بجانب الاهتمام الشديد بمعارك الجو والفضاء، لا يزال سلاح البحرية محل اهتمام شديد فيما يتعلق باستراتيجيات تطوير المعدات والأسلحة الحربية لدول العالم، خاصةً في ظل ارتباط مواقع التوتر العالمي الحالية والمتوقعة مستقبلاً بمسارح عمليات بحرية، وزيادة الخلافات بين الدول على الحقوق والنفوذ البحريَّين، مثلما هو الحال – على سبيل المثال – في مناطق الهندوباسيفيك، وبحر الصين الجنوبي، وبحر الصين الشرقي، وبحر قزوين، والبحر المتوسط، بالإضافة إلى المنطقة الأوروبية، وأجزاء أخرى من آسيا، فضلاً عن أن استراتيجيات تطوير القطع البحرية ترتبط باستراتيجيات تطوير المعدات العسكرية ورفع كفاءة القوات المسلحة وأسلحتها بوجه عام لمواجهة التحديات والتهديدات الاستراتيجية لمختلف الدول.
وتستغرق عمليات التخطيط لتطوير سلاح البحرية وتنفيذها واستخدامها سنوات وعقوداً؛ لذلك تسعى الدول إلى الاتفاق على عمليات التخطيط الجديدة لتطوير سلاح البحرية ومعدات القتال البحري؛ لتحديد الاحتياجات المستقبلية، وتنشيط عمليات التخطيط الاستراتيجي البعيدة المدى للخدمات العسكرية البحرية مبكراً؛ بسبب الأطر الزمنية الطويلة للمنصات والأنظمة البحرية؛ حيث يمكن أن تمتد من التصميم إلى الإرسال الميداني إلى عمر الخدمة حتى سبعة عقود، وهو ما يضع بعض التحديات المرتبطة بالتنبؤ بالاحتياجات والبيئة البحرية المستقبلية. وبوجه عام، يمكن استعراض اتجاهات تطوير القطع البحرية في المستقبل على أكثر من مستوى ومحور، بدايةً من البناء والتشغيل، مروراً بالصيانة، والتخفي والدفاع، والهجوم.
البناء والصيانة
يمكن تناول اتجاهات تطوير القطع البحرية في مراحلها الأولى على مستوى عمليات تصميم وبناء وتشغيل السفن والقطع البحرية وكذلك صيانتها؛ وذلك على النحو التالي:
1. تصميم السفن الجديدة باستخدام الذكاء الاصطناعي: يمكن الاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي في عمليات تصميم وبناء السفن الجديدة، وقد بدأت بعض الدول في العمل فعلاً على الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في هذا المجال؛ فعلى سبيل المثال، أعلن فريق بحثي ممول من الجيش الصيني، في مارس 2023، أنه استخدم الذكاء الاصطناعي في تصميم النظام الكهربائي لسفينة حربية بسرعة ودقة غير مسبوقَين؛ حيث يستغرق الأمر يوماً واحداً تقريباً باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي بدلاً من عام كامل كانت تحتاجه تلك العمليات باستخدام العناصر البشرية وأجهزة الكمبيوتر الحديثة؛ إذ تستطيع التقنيات الجديدة القيام بنحو 400 مهمة مختلفة.
كما حقق النموذج درجة دقة بنسبة 100%، في حين أن عملية تصميم السفن الحربية الحديثة لا تخلو عادةً من بعض الأخطاء التي يتم اكتشافها وتصحيحها. ورغم أن فاعلية مصمم الذكاء الاصطناعي الصيني لم تثبت حتى الآن إلا في تخطيط الأنظمة الكهربائية، فإن من المحتمل أن تكون دول أخرى نجحت في تطوير أنظمة مماثلة وأكثر شمولاً، ولم تكشف عنها بسبب اعتبارات السرية العسكرية، أو أن تنجح قريباً في الوصول إلى أنظمة أكثر ذكاءً وكفاءةً تساعد في عمليات تصميم السفن الجديدة بشكل أوسع.
2. بناء القطع البحرية خارج المياه بشكل أكبر: يتجه بعض مُصنعي القطع البحرية إلى زيادة نسبة البناء خارج المياه باعتبار أن المزيد من البناء خارج الماء يكون أكثر كفاءةً ويوفر وصولاً أفضل للسفينة؛ ولذلك فإن الفرقاطة الأمريكية الجديدة من طراز “كونستليشن”، على سبيل المثال، لن يتم إطلاقها إلى الماء عند اكتمال 70% من عملية بنائها مثل السفن القتالية الساحلية، بل سيتم بناء الأبراج بنسبة 90% على الأقل قبل نقلها إلى الماء عبر رافعة.
3. استخدام آليات الدفع الكهربائي المتكامل: تتجه بعض الدول، في بناء وتصميم القطع البحرية، إلى استخدام تقنيات الدفع الكهربائي المتكامل لتشغيل تلك القطع البحرية؛ حيث تولد توربينات الغاز أو مولدات الديزل أو كلتاهما، كهرباء ثلاثية المراحل يمكن استخدامها لتشغيل المحركات الكهربائية التي تُدير المراوح أو النفاثات المائية. ويستخدم النظام ناقل الحركة الكهربائي بدلاً من ناقل الحركة الميكانيكي؛ ما يلغي الحاجة إلى القوابض، ويقلل أو يلغي استخدام صناديق التروس أو علب السرعة، وهو ما يحقق عدداً من المزايا؛ منها تقليل الوزن والحجم والضجيج. وبالفعل تستخدم بعض السفن الحربية مثل “HMS Queen Elizabeth of Royal Navy”، و”Zumwalt Class Destroyers” التابعة للبحرية الأمريكية آليات الدفع الكهربائي المتكامل.
4. استخدام الذكاء الاصطناعي في التنبيه المبكر لمشكلات التشغيل: من أجل إبقاء السفن في البحر لفترة طويلة، وعمل أنظمتها بكفاءة طوال مدة العمليات البحرية، تعمل الدول على دمج بعض التقنيات الجديدة التي يمكن أن تنبه قادة القطع البحرية المختلفة إلى احتمالات ظهور مشاكل غير متوقعة أثناء عمل السفينة أو الغواصة، والاستفادة من تحليلات بيانات الأنظمة والتشغيل لتوقع متطلبات الصيانة والتحديث التي تترجم بعد ذلك إلى حزم وخطط عمل محددة يتم تنفيذها من قبل أطقم التشغيل والصيانة وتغيير ما يلزم تغييره من قطع الغيار. وتزداد أهمية تلك التقنيات في المعرفة المسبقة بتعطل أحد الأنظمة المهمة بالقطع البحرية، بدلاً من التفاجؤ بذلك وإصلاح المشكلات بعد حدوثها، وفي جعل الأطقم البحرية أكثر درايةً ودقةً فيما يتعلق بتوقيت ومكان الصيانة، وما تحتاجه السفن والغواصات.
ورغم أن القطع البحرية المتطورة حالياً تمتلك بالفعل تقنيات استشعار وأجهزة إنذار للتنبيه عند الحاجة إلى صيانة أو وجود خلل، فإن الاتجاهات الجديدة ترمي إلى الاستفادة من القدرات الأكثر تقدماً، مثل الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي وتحليلات البيانات؛ بحيث يجري تطبيق الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي على المعلومات التي تجمعها أجهزة الاستشعار، ثم الاستفادة من قوة تحليلات البيانات لتمكين الصيانة التنبؤية؛ ما يحد من احتمالات حدوث توقف أو أعطال غير مخطط لها، ويقلل وقت الصيانة؛ الأمر الذي يفيد في حالات ضرورة فصل الأنظمة عن الإنترنت لإجراء الصيانة.
5. تزويد السفن بطابعات لطبع قطع الغيار اللازمة: بدأت بعض الدول تزود سفنها وقطعها البحرية بطابعات ضخمة تستخدم معادن سائلة لتصنيع الأجزاء المعدنية التي قد تحتاجها في البحر، مثل طابعة “ElemX” الموجودة على سفينة “USS Essex” التي تطبع قطع الغيار من الألومنيوم، وتستهلك أسلاك الألومنيوم كمادة خام، بحيث تكون أشبه بمصنع صغير في السفينة.
وتحتاج القدرة على تشغيل الطابعة إلى برنامج تدريبي لمدة 3 أيام للعمالة المفترض أن يقوموا بتلك المهمة. ولكن ثمة تحديات قد تواجه عملية الطباعة أثناء سير السفينة في البحار، مثل الاهتزازات التي قد تؤثر على عملية الطباعة، والمناخ؛ ولذلك يتم وضع الطابعة داخل صندوق كبير. وتساعد تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد على تحقيق الاكتفاء الذاتي للقطع البحرية من حيث توافر قطع الغيار، والسرعة والمرونة في عمليات إصلاح الأعطاب وصيانة المعدات.
وبخلاف الحالات الاضطرارية، تساعد تقنيات الطباعة الثلاثية الأبعاد على معالجة أزمات سلاسل التوريد، وتوفير القطع اللازمة عند بناء أو صيانة السفن على الشاطئ بشكل أسرع؛ حيث تشير تقديرات إلى أن تلك التقنيات تساعد على تخفيض الجدول الزمني لبعض المكونات التي تحتاجها أحواض بناء السفن بنسبة 50% أو 60%، وتصل بالنسبة إلى قطع أخرى إلى 95%.
6. قيام الروبوتات والذكاء الاصطناعي بمهام الصيانة: لا يتوقف توظيف التكنولوجيا وتقنيات الذكاء الاصطناعي على الجوانب المتعلقة بتوقع الأعطال واكتشافها وتحليل البيانات، بل يمكن أن تلعب الروبوتات والتقنيات الذكية دوراً في أداء مهام وعمليات الصيانة نفسها.
وعلى سبيل المثال، تم اختيار شركة “Gecko Robotics” لتقديم تقييمات ودعم روبوتي متقدم لسفن حربية تابعة للبحرية الأمريكية، بحيث تقوم بتطوير نماذج رقمية لتلك السفن، مستفيدةً من الروبوتات ومنصة البرمجيات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي؛ من أجل زيادة سرعة وكفاءة دورات أعمال الصيانة، وتقليل مدة وساعات العمل لدورات الصيانة؛ حيث انخفض – على سبيل المثال – وقت فحص دفة السفينة من 11 يوماً إلى يوم واحد، كما وجدت البحرية الأمريكية أن تلك التقنيات زادت من توفير البيانات، وساعدت في تحديد العيوب التي لم يتم إبرازها من خلال الطرق التقليدية.
الاكتشاف والتخفي
يدور جانب كبير من المعارك البحرية حول قدرات الاكتشاف والتخفي، وتعزيز قدرات الرادارات من جهة وقدرات التخفي عنها من جهة أخرى، فضلاً عن تعزيز قدرات الرصد والتحليل لتحركات القطع البحرية في مسرح العمليات. وهذه الجوانب تشكل محوراً مهماً من محاور تطوير الأسلحة البحرية، وهو ما يمكن تناوله على النحو التالي:
1. تعزيز قدرات الرادارات على اكتشاف العدو: تلعب الرادارات دوراً رئيسياً في الحروب البحرية السطحية، وتعمل الدول على تعزيز قدرات الرادارات لتوسيع أفق الكشف إلى ما وراء حدود خط البصر. ولكن تواجه الرادارات العديد من التحديات؛ منها ما يتعلق بتطور قدرات وتقنيات التخفي عنها، ومواجهة الصواريخ الصغيرة المضادة للسفن التي تُحلِّق على ارتفاع منخفض.
وفي هذا الإطار، يبرز التوجه نحو الاعتماد على تقنيات البحث والتتبع بالأشعة تحت الحمراء (IRST) التي يمكن أن تخفف إلى حدٍّ ما الإنذارات الكاذبة التي تنشأ من استخدام الرادارات، والتعزيز من قدرات تلك التقنيات، وتلافي ثغرات الأجيال السابقة منها التي كانت تعاني من إشكاليات تتعلق بالإنذارات الكاذبة، وكيفية التعامل مع أهداف متعددة.
2. تحليل أنظمة الذكاء الاصطناعي لبيانات المراقبة: في الوقت الذي تجمع فيه المسيرات البحرية وأجهزة الاستشعار والرادارات بيانات حول مسرح العمليات البحري والقطع البحرية التابعة للخصوم، فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي يمكن أن تلعب دوراً متقدماً؛ ليس فقط في جمع تلك البيانات، بل في تحليلها أيضاً وتحسين مخرجات بيانات المراقبة؛ لتعزيز قدرة قادة البحرية على اتخاذ القرارات المناسبة؛ حيث يمكن أن يساعد الذكاء الاصطناعي على رصد وملاحظة التحركات غير الاعتيادية الواردة في البيانات التي تجمعها المسيرات وتقنيات المراقبة، والتي قد تفوت على المراقبين البشريين؛ وذلك بقدرة تلك التقنيات المعززة على رصد أمور تحتاج إلى انتباه أكبر.
3. التخفي عن أجهزة الرادار والمراقبة: تعد قدرة القطع البحرية الحربية على التخفي عن أجهزة الرادار والمراقبة، من أهم عوامل الدفاع وتعزيز قدرات الأمن والبقاء، فضلاً عن أنها توفر هامشاً للمناورة والمفاجأة في العمليات الهجومية، وهو ما يتم عبر جوانب تتعلق بالتصميم، وجوانب تكنولوجية أخرى تعزز قدرة القطعة البحرية على التخفي عن رصد الرادارات أو تغيير هويتها وحجمها. وتبرز في هذا الإطار السفن الشبحية التي رغم كبر حجمها وطولها، لا تكاد تظهر على أجهزة الرادار، وتكون أقرب إلى قوارب الصيد. وبجانب تغيير بعض التصميمات في هيكل المدمرات والسفن، فإنه يجري اقتباس تقنيات تكنولوجية مشابهة لتقنيات الطائرات الشبحية، مع وجود جوانب أخرى خاصة، مثل التهدئة الصوتية.
أسلحة نوعية
ربما يكون الجانب الأكثر بروزاً في استراتيجيات واتجاهات تطوير القطع البحرية، هو التطوير النوعي للقدرات الهجومية لتلك القطع والأسلحة والمعدات، وهو ما يمكن تناوله فيما يلي:
1. تزويد السفن البحرية بطائرات وأسلحة مسيرة: يساعد تزويد المدمرات والسفن الحربية بنظام أسلحة عن بعد وطائرات مسيرة على الحد من مخاطر التهديدات التي تتعرض لها السفن والفرقاطات العسكرية أثناء مواجهة الخصوم أو القيام بعمليات هجومية؛ حيث تسمح تلك التقنيات باستكشاف بيئة القتال، وتوفير نفوذ على مدى أكبر، وتحديد موقع التهديدات والتعامل معها من مسافة بعيدة؛ الأمر الذي يساعد أيضاً على الحفاظ على سلامة الأفراد العسكريين وليس القطع البحرية فقط.
2. استخدام صواريخ فرط صوتية مضادة للسفن: يعتبر التوجه نحو تطوير وتصنيع الصواريخ فرط الصوتية اتجاهاً رئيسياً في عمليات تطوير الصواريخ المتقدمة. ولا تعد القوات البحرية استثناءً من ذلك الاتجاه؛ حيث تعمل القوات البحرية على تطوير أسلحة هجومية مضادة للأسطح تفوق سرعة الصوت.
وعلى سبيل المثال، تعمل البحرية الأمريكية على تطوير نظام (HALO) كسلاح جوي طويل المدى عالي السرعة يوفر قدرة أكبر في الحرب المضادة للسطح، وتزويد حاملات الطائرات بالصاروخ الذي يمكن أن يغرق سفن العدو، مع الاستفادة من تطوير قوات الأسلحة والبرامج العسكرية الأخرى للصواريخ فرط الصوتية، مثل صاروخ “كروز” الأسرع من الصوت (HACM) التابع للقوات الجوية.
كما أجرت البحرية الهندية بنجاح، في مارس 2023، تجربة لإطلاق صاروخ أسرع من الصوت من طراز “براهموس” من سفينة في بحر العرب. كما اختبرت روسيا بنجاح، في يناير 2023، صاروخ “تسيركون” فرط الصوتي، الذي تم إطلاقه بنجاح من الفرقاطة الجديدة “الأدميرال جورشكوف”، وهو صاروخ تصل سرعته إلى 8 أضعاف سرعة الصوت، وبإمكانه التحليق لمسافة تتجاوز 1000 كيلومتر في 10 دقائق، ويمكن أن يحمل رؤوساً نووية، أو عادية شديدة الانفجار.
3. بحث إمكانات استخدام أسلحة الطاقة الموجهة: في حين تعتبر مخازن الذخيرة والأسلحة إحدى نقاط الضعف بالقطع البحرية التي توصف بأنها قنبلة موقوتة على ظهر تلك السفن، مع مخاوف من النجاح في استهدافها بالشكل الذي قد يُدمِّر السفن نفسها؛ يبدو استخدام أسلحة الطاقة خياراً جذاباً للقوات البحرية، دفع العديد من الدول إلى اتخاذ خطوات كبيرة في طريق تطوير أسلحة الطاقة بوجه عام وتسليح القوات البحرية بها مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين.
وفي حين أن بعض التقارير تنظر إلى بعض أسلحة الطاقة العالية الكفاءة على أنها خطط طموحة تحتاج المزيد من الوقت للتحقيق، وإلى تركيب أسلحة الطاقة على متن السفن البحرية كإشكالية تواجهها صعوبات توجيه حزمة طاقة مركزة من منصة متحركة؛ فإن مختبر أبحاث القوة الجوية الأمريكي AFRL)) يرى أن تقنيات الطاقة الموجهة يمكن أن يستغلها الجيش الأمريكي في المستقبل القريب. ومن المفترض أن توفر تلك الأسلحة فرصاً هامة في مسرح العمليات البحرية.
4. الاعتماد على أنظمة القتال والأسلحة الذكية: تزايد الاهتمام بأنظمة القتال البحرية الذكية، خاصة مع ما تتيحه تقنيات الحوسبة المتقدمة للأنظمة المستقلة والأسلحة الهجومية من قدرات متقدمة في عملية تحديد وضرب الأهداف المعادية وتحليل البيئة الاستراتيجية، خاصة أن عمليات صنع القرار القائمة على البيانات في الأنظمة البحرية تؤدي إلى تعزيز الجهود المبذولة للجمع بين الذكاء الاصطناعي والتحليلات والحوسبة السحابية.
ورغم أن بعض التقارير تشير إلى وجود تشكك داخل بعض عناصر القوات البحرية في أنظمة الأسلحة المستقلة؛ حيث يعتبر بعض قادة العمليات أن قرار تنفيذ إطلاق صاروخ ينبغي أن يظل قراراً حصرياً لفريق قيادة العمليات الذي يجب أن يعمل بشكل مستقل؛ فإن من الممكن أن توفر تلك الأنظمة الذكية على الأقل عاملاً مساعداً وداعماً لفريق العمليات لاتخاذ القرارات، أو أن توجَّه بشكل أولي نحو اتخاذ قرارات معينة شريطة اعتمادها من قبل قادة القوات البحرية. ومع تزايد معدلات الثقة بتلك الأنظمة الذكية، يمكن أن تلعب دوراً أكبر في عمليات القتال.
5. تطوير قطع بحرية غير مأهولة وغواصات مسيرة: مثلما هو الحال بالنسبة إلى المعدات العسكرية الأخرى كالدبابات والطائرات، فإن ثمة توجهاً نحو بناء سفن وغواصات ومدمرات وقطع بحرية غير مأهولة؛ لأكثر من سبب؛ منها ما يتعلق بالحد من المخاطر والتهديدات التي يتعرَّض لها أفراد الطواقم؛ حيث يمكن لطبيعة القطع البحرية المستقلة وشبه المستقلة أن تُبقي الأفراد على مسافة آمنة من المواقف الخطرة، ومن ثم يمكن إرسال تلك القطع للقيام بالمهام الشديدة الخطورة.
وفيما شهدت السنوات الأخيرة نشاطاً كبيراً في تطوير واستخدام الطائرات بدون طيار، فإن السنوات القادمة من المرجح أن تشهد نشاطاً متزايداً لموجة مماثلة فيما يخص المركبات والقطع البحرية غير المأهولة والذاتية القيادة؛ إذ سيزداد استخدامها في مهام المراقبة، فضلاً عن القيام ببعض المهام الهجومية، كما يمكن التحكم في تلك الزوارق والفرقاطات من مراكز القيادة على الشاطئ أو من خلال سفن قيادية مركزية في مسرح العمليات. وتعمل العديد من الدول بالفعل على تطوير غواصات مسيرة؛ حيث يعد ذلك من أبرز الاتجاهات الصاعدة في عمليات تطوير القطع البحرية.
6. استمرار أهمية الغواصات النووية في استراتيجيات الردع: تعد الغواصات النووية من أبرز القطع البحرية الاستراتيجية المتوقع استمرار الاعتماد عليها وزيادة الاستثمارات الموجهة لها، سواء في الدول التي تمتلك تلك القدرات، أو في الدول التي تتطلع إلى امتلاكها. وتنص استراتيجية البحرية الأمريكية “Force Design 2045” على أن القوات البحرية يجب أن تحافظ على رادع نووي، مؤكدةً أهمية الحفاظ على أسطول الغواصات الباليستية المسلحة نووياً، والغواصات الهجومية التي تعمل بالطاقة النووية.
كما يشير اتفاق “أوكوس” إلى احتمالية مشاركة القدرات النووية البحرية مع الدول غير النووية، مثلما هو الحال مع أستراليا التي ستحصل على غواصات تعمل بالطاقة النووية بموجب هذا الاتفاق، كما أعلنت بريطانيا، في فبراير 2023، أنها بدأت العمل على تطوير الغواصة النووية الثالثة من فئة “Dreadnought” كغواصة مصممة لحمل الصواريخ العابرة للقارات من فئة D–5. وأجرت كوريا الشمالية، في أبريل 2023، تجربة على غواصة مسيرة هجومية ذات قدرات نووية تسمى “هايل–2″، وهي الغواصة التي قالت إنها قادرة على شن هجوم نووي يمكنه التسبب في بتسونامي إشعاعي واسع النطاق عبر انفجار تحت المياه.
احتياجات المستقبل
ختاماً، في الوقت الذي يمكن فيه القول بوجود اتجاهات واضحة لمستقبل تطورات الأسلحة البحرية، فإن ثمة جوانب لا زال يحيط بها الجدل. ويختلف القادة العسكريون البحريون حول طبيعة دورها المستقبلي ومدى الحاجة إليها، مثل ما يتعلق بالسفن البرمائية؛ فبينما شهدت السنوات الأخيرة ضغوطاً لتقليل الاعتماد على السفن البرمائية بل إخراجها من الخدمة مع الحديث عن تراجع دورها في القتال المستقبلي؛ يرى آخرون أهمية بقائها وزيادة أعدادها، خاصةً لدورها غير الحربي الذي يمكن أن تلعبه، مثلما هو الحال في سيناريوهات الاستجابة للأزمات والكوارث. كما أن جانباً من الجدل حول مستقبل الأسلحة البحرية الواجب توجيه الاستثمارات نحوها، لا يتعلق بطبيعة الأسلحة والتطوير المنشود فقط، بل يرتبط أيضاً بطبيعة البيئة الاستراتيجية ومسرح العمليات محل الاهتمام.