تحظى الأزمة السودانية منذ اندلاعها في 15 أبريل 2023 باهتمام دولي واسع؛ بحيث أضحى الصراع متجاوزاً طرفيه الداخليين إلى أطراف دولية فاعلة تحاول لعب دور بارز في إنهاء الاقتتال الداخلي؛ وذلك عبر آلية الحوار السلمي وبدء المفاوضات التي ربما تفضي إلى تسوية نهائية للصراع الدائر في البلاد، وإن كان ذلك مستبعداً في ضوء إصرار كلٍّ من طرفي الصراع على حسم الصراع عسكرياً لإقصاء الطرف الآخر من المشهد السياسي برمته خلال المرحلة المقبلة.
وتدرك روسيا – كما يدرك الغرب المنافس لها – الأهمية الاستراتيجية للسودان في شرق أفريقيا؛ نظراً لما يتمتع به من مقومات تعزز التنافس الدولي على البلاد. وقد انعكس ذلك الاهتمام على الموقف الروسي من الصراع الداخلي الراهن الذي تمحور حول ضرورة وقف القتال، ودعم الحوار بين الطرفين المتحاربين في البلاد، لا سيما أن موسكو تمتلك جملة من المصالح الجيوستراتيجية في البلاد، بما في ذلك القاعدة البحرية المزمع تأسيسها، وقطاع الطاقة، واستكشاف اليورانيوم، وتطويق النفوذ الغربي في السودان والمنطقة.
اهتمام روسي
برغم انشغال موسكو بالعمليات العسكرية والتطورات الميدانية على الساحة الأوكرانية، أبدت اهتماماً بالتفاعل مع الصراع السوداني. ويمكن الإشارة إلى تطورات الموقف الروسي، سواء الرسمي أو غير الرسمي – الذي تعبر عنه مجموعة فاجنر– إزاء مجريات الأزمة السودانية منذ اندلاعها في منتصف هذا الشهر على النحو التالي:
1– سرعة رد الفعل الروسي تجاه الأزمة: فقد سارعت موسكو – من خلال سفارتها في الخرطوم – عقب اندلاع الصراع مباشرةً إلى الدعوة لضرورة الوقف الفوري لإطلاق النار في الخرطوم، وحل القضايا الخلافية بين طرفي الصراع من خلال المفاوضات. وتزامن ذلك مع لقاء ميخائيل بوجدانوف مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى الشرق الأوسط وأفريقيا ونائب وزير الخارجية، بالسفير محمد سراج السفير السوداني لدى موسكو؛ لمناقشة تطورات الأزمة السودانية.
2– المطالبة بالحل السلمي للصراع: تتبنى موسكو استراتيجية الحوار السلمي للأزمة السودانية؛ وذلك عبر دعوتها من خلال مندوبها الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، إلى تعاون دول الجوار السوداني من أجل وقف الصراع في مناطق القتال، والسعي نحو تهدئة الأوضاع في أقرب وقت.
3– نظرة إيجابية إلى الوضع السوداني: حيث ترى موسكو مؤخراً أن الوضع في الساحة السودانية قد أضحى أكثر هدوءاً برغم استمرار الصراع السوداني، وأنها تبحث مختلف الخيارات بشأن تطورات الأزمة. وهي النظرة الإيجابية نفسها عند بداية الصراع في يومه الأول؛ حيث أكدت السفارة الروسية عقب اندلاع المواجهات العسكرية مباشرة أن الصراع لن يدوم طويلاً وأن طرفيه سوف ينخرطان في المفاوضات خلال ساعات، وهو ما لم يحدث إلى الآن.
ومع ذلك، تتردد موسكو حول تنفيذ عمليات الإجلاء الجوية للجالية الروسية المقيمة في السودان – التي يبلغ عددها تحو 300 روسي منهم 140 أبدوا رغبتهم بالفعل في مغادرة البلاد – وذلك بسبب استمرار القتال في المناطق المحيطة بمطار الخرطوم، وتمديد حظر الطيران الجوي في البلاد حتى 30 أبريل الجاري، إضافة إلى وجود صعوبات لوجستية بشأن الإجلاء البحري عبر ميناء بورتسودان، بحسب تصريحات أندريه تشيرنوفول السفير الروسي لدى الخرطوم؛ وذلك قبل إجلائهم من بعض مناطق القتال إلى مقر السفارة الروسية في العاصمة الخرطوم.
4– انتقاد عدم التزام طرفَي الصراع بالهدنة: فقد انتقدت موسكو عدم التزام الطرفين المتحاربين بهدنة وقف إطلاق النار خلال الأيام الماضية، ووصفته بالسيئ، وهو ما يعكس إصرار طرفي الصراع على تصعيد المواجهات العسكرية دون النظر إلى الدعوات الدولية والإقليمية لتهدئة الصراع تمهيداً لتسويته نهائياً.
5– اتهام الغرب بالتورط في زعزعة استقرار السودان: وجَّهت موسكو أصابع الاتهام إلى القوى الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية، بالتورط في مفاقمة حالة عدم الاستقرار بالسودان. ويأتي ذلك في ضوء تبادل الاتهامات بين الطرفَين لتشويه صورتهما لدى الرأي العام الأفريقي خلال الفترة الأخيرة، وهو ما قد يعزز التوترات بينهما على الساحة الأفريقية.
6– وصم الغرب بالانتقائية وتدويل الأزمة: فقد سلَّط الإعلام الروسي الضوء على تحركات بعض القوى الدولية التي تعزز الاعتقاد بتفاقم الأزمة السودانية، وأنها أضحت أكثر سوءاً – وهو عكس الواقع بحسب الرؤية الروسية – وهو ما تعكسه عمليات الإجلاء للجاليات الأوروبية والأمريكية من السودان مؤخراً، إضافةً إلى اتهام قناة روسيا اليوم – في بعض تقاريرها الإعلامية – واشنطن بالانتقائية تجاه الأزمة؛ وذلك في ضوء إشارة تقارير أمريكية إلى استعداد إدارة الرئيس جو بايدن لفرض عقوبات جديدة على طرفي الصراع السوداني في حالة استمراره خلال الفترة المقبلة، بدلاً من العمل على تقريب وجهات النظر بينهما، فضلاً عن إجراء رئيس هيئة أركان الجيش الأمريكي اتصالاً هاتفياً بالجنرال عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة الانتقالي السوداني، في إشارةٍ إلى احتمال وجود دعم أمريكي للمؤسسة العسكرية السودانية على حساب قوات الدعم السريع بقيادة الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي).
7– رفض مجموعة “فاجنر” الاتهامات بالتورط: جاء موقف قوات فاجنر الروسية الأمنية الخاصة – التي تمثل ذراعاً عسكرية أساسية للسياسة الخارجية الروسية – حاسماً بتأكيد عدم تورطها في الصراع السوداني الداخلي، خاصةً مع تصاعد الاتهامات الغربية لها بالتورط في تأجيج الأزمة منذ اندلاعها، لا سيما أنها توجد في البلاد منذ ستة أعوام في 2017، وارتبط وجودها بحماية مناجم الذهب في مناطق إنتاجه، وهو ما سمح لها بإقامة روابط قوية بقوات الدعم السريع، لا سيما مساعدتها في التدريب والتجهيزات العسكرية، حتى إن تقريراً لصحيفة The Hill الأمريكية قد كشف عن 16 رحلة جوية روسية لتهريب الذهب من السودان خلال الفترة بين فبراير 2022 ويوليو 2022؛ وذلك برغم نفي الدعم السريع وجود أي صلة بينهما في خضم تفاقم الصراع الراهن.
وفي هذا الصدد، اتهمت تقارير غربية مجموعة “فاجنر” بالتورط في تزويد قوات الدعم السريع بصواريخ من نوع “أرض–جو”، كما أشارت صحيفة واشنطن بوست إلى تلقي قوات الدعم السريع أيضاً دعماً لوجستياً من بعض الأطراف الليبية المقربة من فاجنر عبارة عن 30 ناقلة وقود وشحنة من الإمدادات العسكرية.
8– إعلان “بريجوجين” استعداده التوسُّط بين طرفَي الصراع: في إطار محاولات مجموعة “فاجنر” إبطال الاتهامات الغربية بالانخراط في الصراع السوداني، وتأكيد أنها تقف على مسافة واحدة من طرفي الصراع الذي لم يُحسَم بعد ويصعب التكهُّن بمن سيحسمه؛ أرسل يفجيني بريجوجين قائد قوات فاجنر، رسالة مفتوحة إلى طرفي الصراع في السودان معلناً استعداده للوساطة بين الجانبَين لوقف إطلاق النار.
وعرض “بريجوجين” إرسال طائرات محملة بالمساعدات الإنسانية للمتضررين من الصراع، فيما وجه اتهامات إلى عدد من القوى والمؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة، بتأجيج القتال في الداخل السوداني. كما أشار بيان لفاجنر صدر في 19 أبريل الجاري إلى نفي وجود أي صلة تربطها بأعمال العنف في السودان، لدرجة أنها أكدت عدم وجود أي عناصر تابعة لفاجنر في البلاد منذ عامين، وهو ما أكده بريجوجين في مقابلته مع صحيفة Jeune Afrique حينما ذكر أنه لا يوجد مقاتل واحد من فاجنر في السودان؛ وذلك في محاولة لقطع الطريق أمام أي محاولات لتشوية صورة موسكو بالتورط في الصراع أو اتهامها من قبل الغرب بدعم طرف على حساب آخر في الداخل السوداني، على الأقل في المرحلة الراهنة.
ورغم ذلك تظل قوات فاجنر ورقة رابحة وسلاحاً مهماً في يد موسكو للتدخل في أي وقت في الصراع السوداني حال تفاقمه من أجل مساندة طرف يحقق المصالح الروسية الاستراتيجية في الداخل السوداني، خاصةً أن هناك إدراكاً روسيّاً بأن السودان مفتاح استراتيجي لها من أجل التغلغل في العمق الأفريقي بالساحل وغرب أفريقيا.
دلالات جوهرية
يحمل الموقف الروسي تجاه الصراع في السودان عدداً من الدلالات يمكن إجمالها فيما يلي:
1– استبعاد النمط التدخلي: وذلك من خلال الحفاظ على علاقة متوازنة بين طرفَي الصراع – على الأقل في المرحلة الحالية – فمن مصلحة روسيا هيمنة أحد طرفي الصراع على السلطة في الداخل السوداني، لا سيما أنها ترتبط بعلاقات جيدة مع الطرفين، دون الاهتمام كثيراً بالمشروع الغربي الذي يركز على تحقيق الديمقراطية في السودان، وهو ما قد يمهد الطريق أمامها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية في البلاد، التي تعزز بدورها النفوذ الروسي في المنطقة.
2– حماية المصالح الروسية الاستراتيجية: وهي مرتبطة بشكل أساسي بالحصول على موطئ قدم استراتيجي لموسكو في البحر الأحمر، من خلال التصديق على الاتفاقية التي وقعتها مع الخرطوم في عام 2020 بشأن إقامة مركز لوجستي بحري في ميناء بورتسودان يضم 300 فرد و4 سفن بحرية، وهي التي تضمن لها الاتصال بالعمق الأفريقي.
يُضَاف إلى ذلك، الحفاظ على ديمومة الاستثمارات الروسية في قطاع تعدين الذهب بالتعاون مع قوات الدعم السريع، وعدم تعطيل عمليات التنقيب عن الذهب من خلال شركة Mero Gold التابعة لشركة M–invest، خاصة أن السودان يعد ثالث منتج للذهب في القارة الأفريقية.
فيما يمثل السودان سوقاً مهمةً لبيع السلاح الروسي؛ حيث حصل على 50% من أسلحته من موسكو في عام 2017، مع إمكانية توسيع رقعة انتشار السلاح الروسي على المستوى الإقليمي في الساحل وغرب أفريقيا.
3– دعم نفوذ “فاجنر”: ترغب موسكو في تحسين صورة فاجنر على الصعيدين السوداني والأفريقي؛ بهدف إضفاء شرعية على وجودها في القارة لدى الرأي العام الأفريقي، خاصةً أنها تسهم من خلال استثماراتها في مجال تعدين الذهب في تخفيف حدة العقوبات الغربية على موسكو الناتجة عن الأزمة الأوكرانية الراهنة.
4– الحفاظ على السودان باعتباره نقطة ارتكاز إقليمي: ترغب روسيا في تعزيز حضورها في السودان باعتباره حلقة اتصال استراتيجية يمكنها الارتكاز عليها في ربط المصالح الروسية في منطقتي القرن الأفريقي – بما في ذلك البحر الأحمر – والساحل اللتين تمثلان أهمية جيوسياسية بالنسبة إلى موسكو، التي تنشط بشكل إيجابي خلال الفترة الأخيرة في عدد من الدول الأفريقية، مثل إثيوبيا وإريتريا ومالي وبوركينا فاسو وأفريقيا الوسطى.
5– موازنة النفوذ الغربي: تسعى موسكو إلى مواجهة المساعي الغربية والأمريكية لتقويض النفوذ الروسي في أفريقيا خلال الفترة الأخيرة، في ضوء تنامي القلق من تزايد الدور الروسي في عدد من المناطق الاستراتيجية؛ لذلك تصر موسكو على عدم ترك فراغ استراتيجي في الساحة السودانية للقوى المناهضة لها.
وإجمالاً، ربما يتطور الموقف الروسي وفقاً لتطورات الصراع في الداخل السوداني؛ فمن المرجح استدعاء فاجنر للانخراط في الأزمة من أجل حماية المصالح الروسية وعدم تقويضها، خاصةً أن موسكو لن تتنازل عن نفوذها في السودان لصالح منافسيها الدوليين؛ وذلك بهدف تحقيق أهدافها الاستراتيجية في البحر الأحمر بإقامة قاعدة بحرية ببورتسودان، بجانب الأهداف الاقتصادية لتخفيف حدة العقوبات المفروضة عليها بسبب حرب أوكرانيا التي تحتاج إلى تمويل مادي أيضاً، وإن كان ذلك مرهوناً بحسم الصراع لصالح الطرف المدعوم روسيّاً، وهو أمر به مخاطرة كبيرة؛ ما يجعل سيناريو انخراط موسكو في لعب دور وساطة بين طرفي الصراع هو الأكثر برجماتيةً؛ لكونها ستحافظ على مسافة واحدة من طرفَي الصراع، وفي حالة نجاح الوساطة سوف تعزز موسكو نفوذها الذي يُمهِّد لها تنفيذ جميع مخططاتها الاستراتيجية في السودان والمنطقة بما في ذلك تسهيل الحصول على القاعدة البحرية في بورتسودان.