ستستمر عمّان بحكم الضرورة في السعي وراء الاستثمار الصيني المباشر لأغراض مختلفة، لكن رفضها لشركة "هواوي" يعكس مخاوف الولايات المتحدة بشأن مشاركة بكين في القطاعات الحساسة.
في الأسبوع الماضي، وقّعت شركة الاتصالات الأردنية "زين" عقداً مع شركة "نوكيا" لنشر شبكات الجيل الخامس (5G) في المملكة، بينما وقع اختيار الشركة المحلية الأخرى لخدمات الهاتف الخلوي، "أمنية"، على شركة "إريكسون". أما شركة "أورانج"، وهي شركة ثالثة لأجهزة الإنترنت للهاتف المحمول في الأردن، فلم تكشف بعد عن مزود خدمات الجيل الخامس الذي ستختاره للكثير من الأسواق، ولكن على غرار منافستَيها، يبدو أن الشركة تميل أيضاً إلى اختيار شركة سويدية أو فنلندية متعددة الجنسيات لتوفير التغطية لمستخدمي خدماتها.
والواقع أنّ زجر شركة الاتصالات الصينية العملاقة "هواوي" سيخيب آمال بكين. ولا تقتصر الأسباب على كون الأردن مشاركاً في "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، ووجهةً تستقطب بصورة أكثر الاستثمارات الأجنبية المباشرة من الصين، بل أن "هواوي" قدّمت أيضاً الشبكة الأساسية لخدمات الجيل الثاني والثالث والرابع في الأردن.
ومن المؤكد أن بكين ستلقي باللوم على الضغط الأمريكي في استبعاد شركة "هواوي" من أسواق المملكة. ولا شك أن عمّان أدركت أنه سيكون من الصعب عليها الحفاظ على التعاون الاستراتيجي الوثيق مع واشنطن وحسن نية الكونغرس الأمريكي، الذي يزود النظام الملكي حالياً بمساعدات مالية تبلغ قيمتها 1.6 مليار دولار سنوياً، إذا استخدم الأردن شركة "هواوي" لتوفير خدمات الجيل الخامس في البلاد. وربما أدركت عمّان أيضاً، على غرار واشنطن، أن الشركات في الصين مدينة بالفضل للحكومة، وبالتالي فإن شبكات عبور البيانات المدعومة من "هواوي" معرضة للخطر بطبيعتها.
ولكن بصرف النظر عن الموقف الأمريكي، كان لدى المملكة أسباب أخرى للحذر من هذا الاستثمار الصيني الحساس بشكل خاص. فعلى غرار الكثير من الدول الأخرى، يجد الأردن نفسه عالقاً في فخ الديون الصينية.
فالمملكة الهاشمية تواجه منذ تأسيسها في عام 1946 صعوبات كبيرة في تسديد ديونها. وفي حين أن استراتيجية الملك عبد الله الثاني لإخراج الأردن من هذا المستنقع تعتمد على جذب المليارات من الاستثمار الأجنبي المباشر، أصبح الأردن بفعل هذه الديناميكية - وواقع كونه الشريك العربي الأكثر موثوقية تقليدياً لواشنطن - هدفاً يجذب الاستثمارات الصينية.
ففي عام 2015، وقّعت المملكة الهاشمية اتفاقيات تزيد قيمتها عن 7 مليارات دولار مع "المملكة الوسطى" (الصين)، من بينها صفقة لتمويل "مشروع العطارات" الأردني الذي يعدّ ثاني أكبر مشروع لاستخراج الطاقة من الصخر الزيتي في العالم. ويمثل الاستثمار الذي تبلغ قيمته 1.6 مليار دولار أكبر مشروع تموله بكين بنسبة 100 في المائة ضمن "مبادرة الحزام والطريق".
ومع ذلك، لم يكن "مشروع العطارات" على قدر آمال الأردن. فعندما تم التوقيع على الاتفاق، تعطلت إمدادات الغاز الحيوية من خط أنابيب مصري بسبب الهجمات المتكررة للمتشددين الإسلاميين بينما كانت المملكة في حاجة ماسّةّ إلى الطاقة. ولكن، بعد أقل من خمس سنوات، وقّع الأردن مع إسرائيل عقداً مدته 15 عاماً بقيمة 10 مليارات دولار لتوفير الجزء الأكبر من الغاز الطبيعي في المملكة، والذي يوفر ما يقرب من 80 في المائة من الطاقة لتوليد الكهرباء.
وفي حين أوشكت أعمال بناء "مشروع العطارات" على الانتهاء، أصبحت المملكة تملك فائضاً من الطاقة، ولم تَعُد هناك حاجة إلى المنشأة. والأسوأ من ذلك أنه تبيّن أن شروط اتفاقية شراء الطاقة البالغة مدتها 30 عاماً بين بكين و"شركة الكهرباء الوطنية الأردنية" المملوكة للدولة، والمثقلة بالديون بشكل دائم، هي شروط استغلالية إن لم تكن جشعة وضارية. وتم أساساً افتتاح هذا المشروع المظهري لمحطة توليد الكهرباء جزئياً، وعندما يعمل بكامل طاقته، فقد يصل العجز في "شركة الكهرباء الوطنية" إلى ما يقدَّر بنحو 300 مليون دولار سنوياً.
وسعياً للإعفاء من فخ الديون الصينية، بدأت عمّان في عام 2020 إجراءات تحكيم في "غرفة التجارة الدولية" في باريس لمراجعة "الظلم الجسيم" في اتفاقية شراء الطاقة. ولا تزال نتائج التحكيم معلّقة، لكن فوز الأردن قد يكون باهظ الثمن. فإذا فازت عمّان - أو إذا تم استبعاد "هواوي" في النهاية من مناقصات الجيل الخامس في المملكة - فقد تسعى بكين إلى الانتقام من خلال سياساتها الاقتصادية القسرية المتزايدة. فقبل ثلاث سنوات بدأت الصين حرباً تجارية ضد أستراليا بسبب تجرؤها في طلب إجراء تحقيق في مصدر وباء "كوفيد-19".
وفي عصر المنافسة بين القوى العظمى، يمكن حتى لأقرب أصدقاء واشنطن - الذين تجذبهم الأموال الصينية السهلة - أن يجدوا أنفسهم عالقين في فخ الديون وفي مواقف صعبة. ولكن نظراً للحاجة الماسة إلى الاستثمار الأجنبي المباشر في المنطقة، لا تستطيع واشنطن إرغام أصدقائها على الاختيار ما بين الولايات المتحدة والصين. ويقيناً، أن استمرار التعاون الاستراتيجي الثنائي مع الولايات المتحدة يستلزم أن تحدد واشنطن بعض الخطوط الحمراء، لكن جميع الاستثمارات الصينية ليست متساوية. فالصفقة التي وقّعتها بكين في عام 2018 لشراء حصة تبلغ 28 بالمائة في "شركة البوتاس العربية" للأسمدة التي تمتلك ثالث أكبر رأس مال سوقي للمملكة في بورصة عمّان، أثارت قلقاً ضئيلاً في واشنطن، وعن وجه بحق.
وعلى الرغم من التعقيدات، سيواصل الأردن، بحكم الضرورة، سعيه وراء الاستثمار الأجنبي المباشر، بما في ذلك من الصين. ويتمثل التحدي الذي تواجهه واشنطن في تحديد التوقعات وفرضها، مع التسامح مع التعاملات الأقل أهمية من الناحية الاستراتيجية التي يقوم بها شركاؤها مع بكين. وبالنسبة لشركاء واشنطن والأردن الآخرين في العالم العربي، ممن يتطلعون إلى ممارسة الأعمال التجارية مع الصين، يجب الاتعاظ مما حصل في "مشروع العطارات" وتوخي الحذر.