطق العمليات البحرية والبرية.
وبالنظر إلى خارطة الصراع، فإن البحر الأسود يظهر في القلب من هذه المنافذ الرئيسية التي قد تقلب المعادلة العسكرية لصالح أي من الطرفين؛ ليس فقط بسبب موقعه المحوري جنوب روسيا وأوكرانيا، بل لكونه من المنافذ البحرية المحدودة لكلتا الدولتين؛ ففي حين تمتلك روسيا منفذاً على بحر البلطيق جهة الشمال الغربي بجانب المنفذ الجنوبي على البحر الأسود، فإن أوكرانيا تجد نفسها مكبلة أمام منفذها الوحيد على هذا البحر. وعلى الرغم من الأهمية البالغة للبحر الأسود في مسار الحرب الدائرة حالياً، فإن إدراك الأهمية الحقيقية للبحر الأسود تستلزم توسيع المنظور الذي يتم به تناول المشهد الجيوسياسي، بحيث يتم الأخذ في الاعتبار كافة الفاعلين المؤثرين في هذا البحر، بالإضافة إلى عناصر الأهمية الأخرى التي تتعدى الحرب الحالية.
الأهمية الجيوستراتيجية
يكتسب البحر الأسود أهمية جيوستراتيجية تصاعدت عقب اندلاع الحرب داخل أوكرانيا، وهو ما يمكن تناوله عبر ما يلي:
1- همزة الوصل لدوله المشاطئة بالعالم الخارجي: بجانب روسيا وأوكرانيا، يحد البحر الأسود كلاً من جورجيا ورومانيا وبلغاريا وتركيا، وهو رابط مهم بين موانئها والبحر الأبيض المتوسط. وبذلك فهو لا يشكل فقط منفذاً تجارياً لهذه الدول، بل أيضاً ساحة للتنافس فيما بينها للوصول بشكل أكبر إلى العالم الخارجي عبر البحر المتوسط؛ ولذا تتزايد الأهمية الاستراتيجية للبحر الأسود بالنسبة إلى هذه الدول؛ لأن أي تهديد له سيعني فرض نوع من أنواع الحصار والعزلة عليها.
2- منفذ هام للحبوب الغذائية على المستوى العالمي: نظراً إلى كون أوكرانيا من أهم مصدري الحبوب الغذائية في العالم، فإن البحر الأسود يمثل منفذاً بحرياً هاماً لتجارة الغلال على الصعيد الدولي. ومع بداية الحصار المفروض على موانئ أوكرانيا على البحر الأسود عشية الحرب الروسية الشاملة في أوكرانيا في فبراير 2022، بدأ العالم أجمع يستشعر التبعات الاقتصادية المفجعة لنقص إمدادات القمح العالمية وارتفاع تكلفة استيراده.
3- مسار مهم لتصدير الطاقة: إن علاقات روسيا المتوسعة في مجال الطاقة في البلقان، وخاصةً في بلغاريا ومقدونيا الشمالية وصربيا، قد جعلت الكرملين يستخدم الطاقة سلاحاً جيوسياسياً لتقويض نفوذ الناتو والاتحاد الأوروبي في منطقة البحر الأسود، كما تخدم شبكة خطوط الأنابيب – التي يعتبر أهمها “بلو ستريم” الذي يعبر من روسيا إلى شمال تركيا – الأهداف الروسية في تصدير الغاز الطبيعي إلى دول الجنوب الأوروبي وما وراءها.
القوى المتنافسة
تاريخياً، تنافست مجموعة من القوى على بسط نفوذها على البحر الأسود. ورغم سعي بريطانيا وفرنسا لتمديد نفوذهما في هذا البحر خلال فترة تاريخية معينة، فإن هذا السعي من باريس ولندن لم يشكل أساساً مستمراً لاستراتيجيتهما في أوروبا؛ لذلك يمكن رصد القوى التالية باعتبار سعيها لتمديد نفوذها في البحر الأسود سمةً مستمرةً ومستقرةً في سياستها الخارجية:
1- قناعة موسكو بالريادة البحرية: سيطرت البحرية الروسية على البحر الأسود لسنوات عديدة منذ أواخر القرن الـ18؛ لرغبتها في الوصول إلى المياه الدافئة. وقد تمثلت آخر مراحل هذه السيطرة في ضم روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن مدينة سيفاستوبول كانت لعدة قرون الميناء الرئيسي لأسطولها في البحر الأسود. ومنذ فبراير 2022، نشرت روسيا قواتها البحرية قبالة الساحل الأوكراني؛ ما أدى فعلياً إلى حصار السفن الأوكرانية في الموانئ ومنعها من الإبحار بحرية في البحر الأسود.
فعلى مدار عقود، انتهجت موسكو استراتيجية نشطة وواسعة النطاق لإعادة تأكيد وتعزيز موقعها المهيمن في منطقة البحر الأسود الكبرى، التي يعتقد الكرملين أنها ضرورية لاستعادة وضع روسيا كقوة عظمى، ومن ثم بدا أن توطيد الموقف الروسي في هذه المنطقة يستهدف تعزيز الأسس العسكرية والسياسية والاقتصادية لمكانة روسيا كقوة عظمى.
2- طموحات متصاعدة لحلف الناتو: من أهداف حلف الناتو في التوسع شرقاً، ضمان منافسة السيطرة الروسية على البحر الأسود؛ فخلال العقدين اللذين أعقبا الحرب الباردة، شهدت روسيا انحساراً نسبياً لنفوذها وبسط سيطرتها في منطقة البحر الأسود؛ حيث انضمت كلٌّ من بلغاريا ورومانيا إلى الناتو، كما أعلنت جورجيا وأوكرانيا عن نيتهما الانضمام إلى الحلف، وهي الأمور التي تُنذِر بتحويل التوازن الإقليمي لصالح الناتو، وهو ما جعل البعض يرجح أن ذلك من أسباب السلوك العدواني المتنامي لروسيا. في السياق ذاته، يعني قرب البحر الأسود من قلب روسيا أن جزءاً كبيراً من الأراضي الروسية يمكن أن تكون عرضةً لمديات الصواريخ الأمريكية المتوسطة المدى البرية والبحرية.
3- المصالح المتشابكة لتركيا: تعتبر تركيا من أهم الفاعلين الذين يسعون إلى تمديد نفوذهم باستمرار على منطقة البحر الأسود منذ حقبة الدولة العثمانية، وقد شكَّل ذلك مدعاة للتوتر والاحتقان بينها وبين موسكو. ورغم السيطرة الروسية الفعلية على البحر الأسود، فإن موسكو لديها عيوب واضحة في هذا البحر نتيجة مزيج من العوامل الجغرافية والسياسية التي تحد من وصولها إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط على اتساعه.
فعلى الرغم من أن شبه جزيرة القرم ومدينة نوفوروسيسك الساحلية الجنوبية الروسية، توفران للبحرية والناقلات الروسية إمكانية الوصول إلى موانئ المياه الدافئة، فإن جميع السفن التي تدخل البحر الأسود أو تغادره يجب أن تمر عبر مضيقَي البوسفور والدردنيل الخاضعَين للسيطرة التركية، وهما ممران مهمان استراتيجياً بين البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط. وغني عن الذكر أن تركيا تعتبر إحدى الأذرع الرئيسية لحلف الناتو بما يكنه من عداء لروسيا.
مشهد الحرب
انطلاقاً من المنظور الأوسع السابق عرضه، يمكن رصد أبرز تأثيرات البحر الأسود على مسار الحرب الروسية الأوكرانية على النحو التالي:
1- منفذ روسي لضرب العمق الأوكراني: أطلقت السفن الحربية الروسية في الأشهر الأخيرة من البحر الأسود سلسلة من صواريخ كروز على أهداف أوكرانية تبعد أحياناً مئات الأميال؛ ما ألحق أضراراً كبيرة بعدد من المدن الحيوية الأوكرانية ومراكز التحكم والقيادة. وبوجه عام، يحذر المسؤولون الأوكرانيون بانتظام المواطنين من هجمات وشيكة عندما يكتشفون تحركات لحاملات الصواريخ في البحر الأسود؛ ما جعل الجيش الأوكراني يضع ضمن أولوياته الاستراتيجية اختراق حالة التفوق البحري لموسكو في البحر الأسود عن طريق سلسلة من الضربات الجريئة للقطع البحرية الروسية.
2- اتفاق روسيا وأوكرانيا على أهميته من الناحية التجارية: يعتبر البحر الأسود من نقاط الاتفاق المحدودة بين موسكو وكييف؛ حيث أسس اتفاق توسطت فيه تركيا والأمم المتحدة في يوليو 2022 ممراً للسفن التي تحمل الحبوب والمحاصيل الغذائية الأخرى لمغادرة الموانئ الأوكرانية والمرور عبر الحصار الروسي، مع السماح أيضاً لروسيا بإرسال شحناتها من المواد الغذائية والأسمدة إلى البحر المتوسط، فيما عرف باتفاق الحبوب.
3- ساحة لشن العمليات العسكرية الأوكرانية المضادة: مثَّل البحر الأسود نقطة انطلاق لعدد من العمليات العسكرية الأوكرانية المضادة والهامة، ولعل أهمها إغراق ضربة صاروخية أوكرانية السفينة موسكفا، وهي القطعة البحرية الروسية الرائدة في أسطول البحر في أبريل 2022، كما ألحق انفجار أضراراً جسيمة بجسر مضيق كيرتش الذي يربط شبه جزيرة القرم بروسيا، في أكتوبر2022. ونتيجة لهذا الانفجار، واجهت موسكو مصاعب كبيرة في إمداد قواتها بالعتاد في شبه جزيرة القرم، كما تسبب في إحراج الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي كان له الفضل الشخصي في بناء الجسر.
كما يرجح بعض الخبراء أن أوكرانيا استخدمت أيضاً طائرة بدون طيار لمهاجمة الأسطول البحري الروسي قبالة مدينة سيفاستوبول الساحلية في القرم في نوفمبر الماضي؛ ما تسبب في تعليق موسكو مشاركتها في صفقة الحبوب لفترة وجيزة.
4- عامل هام في تخفيف فاتورة حلفاء أوكرانيا: إن استئناف التجارة البحرية الطبيعية في البحر الأسود سيوفر للاقتصاد الأوكراني ما يقرب من 20 مليار دولار من العائدات السنوية الإضافية؛ حيث سيؤدي هذا إلى تقليل العبء الاقتصادي على عاتق شركاء أوكرانيا والمؤسسات المالية الدولية، التي يُطلب منها الآن دعم الاقتصاد الأوكراني المتعثر إلى أجل غير مسمى، كما سيكون الانفتاح التجاري للبحر الأسود مفيداً أيضاً للاقتصادات الأخرى؛ حيث سيسمح لأوكرانيا باستئناف وارداتها التي بلغت قيمتها عشرات المليارات من الدولارات في عام 2021.
5- توفير حيز لموسكو لتخفيف العزلة الغربية: بات البحر الأسود منفذاً مهماً بالنسبة إلى موسكو يساعدها على الالتفاف وتخفيف تأثير العزلة الغربية المفروضة عليها؛ فقد رفعت عملية الفصل الاقتصادي بين روسيا ودول أوروبا – وخاصةً بعد تعطيل خطوط أنابيب نورد ستريم – أهمية البحر الأسود بالنسبة إلى روسيا، باعتباره أحد الممرات الجغرافية الاقتصادية الرئيسية لموسكو في الأسواق العالمية؛ حيث تعتمد موسكو على البحر الأسود لنقل الغاز، وكذلك بعض السلع المهمة مثل ناقلات القمح.
6- انتباه الدول الغربية إلى أهمية البحر الأسود: لقد عززت الحرب الأوكرانية اقتناع الدول الغربية بضرورة تكثيف الوجود في البحر الأسود، ولعل هذا ما كشفت عنه تصريحات وزير الخارجية الأوكراني “دميتري كوليبا”، في كلمة عبر الفيديو أمام مؤتمر عن أمن البحر الأسود في بوخارست خلال شهر أبريل الجاري، حينما قال إنه “حان الوقت لتحويل البحر الأسود إلى منطقة خاضعة لنفوذ الحلف الأطلسي والعمل على نزع السلاح فيها”، وأضاف أن بلاده "تأسف لأن الغرب ليست لديه استراتيجية واضحة ومنسقة حول ذلك … لقد حان الوقت لتحويل البحر الأسود إلى ما أصبح عليه بحر البلطيق؛ إلى بحيرة لـ(الناتو) … ندعو إلى نزع السلاح من البحر الأسود حتى تتمكن البلدان المسالمة التي تحترم القانون من استخدامه للتجارة والسفر".
الخلاصة: يعتبر التنافس الروسي الأوكراني على البحر الأسود جزءاً من استراتيجية أوسع لتمديد النفوذ جنوب أوروبا وفي البحر المتوسط. ورغم أن السيطرة عليه تعتبر جزءاً أصيلاً من السياسة الروسية على مر العصور، فإن بزوغ القوى المنافسة الأخرى، مثل حلف الناتو وتركيا، يفرض مزيداً من التعقيد على المشهد في هذه المنطقة الحيوية.