• اخر تحديث : 2024-04-26 21:42
news-details
أبحاث

إدارة الرئيس بايدن ومساعي تعزيز الشراكة الأميركية الإفريقية


تؤشر التحركات الأميركية الأخيرة في إفريقيا إلى أن واشنطن تحت إدارة الرئيس جو بايدن عازمة على التعهدات التي أعلنتها في قمة قادة الولايات المتحدة وإفريقيا التي أُجريت في ديسمبر/كانون الأول الماضي (2022)؛ حيث شهدت القارة منذ بداية 2023 حتى الآن زيارات مختلفة من مسؤولين أميركيين في محاولة لزيادة أنشطتها الإفريقية وتعزيز وجودها لمواجهة منافسين آخرين مثل الصين وروسيا.

ففي يناير/كانون الثاني الماضي (2023)، زارت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين ثلاث دول إفريقية، السنغال وزامبيا وجنوب إفريقيا، وتبعتها جولة أخرى لوزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن إلى إثيوبيا في شرق إفريقيا والنيجر الواقعة في الساحل التي تعاني أزمات أمنية وسط تنامي النفوذ الروسي في المنطقة. وكانت آخر الجولات الأميركية توجُّه نائبة الرئيس الأميركية كامالا هاريس، في أواخر شهر مارس/آذار الماضي، إلى غانا ثم تنزانيا وزامبيا واستغرقت الرحلة ثمانية أيام حيث قدمت التزامات بلغت مليار دولار لدعم النساء وتعهدات مختلفة من الاستثمارات الأميركية.

البعد التنافسي مع الصين وروسيا

تؤكد زيارة كامالا هاريس رغبة الولايات المتحدة في إعادة ضبط علاقاتها مع القارة الإفريقية، كما تؤكد البعد التنافسي نتيجة تصاعد الوجود الروسي والنفوذ الصيني ومساعي الدول الأوروبية والفرنسية لإيجاد إستراتيجيات جديدة لها في إفريقيا. وتأتي هذه الزيارات الأميركية عقب جولات سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي في إفريقيا. وقد أدى ارتفاع نسبة المنافسة بين هذه الأطراف والقوى المختلفة إلى تريث بعض الدول الإفريقية للمراقبة من بعيد ما يخبئه لهم التقارب الأميركي. بل وفطنت هاريس خلال رحلتها الإفريقية إلى عدم جعل التحركات الأميركية الجديدة تكتسي ثوب مساعي احتواء المنافسين الآخرين عندما قلَّلت من البعد التنافسي بين واشنطن والصين التي تمول مشاريع ضخمة وكثيرة في دول إفريقية مختلفة وتعتبر الشريك التجاري الرئيسي في القارة.

وعلى سبيل المثال؛ رفضت هاريس أثناء وجودها في غانا تعليق وسائل الإعلام بأن كان السبب الحقيقي وراء رحلتها هو للتنافس الأميركي مع الصين. ولكن الرئيس الغاني نانا أكوفو-أدو أفاد بما يؤكد المقترح قائلًا: إنه رغم الهوس الأميركي بشأن النشاط الصيني في القارة، إلا أن غانا لا تهتم بمثل هذا الهوس لأن "الصين واحدة من العديد من البلدان التي تتشارك غانا معها في العالم".

ومما يلاحظ في الزيارات الأميركية الأخيرة أن واشنطن بدأت تقدم تحركاتها الجديدة كمبادرات بين الشركاء وإعادة ضبط العلاقات بين "الأصدقاء القدامى". وباستقراء بيانات وتصريحات المسؤولين الأميركيين منذ الشهور الماضية يتضح تأكد بعضهم من تغير ديناميكية اللعبة الدولية والتدافع العالمي الجديد لكسب ود الأفارقة واستغلال مواردهم؛ الأمر الذي أجبر الولايات المتحدة على الاعتراف بإفريقيا شريكًا لا يمكنها الاستغناء عنه وساحة معركة جيوسياسية لم يعد من الممكن تجاهلها لما تحملها من قيمة إستراتيجية متأصلة.

فهل يعني ما سبق أن مبادرات واشنطن وتحركاتها الأخيرة قادرة في غضون أشهر أو حتى سنوات قليلة على مواجه عقود من الاستثمارات الصينية الدبلوماسية والثقافية والمالية وسنوات من التعاون الروسي العسكري مع حكام دول إفريقية؟

الجواب على السؤال مرتبط بالإرادة الأميركية لتقديم نماذج تنموية وسياسية مختلفة ومدى استعدادها للتخلي عن فرض الشروط الأخلاقية وربط مبادراتها بالمبادئ الديمقراطية في الدول الإفريقية. ويمكن القول اعتمادًا على التجارب السابقة والتطورات السياسية الأخيرة بأن الولايات المتحدة في حين قد تمر بسهولة في الدول الإفريقية الأكثر انفتاحًا وديمقراطية والمحتاجة لاستثماراتها؛ فإنها أيضا ستجد الصعوبة في توطيد علاقاتها مع عدد من دول القارة التي غالبًا ما تصف واشنطن أنظمتها السياسية بغير الشفافية والاستبدادية.

بل ستتطلب مواجهة القوى الدولية الأخرى في إفريقيا، وخاصة الصين وروسيا، إظهار نفس المستوى من الإدراك والاتساق والثبات الذي يتمتع به الروس أو الصينيون الذين يهيمنون حاليًّا على المجالات التي ترى واشنطن أنها تؤثر على أمنها الاقتصادي، مثل الحصول على وصول موثوق إلى المعادن الإفريقية المهمة والتحكم في تدفق المعلومات لدفع ابتكارات وتقنيات المستقبل القريب.

سردية جديدة: التجارة والاستثمار

هناك تحول كبير في نهج واشنطن الجديد تجاه إفريقيا حيث يحاول المسؤولون الأميركيون الانتقال من التصور القديم المتمثل في أن الولايات المتحدة ليست مجرد مانح للمساعدات الإغاثية أو أنها تولي الأهمية فقط أثناء جولاتها لزيارة عيادات الإيدز والقرى التقليدية لتلميع صورتها كما فعل المسؤولون الأميركيون في رحلاتهم الإفريقية السابقة. وقد حاولوا جميعًا هذه المرة تأكيد وجود الولايات المتحدة كمساهم في كسب الحرب ضد الإرهاب ومصدر للمساعدات المالية الأخرى لدفع عجلة الاستثمار في القارة. ولذلك اختار مسؤولو إدارة بايدن بعناية الدول الإفريقية التي سافروا إليها ونوعية المبادرات التي تظهر أنهم ينسجون النهج الجديد وفق مطالب بعض الدول الإفريقية.

وإذا تعلمت واشنطن أي درس من العلاقات الإفريقية-الصينية والروسية؛ فإن الدرس قد يتمثل في حقيقة أن السردية الدبلوماسية وإعادة تشكيل التصور العام في غاية الأهمية؛ إذ الصين وروسيا تتجهان نحو دول القارة بسردية كونهما لم تستعمرا دول القارة ولم تحتلا أراضيها وأنهما بجانبها في أزماتها الاقتصادية والأمنية. وفي الجانب الأميركي يلاحَظ توجه مماثل في التحركات الأخيرة؛ حيث زارت وزيرة الخزانة الأميركية "جانيت يلين" جزيرة "جوري" السنغالية متحدثة عن "القسوة التي لا توصف" لما يسمى "تجارة الرقيق" عبر المحيط الأطلسي، قائلة: إن الجزيرة تُذكِّر بأن تاريخ إفريقيا وأميركا مرتبطان ارتباطًا وثيقًا وأن المأساة لم تتوقف مع جيل البشر المأخوذ من الجزيرة حيت استمرت في الجانب الآخر من العالم.

وعلى المنوال نفسه ركزت نائبة الرئيس الأميركية كامالا هاريس في رحلتها الأخيرة عبر القارة على العلاقات التاريخية بين إفريقيا والولايات المتحدة، وتحدثت بعد زيارة قلعة "كيب كوست" الشهيرة بغانا عن أهوال الاسترقاق وأهمية تدريس التاريخ حتى عندما يكون مزعجًا، وحاولت الربط بين سردية الاسترقاق وتجارب الأميركيين من أصول إفريقية. إضافة إلى ما أثارته أثناء الرحلة عن لقاء الرئيس الأميركي "جون كنيدي" مع الرئيس التنزاني "جوليوس نيريري" الذي يعتبر مؤسس تنزانيا المعاصرة. وفي زامبيا، كشفت "هاريس" عن حنينها إلى الماضي حيث كانت ترافق جدها إلى زامبيا في الستينات حيث عمل مستشارًا لـ"كينيث كاوندا" أول رئيس لزامبيا.

وفيما يتعلق بالتجارة والاستثمار اللذين احتلا مكانة كبيرة على جدول أعمال المسؤولين الأميركيين أثناء زياراتهم الإفريقية الأخيرة، فقد كشفوا جميعهم أن واشنطن مستعدة لتعزيز التجارة الثنائية وزيادة حجم التجارة في إفريقيا. وفي تنزانيا، أعلنت كامالا هاريس التي التقت بالرئيسة "سامية صولحو حسن" عن خطط تعزيز التجارة والاستثمار الاقتصادي فيها وتقوية الروابط الأميركية التنزانية الاقتصادية عبر عدد من المبادرات، بالإضافة إلى مذكرة تفاهم جديدة بين "بنك التصدير والاستيراد للولايات المتحدة" (Export–Import Bank of the United States)  وحكومة تنزانيا، وهو ما سيسهِّل تمويلًا يصل إلى 500 مليون دولار لمساعدة الشركات الأميركية على تصدير السلع والخدمات إلى تنزانيا في قطاعات تشمل البنية التحتية والنقل والتكنولوجيا الرقمية وأمن المناخ والطاقة وتوليد الكهرباء.

وفي حين قدمت "هاريس" أيضا عددًا من الالتزامات للقطاعين العام والخاص، بما في ذلك تلك المتعلقة بالتغييرات المناخية والزراعة والإصلاحات الاقتصادية والسياسية ومبادرات مكافحة الفساد؛ فإن من المجالات التي قد تشهد الصدام الأميركي-الصيني في إفريقيا مجالي التكنولوجيا وصناعة المركبات الكهربائية، وخاصة الكابلات تحت البحر وتقنية شبكة الجيل الخامس (5G) التي تهيمن عليها الصين في الوقت الراهن.

بل بالرغم من أن "هاريس" كشفت عن شراكة جديدة بين الولايات المتحدة وتنزانيا في تكنولوجيا الجيل الخامس والأمن السيبراني ووجود خطة من قبل شركة مدعومة من واشنطن لفتح مصنع معالجة جديد في تنزانيا للمعادن المستخدمة في بطاريات السيارات الكهربائية ونقل النيكل من المصنع إلى الولايات المتحدة والسوق العالمية اعتبارًا من عام 2026؛ إلا أن بعض المؤشرات تؤكد سبق الصين لواشنطن في تنزانيا التي كانت في دائرة اهتمام بيجين؛ حيث التقت الرئيسة التنزانية "سامية صولحو حسن"، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بالرئيس الصيني "شي جين بينغ" في أول زيارة دولة تقوم بها الرئيسة التنزانية خارج إفريقيا مما أكد أهمية الصين لدى الحكومة التنزانية.

ومع ذلك، يُتوقع أن يزداد الميل الأميركي نحو رئيسة تنزانيا التي يشيد بها الغرب منذ وصولها إلى السلطة ويغمرها بالثناء بسبب إصلاحاتها وفتح المجال السياسي أمام مشاركة جميع الأحزاب. بل وعادت تنزانيا في عهدها إلى المشاركة الدولية بعد فترة من العزلة التي فرضها سلفها "جون ماغوفولي" وأولى الاهتمام للنظر إلى الداخل التنزاني والاعتماد على موارد البلاد والتعاون الإفريقي البيني.

صعوبة الانتقال التام إلى نهج جديد

هناك مؤشرات على أنه رغم النهج الجديد الذي ترسمه الولايات المتحدة الأميركية لنفسها؛ إلا أنها تواجه صعوبة في التخلي عن فرض مبادئها على الأفارقة. وفي نيجيريا مثلًا ربط البعض عدم زيارة المسؤولين الأميركيين رفيعي المستوى، مثل "جانيت" أو "هاريس"، إلى الدول الكبيرة ذات المكانة الاقتصادية والإستراتيجية، مثل نيجيريا، بعدم الرضا الأميركي عن السياسة النيجيرية أو لاستيائها من الانتخابات النيجيرية الأخيرة التي انتقدتها الولايات المتحدة الأميركية بسبب مزاعم وقوع مخالفات وانتهاكات لحقوق الناخبين. وقد كانت آخر زيارة لمسؤول حكومي أميركي كبير لنيجيريا، في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، عندما كان لوزير الخارجية "أنتوني بلينكن" وقفة قصيرة في أبوجا.

ولوحظ أيضًا أنه حتى الجو الدبلوماسي أثناء زيارة "جانيت" لجنوب إفريقيا لم يكن هادئًا بما فيه الكفاية وخاصة بعدما حذرت "جانيت" الحكومات الإفريقية من تخطي الحدود الأميركية بشأن التعامل مع روسيا التي فرض عليها الغرب عقوبات معينة؛ الأمر الذي أعاد إلى ذاكرة الدول الإفريقية ما اشتهرت به واشنطن في القارة من حيث إجبار حكومات القارة على الالتزام بإملاءاتها دون المبالاة بمواقف هذه الحكومات السيادية أو مصالحها الوطنية. بل بالرغم من أن محكمة الجنايات الدولية أعلنت الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" مجرمَ حربٍ إلا أن جميع التوقعات الإفريقية ترجح أن حكومة جنوب إفريقيا لن تعتقل "بوتين" أو تسلمه لمحكمة الجنايات الدولية في حال زيارته لبريتوريا للمشاركة في قمة بريكس التي ستستضيفها جنوب إفريقيا في الفترة من 22 إلى 24 أغسطس/آب 2023.

ويدخل في إطار ما سبق أن تودد واشنطن لتنزانيا والإشادة بالرئيسة الحالية "سامية صولحو حسن" هو لتقديم نفسها داعمة للمرأة الإفريقية ولتحسين التصور العام تجاه واشنطن كقوة "مهتمة" بالفئة المعرضة للخطر كما يحلو للبعض وصف المرأة الإفريقية. ومع ذلك قد تكون هذه الرومانسية بين الغرب وتنزانيا قصيرة العمر بسبب تقارير جماعات حقوق الإنسان التي تقول: إن الانتهاكات لا تزال مستمرة تحت قيادة الرئيسة "سامية"، بما في ذلك استهداف الحكومة لوسائل الإعلام عبر الإنترنت. وأظهرت "سامية" أيضًا أنها ضد بعض "الحقوق" التي يطالب الغرب حكومات إفريقيا بالالتزام بها.

البعد الأمني والعسكري

من خلال بيانات المسؤولين الأميركيين والدول الإفريقية التي سافروا إليها في جولاتهم الأخيرية؛ يتضح أن واشنطن مستعدة للانخراط الأكبر عبر بوابة الأوضاع الأمنية وعلاقاتها مع بعض دول المنطقة ذات المكانة الجيوستراتيجية في قضايا الأمن بالمنطقة، مثل إثيوبيا في شرق إفريقيا ودولتي النيجر وغانا في الساحل وغرب إفريقيا.

وفي حالة إثيوبيا التي تُعد ثاني أكبر دولة في إفريقيا من حيث عدد السكان؛ فقد زارها وزير الخارجية الأميركي "أنتوني بلينكن" في شهر مارس/آذار الماضي. وتتعافى البلاد من حرب دامية دامت أكثير من عامين نتيجة المواجهة بين الحكومة الفيدرالية الإثيوبية ومتمردي "الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي". وتتعامل مع الانشقاقات العرقية والديون وغيرها. وكانت الولايات المتحدة مساهمًا مهمًّا في مساعدات الإغاثة المقدمة للبلاد كي تتخطى أزمة ندرة الغذاء التي تعزوها واشنطن إلى الحرب والجفاف القاسي في شرق إفريقيا والصراع الروسي مع أوكرانيا والحصار الجزئي لموانئ البحر الأسود.

على أنه بالرغم من أن إثيوبيا من البوابات الرئيسية للولايات المتحدة للانخراط في المنطقة حيث غالبًا ما تدعم أديس أبابا مبادرات واشنطن لمعالجة القضايا الأمنية في شرق إفريقيا، بما في ذلك إرسال آلاف الجنود إلى عملية للاتحاد الإفريقي لمكافحة "حركة الشباب" الإرهابية في الصومال؛ إلا أن العلاقة بين الجانبين، الإثيوبي والأميركي، توترت مؤخرًا بعدما اتهم المسؤولون الأميركيون الحكومة الفيدرالية الإثيوبية وحلفاءها المقاتلين ضد متمردي "تيغراي" بارتكاب جرائم شملت التطهير العرقي، وهو ما أدى إلى إيقاف واشنطن في العام الماضي الدخول الخاص للمنتجات الإثيوبية إلى السوق الأميركية وفق مبادرة "قانون النمو والفرص في إفريقيا.

ويضاف إلى ما سبق أن لقاء "بلينكن" أثناء زيارة إثيوبيا قيادةَ البلاد ومناقشة ضرورة تنفيذ الاتفاقية الموقعة بين حكومة رئيس الوزراء "آبي أحمد" ومسؤولين من منطقة "تيغراي"، إلى جانب لقائه مع "موسى فقي محمد"، رئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، الذي توسط في تهدئة الصراع في إثيوبيا؛ كلها تصب في صالح واشنطن التي تسعى وراء جذب الدول الإفريقية إلى جانبها في منافساتها الإفريقية والدولية. ومع ذلك تعتبر إثيوبيا -كغيرها من عدة الدول الإفريقية الأخرى- أقل اهتمامًا بالانحياز إلى جانب أي طرف في صراعات القوة الجيوسياسية، حيث تفضل معظم هذه الدول الإفريقية -بدلًا من ذلك- إقامة شراكات طويلة الأجل

لكسب منافع اقتصادية وتنموية. هذا بالإضافة إلى الخيارات الأخرى المتوافرة أمام هذه الدول، مثل تركيا وروسيا ودول الخليج العربية، والصين التي تعتبر إثيوبيا مركزًا مهمًّا لمبادرة الحزام والطريق مع وجود 400 مشروع بناء وتصنيع صيني داخل إثيوبيا تقدر قيمتها بأكثر من 4 مليارات دولار.

ومن المتوقع أن تكون النيجر -التي زارها "بلينكن" أيضا - ضمن الإستراتيجيات الرئيسية الأميركية للدخول في الساحل؛ إذ هناك إشارات واضحة على أن واشنطن وحلفاءها مثل فرنسا وألمانيا وغيرها في الاتحاد الأوروبي تعتمد على النيجر لتكون بوابتها في المشاركة الفعالة في قضايا مثل انتشار الحركات الإرهابية وتصاعد سيطرة المجالس العسكرية على السلطة والذي أصبح القاعدة المهمة لتقوية الوجود الروسي في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.

وفي غانا، أعلنت "هاريس" عن 100 مليون دولار مساعدات أمنية لتعزيز قدرات دول غرب إفريقيا على صد تهديدات الإرهابيين الذين يحاولون الزحف من مالي وبوركينا فاسو نحو دول ساحل خليج غينيا مثل بنين وتوغو وساحل العاج وغانا. وتفاعلت "هاريس" أيضًا مع وفد من حوالي 60 من قادة الأعمال والثقافة في الولايات المتحدة الأميركية الذين جاؤوا إلى غانا وحضروا مأدبة رسمية في العاصمة، أكرا، بدعوة من الحكومة الغانية، بالإضافة إلى إعلان عدد من الاستثمارات الجديدة بين القطاعين العام والخاص، مع حشد حوالي مليار دولار من الاستثمارات بهدف إدخال المزيد من النساء الإفريقيات في الإنترنت ودعم سيدات الأعمال الإفريقيات والاستماع إلى التحديات التي تواجههن في مجالاتهن المختلفة.

إعادة جدولة الديون

لقد طغى موضوع إعادة جدولة الديون على هموم الكثير من الحكومات الإفريقية منذ السنوات الثلاث الماضية. وفي حين فاقمت أزمة كوفيد-19 هذه القضية، فإن معظمهما أيضًا يرتبط بالصين التي تُعَد أكبر مقرض ثنائي وأكبر شريك تجاري لإفريقيا؛ حيث كشف تقرير أن الصين تجاوزت الولايات المتحدة في عام 2009 وارتفعت تجارتها الثنائية مع إفريقيا بنسبة 11 في المئة لتصل إلى 282 مليار دولار أميركي، في عام 2022. وفي العام نفسه بلغ حجم التجارة بين الولايات المتحدة وإفريقيا 72.58 مليار دولار أميركي.

وكان موقف الولايات المتحدة ودول غربية أخرى أن الصين تثقل الدول الإفريقية بالديون المتراكمة غير المستحقة. وزادت المخاوف في عام 2020 عندما تخلفت زامبيا عن سداد ديونها الخارجية خلال فترة وباء كوفيد-19. ومنذ ذلك العام تُجري الدول الإفريقية، بما في ذلك زامبيا وغانا، مناقشات مع الصين ومقرضين آخرين لإيجاد صفقة لإعادة هيكلة ديونها. كما أن واشنطن أبدت استعدادها لتكون شريكًا في معالجة هذه القضية التي ستستثمرها في سبيل تحدي الصين في القارة. وأثناء وجودها في غانا وزامبيا، كشفت "كامالا هاريس" أن الولايات المتحدة ستضغط من أجل تخفيف عبء الديون عن الدول الإفريقية المتعثرة.

عامل الموارد الإفريقية

لا يمكن تجاهل حقيقة أن للولايات المتحدة الأميركية -كغيرها من القوى والأطراف الدولية الأخرى- مصلحة في ثروات إفريقيا، على الرغم من مزاعم الديمقراطية والقيم الأخلاقية التي تتغني بها واشنطن وتنتقد من خلالها الصين وروسيا في إفريقيا. واتضحت هذه النقطة في الزيارات الأميركية الأخيرة، وخاصة زيارة نائبة الرئيس الأميركية "هاريس" إلى تنزانيا وزامبيا، وهما من الدول الإفريقية الغنية بالموارد والمعادن التي تتطلع إليها الولايات المتحدة لإنعاش اقتصادها وتغذية صناعة السيارات الكهربائية في القرن الحالي.

وفي يناير/كانون الثاني الماضي، وقَّعت وزارة الخارجية الأميركية مذكرة تفاهم مع الكونغو وزامبيا وتعهدت مع الوكالات الأميركية الأخرى بمساعدة الدولتين في بناء سلسلة توريد بطاريات السيارات الكهربائية والتعاون في دراسات الجدوى واستكشاف الفرص في القطاع للشركات الأميركية. وقد فسر الكثيرون هذه الخطوة الأميركية بأنها مع قدرتها على تحويل الكونغو وزامبيا من مجرد موقعين لاستخراج المعادن إلى مركزين لمعالجة البطاريات وتصنيعها وتجميعها؛ إلا أنها أيضًا بمنزلة ضربة أميركية للصين وخطة استباقية لتفادي ما يُتوقع من نقصٍ في المعادن اللازمة الذي قد يبطئ خطة انتقال الولايات المتحدة إلى السيارات الكهربائية وغيرها من التقنيات منخفضة الكربون.

تعزيز مرونة المناخ

هيمنت على الجولات الأميركية الأخيرة أيضًا مزاعم الاستعداد الأميركي لمساعدة الدول الإفريقية على تعزيز المرونة والتكيف والتخفيف من آثار تغير المناخ في جميع أنحاء إفريقيا. وفي زامبيا، أعلنت "هاريس" عن حزمة من التزامات القطاع الخاص الأميركي التي تزيد قيمتها عن 7 مليارات دولار بهدف دعم جهود مواجهة تغير المناخ.

على أن مسؤولين أفارقة رغم أنهم أكدوا ضرورة التعامل مع القضايا المناخية إلا أنهم كشفوا عن أن أولوياتهم في الوقت الراهن هي مكافحة الإرهاب والتجارة والاستثمار لتنفيذ مشاريع البنى التحتية اللازمة ومعالجة عبء الديون العالقة الذي يصعِّب الإصلاحات النقدية والاستمرار وإعادة هيكلة الاقتصاد. وقد أصر القادة الأفارقة على النفاق الغربي فيما يتعلق بالالتزامات والضغوطات الغربية تجاه إفريقيا حول التعامل مع تغير المناخ رغم أن القارة ليست مصدرًا مهمًّا لانبعاثات غازات الاحتباس الحراري.

وتُلاحَظ المواقف الإفريقية أيضًا من خلال انتقاد مسؤولي الدول الإفريقية غياب نظرائهم الغربيين في الاجتماعات الهادفة إلى معالجة القضايا المناخية وبحث تمويل التكيف مع ظاهرة الاحتباس الحراري. وفي العام الماضي، انتقد زعماء نيجيريا وأوغندا والسنغال الحكومات الغربية، خاصة في أوروبا وأميركا الشمالية، لقطعها التمويل عن مشروعات الغاز بدعوى التقليل من حرق المزيد من الوقود، وفي الوقت نفسه تحاول هذه الحكومات الغربية استيراد أكبر قدر ممكن من الغاز الإفريقي، كما عادت أوروبا إلى حرق الفحم عندما بلغت أزماتها الغازية مع روسيا ذروتها.

خاتمة

من خلال العرض السابق يمكن القول بأن الولايات المتحدة تخطط لعودتها إلى القارة بعناية وأنها مستعدة لاستغلال الفجوات الناتجة عن العلاقات الإفريقية-الصينية والروسية وفشل علاقات واشنطن السابقة مع القارة. ومما قد يساعد الولايات المتحدة في إستراتيجياتها الجديدة أنه رغم تراجع التصور الإفريقي الإيجابي تجاهها؛ إلا أن الزيارات المكثفة والمبادرات التجارية والاجتماعية المختلفة قد تحسِّن هذا التصور وخاصة لدى مواطني الدول الإفريقية التي تطبق النظام الديمقراطي أو الأنظمة السياسية الشبيهة بالولايات المتحدة.

وأخيرًا، فإن حجم إفريقيا وسكانها وتنوعاتها واختلاف مطالب شعوبها حسب خواص كل دولة فيها؛ يعني أن كل قوة أو طرف دولي سيجد في القارة شريكًا للتعاون وجمهورًا خاصًّا لأجنداته؛ الأمر الذي يصعِّب على أي طرف احتكار علاقاته مع القارة. ومع ذلك، فإن الأكثر أهمية من الزيارات والجولات هو ما إذا كانت الولايات المتحدة ستتجاوز مرحلة إعلان السياسات الجديدة فَتَفِي بتعهداتها وتوائم الأهداف والنهج الجديد ووسائل العمل من أجل المصالح المتبادلة طويلة الأجل بين الطرفين الأميركي والإفريقي.